فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واستشكل مع ما هنا، وأجيب بأن المراد هنا ما أتاهم نذير منهم من قبلك وإليه يشير كلام الكشف وهناك {إلاَّ خَلاَ فيهَا نَذيرٌ} منها أو من غيرها أو يحمل النذير فيه على الرسول، وفي تلك الآية على الأعم قال أبو حيان: في تفسير سورة الملائكة إن الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم والآيات التي تدل على أن قريشًا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم وآباءهم الأقربين وإما أن النذارة انقطعت فلا، نعم لما شرعت آثارها تندرس بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات فإن ذلك على حسب الفرض لا أنه واقع فلا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله عز وجل وعبادته انتهى.
وفي القلب منه شيء، ومقتضاه أن المنفي هاهنا إتيان نذير مباشر أي نبي من الأنبياء عليهم السلام قريشًا الذين كانوا في عصره عليه الصلاة والسلام قبله صلى الله عليه وسلم وأنه كان فيهم من ينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده بالنقل أي عن نبي كان يدعو إلى ذلك، والأول: مما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان بل لا ينبغي أن يتوقف فيه إنسان، والثاني: مظنون التحقق في زيد بن عمرو بن نفيل العدوي والد سعيد أحد العشرة فإنه عاصر النبي صلى الله عليه وسلم واجتمع وآمن به قبل بعثته عليه الصلاة والسلام ولم يدركها إذ قد مات وقريش تبني الكعبة وكان ذلك قبل البعثة بخمس سنين، وكان على ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فقد صح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، وفي بعض طرق الخبر عنه أيضًا بزيادة، وكان يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته، وذكر موسى بن عقبة في المغازي سمعت من أرضي يحدث أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبحهم لغير الله تعالى وصح أنه لم يأكل من ذبائح المشركين التي أهل بها لغير الله، وأخرج الطيالسي في مسنده عن ابنه سعيد أنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك أفاستغفر له: قال، «نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده» ولا يبعد ممن كان هذا شأنه الإنذار والدعوة إلى عبادة الله تعالى بل من أنصف يرى تضمن كلامه الذي حكته أسماء وإنكاره على قريش الذبح لغير الله تعالى الذي ذكره الطيالسي الدعوة إلى دين إبراهيم عليه السلام وعبادة الله سبحانه وحده، وكذا تضمن كلامه النقل أيضًا، ويعلم مما نقلناه أن الرجل رضي الله تعالى عنه لم يكن نبيًا وهو ظاهر، وزعم بعضهم أنه كان نبيًا، واستدل على ذلك بأنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: هلموا إلي فإنه لم يبق على دين الخليل غيري؛ وصحة ذلك ممنوعة، وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على المقصود كما لا يخفى على من له أدنى ذوق، ومثل زيد رضي الله تعالى عنه قس بن ساعدة الأيادي فإنه رضي الله تعالى عنه كان مؤمنًا بالله عز وجل داعيًا إلى عبادته سبحانه وحده وعاصر النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة على الملة الحنيفية وكان من المعمرين، ذكر السجستاني أنه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة، وقال المرزباني: ذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة وذكروا في شأنه أخبارًا كثيرة لكن قال الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة قد أفرد بعض الرواة طريق قس وفيه شعره وخطبته وهو في الطوالات للطبراني وغيرها وطرقه كلها ضعيفة وعد منها ما عد فليراجع، ثم إن الإشكال إنما يتوهم لو أريد بقريش جميع أولاد قصي أو فهر أو النضر أو الياس أو مضر أما إذا أريد من كان منهم حين بعث صلى الله عليه وسلم فلا كما لا يخفى على المتأمل فتأمل، وقيل: المراد بهم العرب قريش وغيرهم ولم يأت المعاصرين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نذير من الأنبياء عليهم السلام غيره صلى الله عليه وسلم وكان فيهم من ينذر ويدعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده وليس بنبي على ما سمعت آنفًا، وأما العرب غير المعاصرين فلم يأتهم من عهد إسماعيل عليه السلام نبي منهم بل لم يرسل إليهم نبي مطلقًا، وموسى وعيسى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا إليهم على الأظهر، وخالد بن سنان العبسي عند الأكثرين ليس بنبي، وخبر ورود بنت له عجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم لها: «مرحبًا بابنة نبي ضيعه قومه» ونحوه من الإخبار مما للحفاظ فيه مقال لا يصلح معه للاستدلال، وفي شروح الشفاء والإصابة للحافظ ابن حجر بعض الكلام في ذلك، وقيل: المراد بهم أهل الفترة من العرب وغيرهم حتى أهل الكتاب، والمعنى ما أتاهم نذير من قبلك بعد الضلال الذي حدث فيهم.
هذا وكأني بك تحمل النذير هنا على الرسول الذي ينذر عن الله عز وجل وكذا في قوله تعالى: {وَإن مّنْ أُمَّةٍ إلاَّ خَلاَ فيهَا نَذيرٌ} [فاطر: 24] ليوافق قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَن اعبدوا الله} [النحل: 36] وأظن أنك تجعل التنوين في أمة للتعظيم أي وإن من أمة جليلة معتنى بأمرها إلا خلا فيها نذير ولقد بعثنا في كل أمة جليلة معتنى بأمرها رسولًا أو تعتبر العرب أمة وبني إسرائيل أمة ونحو ذلك أمة دون أهل عصر واحد وتحمل من لم يأتهم نذير على جماعة من أمة لم يأتهم بخصوصهم نذير، ومما يستأنس به في ذلك أنه حين ينفي إتيان النذير ينفي عن قوم ونحوه لا عن أمة فليتأمل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام، وجوز كون {مَا} موصولة وقعت مفعولًا ثانيًا لتنذر و{مّن نَّذيرٍ} عليه متعلق بأتاهم أي لتنذر قومًا العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك أي على لسان نذير من قبلك واختاره أبو حيان، وعليه لا مجال لتوهم الأشكال لكن لا يخفي أنه خلاف المتبادر الذي عليه أكثر المفسرين، والاقتصار على الإنذار في بيان الحكمة لأنه الذي يقتضيه قولهم: {افتراه} دون التبشير {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي لأجل أن يهتدوا بإنذارك إياهم أو راجيًا لاهتدائهم، وجعل الترجي مستعارًا للإرادة منسوبًا إليه عز وجل نزغة اعتزالية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الم (1)} تقدم ما في نظائره.
{تَنْزيلُ الْكتَاب لَا رَيْبَ فيه منْ رَبّ الْعَالَمينَ (2)}.
افتتحت السورة بالتنويه بشأن القرآن لأنه جامع الهدى الذي تضمنته هذه السورة وغيرها ولأن جماع ضلال الضالّين هو التكذيب بهذا الكتاب، فالله جعل القرآن هدى للناس وخصّ العرب أن شَرفهم بجعلهم أولَ من يتلقّى هذا الكتاب، وبأنْ أنزله بلغتهم، فكان منهم أشد المكذبين بما جاء به، لا جرم أن تكذيب أولئك المكذبين أعرق في الضلالة وأوغل في أفَن الرأي.
وافتتاح الكلام بالجملة الاسمية لدلالتها على الدَوام والثبات.
وجيء بالمسند إليه معرفًا بالإضافة لإطالته ليحصل بتطويله ثم تعقيبه بالجملة المعترضة التشويقُ إلى معرفة الخبر وهو قوله: {من رب العالمين} ولولا ذلك لقيل: قرآن منزل من رب العالمين أو نحو ذلك.
وإنما عدل عن أسلوب قوله: {ألم ذلك الكتاب لا رَيْب فيه} في سورة البقرة (1، 2) لأن تلك السورة نازلة بين ظهراني المسلمين ومن يُرجى إسلامهم من أهل الكتاب وهم {الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} [البقرة: 4]؛ وأما هذه السورة فقد جابَه الله بها المشركين الذين لا يؤمنون بالإله الواحد ولا يوقنون بالآخرة فهم أصلب عُودًا، وأشد كفرًا وصُدودًا.
فقوله: {تنزيل الكتاب} مبتدأ، وقوله: {لا ريب فيه} جملة هي صفة للكتاب أو حال أو هي معترضة.
وقوله: {من رب العالمين} خبر عن المبتدأ و{من} ابتدائية.
والمعنى: من عنده ووحيه، كما تقول: جاءني كتاب من فلان.
ووقعت جملة {لا ريب فيه} بأسلوب المعلوم المقرّر فلم تجعل خبرًا ثانيًا عن المبتدأ لزيادة التشويق إلى الخبر ليقرر كونه من رب العالمين.
ومعنى {لا ريب فيه} أنه ليس أهلًا لأن يرتاب أحد في تنزيله من ربّ العالمين لما حفّ بتنزيله من الدلائل القاطعة بأنه ليس من كلام البشر بسبب إعجاز أقصر سورة منه فضلًا عن مجموعه، وما عضده من حال المرسَل به من شهرة الصدق والاستقامة، ومجيء مثله من مثله مع ما هو معلوم من وصف الأمية.
فمعنى نفي أن يكون الريب مظروفًا في هذا الكتاب أنه لا يشتمل على ما يثير الريب، فالذين ارتابُوا بل كذبوا أن يكون من عند الله فهم لا يعْدُون أن يكونوا متعنّتين على علم، أو جُهّالًا يقولون قبل أن يتأملوا وينظروا؛ والأولون زعماؤهم والأخيرون دهماؤهم، وقد تقدم ذلك في أول سورة البقرة.
واستحضار الجلالة بطريق الإضافة بوصف {رب العالمين} دون الاسم العلَم وغيره من طرق التعريف لما فيه من الإيماء إلى عموم الشريعة وكون كتابها منزّلًا للناس كلهم بخلاف ما سبق من الكتب الإلهية، كما قال تعالى: {مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه} [المائدة: 48].
وفيه إيماء إلى أن من جملة دواعي تكذيبهم به أنه كيف خص الله برسالته بشرًا منهم حسدًا من عند أنفسهم لأن ربوبية الله للعالمين تنبىء عن أنه لا يُسأل عما يفعل وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ منْ رَبّكَ}.
جاءت {أَمْ} للإضراب عن الكلام السابق إضرابَ انتقال، وهي {أَمْ} المنقطعة التي بمعنى بل التي للإضراب.
وحيثما وقعت {أمْ} فهي مؤذنة باستفهام بالهمزة بعدها الملتزم حذفها بعد {أمْ} والاستفهام المقدر بعدها هنا تعجيبي لأنهم قالوا هذا القول الشنيع وعُلّمه الناس عنهم فلا جرم كانوا أحقَّاء بالتعجيب من حالهم ومقالهم لأنهم أبدوا به أمرًا غريبًا يُقضى منه العجب لدى العقلاء ذوي الأحلام الراجحة والنفوس المنصفة، إذ دلائل انتفاء الريب عن كونه من رب العالمين واضحة بَله الجزم بأنه مفترى على الله تعالى.
وصيغ الخبر عن قولهم العجيب بصيغة المضارع لاستحضار حالة ذلك القول تحقيقًا للتعجيب منه حتى لا تغفل عن حال قولهم أذهانُ السامعين كلفظ تقول في بيت هُذْلول العنبري من شعراء الحماسة:
تقول وصكّت صدرَها بيمينها ** أبعلي هذا بالرَّحَى المتقاعسُ

وفي المضارع مع ذلك إيذان بتجدد مقالتهم هذه وأنهم لا يقلعون عنها على الرغم مما جاءهم من البينات رغم افتضاحهم بالعجز عن معارضته.
والضمير المرفوع في {افتراه} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه معلوم من مقام حكاية مقالهم المشتهر بين الناس، والضمير المنصوب عائد إلى {الكتاب} [السجدة: 2].
وأضرب على قولهم {افتراه} إضراب إبطال ب {بل هو الحق من ربك} لإثبات أن القرآن حق، ومعنى الحق: الصدق، أي: فيما اشتمل عليه الذي منه أنه منزَّل من الله تعالى.
وتعريف {الحق} تعريف الجنس المفيد تحقيق الجنسية فيه.
أي: هو حق ذلك الحق المعروفة ماهيته من بين الأجناس والمفارق لجنس الباطل.
وفي تعريف المسند بلام الجنس ذريعة إلى اعتبار كمال هذا الجنس في المسند إليه وهو معنى القصر الادعائي للمبالغة نحو: أنت الحبيب وعمرو الفارس.
و{من ربك} في موضع حال من {الحق} والحق الوارد من قبل الله لا جرم أنه أكمل جنس الحق.
وكاف الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم واستحضرت الذات العلية هنا بعنوان {ربك} لأن الكلام جاء ردًا على قولهم {افتراه} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم فكان مقام الرد مقتضيًا تأييد من ألصقوا به ما هو بريء منه بإثبات أن الكتاب حق من ربّ من ألصقوا به الافتراء تنويهًا بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام وتخلصًا إلى تصديقه لأنه إذا كان الكتاب الذي جاء به حقًا من عند الله فهو رسول الله حقًا.
وقد جاءت هذه الآية على أسلوب بديع الإحكام إذ ثبت أن الكتاب تنزيل من رب جميع الكائنات، وأنه يحق أن لا يرتاب فيه مرتاب، ثم انتقل إلى الإنكار والتعجيب من الذين جزموا بأن الجائي به مفتر على الله، ثم رد عليهم بإثبات أنه الحق الكامل من ربّ الذي نَسبوا إليه افتراءه فلو كان افتراه لقدر الله على إظهار أمره كما قال تعالى: {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لَقَطعْنَا منه الوَتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 44 47].
ثم جاء بما هو أنكى للمكذبين وأبلغ في تسفيه أحلامهم وأوغل في النداء على إهمالهم النظر في دقائق المعاني، فبين ما فيه تذكرة لهم ببعض المصالح التي جاء لأجلها هذا الكتاب بقوله: {لتُنْذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون} فقد جمعوا من الجهالة ما هو ضغْث على إبَّالَة، فإن هذا الكتاب، على أن حقيته مقتضية المنافسة في الانتفاع به ولو لم يُلفَتُوا إلى تقلده وعلى أنهم دعوا إلى الأخذ به وذلك مما يوجب التأمل في حقّيته؛ على ذلك كلّه فهم كانوا أحوج إلى اتباعه من اليهود والنصارى والمجوس لأن هؤلاء لم تسبق لهم رسالة مرسل فكانوا أبعد عن طرق الهدى بما تعاقب عليهم من القرون دون دعوة رسول فكان ذلك كافيًا في حرصهم على التمسك به وشعورهم بمزيد الحاجة إليه رجاء منهم أن يهتدوا، قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتّبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنّا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله وصدَف عنها} [الأنعام: 155 157]، فمثَل هؤلاء المكذبين كمَثل قول المعري:
هل تَزجرنَّكُمُ رسالةُ مرسَل ** أم ليس ينفع في أُولاَك ألُوكُ

والقوم: الجماعة العظيمة الذين يجمعهم أمر هو كالقوام لهم من نسب أو موطن أو غرض تجمعوا بسببه.
وأكثر إطلاقه على الجماعة الذين يرجعون في النسب إلى جَدّ اختصوا بالانتساب إليه.
وتميزوا بذلك عمن يشاركهم في جدّ هو أعلى منه، فقُريش مثلًا قومٌ اختصوا بالانتساب إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة فتميزوا عمن عداهم من عقب كنانة فيقال: فلان قرشي وفلان كناني ولا يقال لمن هو من أبناء قريش كناني.
ووصف القوم بأنهم {ما أتاهم من نذير} قبلَ النبي صلى الله عليه وسلم والنبي حينئذ يدعو أهل مكة ومن حولها إلى الإسلام وربما كانت الدعوة شملت أهل يثرب وكلّهم من العرب فظهر أن المراد بالقوم العرب الذين لم يأتهم رسول قَبْل محمد عليه الصلاة والسلام فإما أن يكون المراد قريشًا خاصة، أو عرب الحجاز أهلَ مكة والمدينة وقبائل الحجاز، وعرب الحجاز جذمان: عدنانيون وقحْطانيون؛ فأما العدنانيون فهم أبناء عدنان وهم من ذرية إسماعيل وإنما تقومت قوميتهم في أبناء عدنان: وهم مُضَرٌ وربيعةٌ وأنمار، وإيادٌ.
وهؤلاء لم يأتهم رسول منذ تقومت قوميتهم.
وأما جدهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام فإنه وإن كان رسولًا نبيئًا كما وصفه الله تعالى في سورة مريم، فإنما كانت رسالته خاصة بأهله وأصهاره من جُرهُم ولم يكن مرسلًا إلى الذين وجُدوا بعده لأن رسالته لم تكن دائمة ولا منتشرة، قال تعالى: {وكان يأمر أهلَه بالصلاة والزكاة} [مريم: 55].
وأما القحطانيون القاطنون بالحجاز مثل الأوس والخزرج وطيْء فإنهم قد تغيرت فرقهم ومواطنهم بعد سَيْل العَرم وانقسموا أقوامًا جُددًا ولم يأتهم نذير منذ ذلك الزمن وإن كان المنذرون قد جاءوا أسلافَهم مثلُ هود وصالح وتُبع، فذلك كان قبل تقوُّم قوميتهم الجديدة.
وإما أن يكون المراد العرَب كلَّهم بما يشمل أهل اليمن واليمامة والبحرين وغيرهم ممن شملتهم جزيرة العرب وكلّهم لا يعْدون أن يرجعوا إلى ذيْنك الجذمين، وقد كان انقسامهم أقوامًا ومواطن بعد سَيل العَرم ولم يأتهم نذير بعد ذلك الانقسام كما تقدم في حال القحطانيين من أهل الحجاز.
وأما ما ورد من ذكر حنظلة بن صَفوان صاحب أهل الرَّسّ، وخالد بن سنان صاحب بني عَبْس فلم يثبت أنهما رسولان واختُلف في نبوّتهما.
وقد روي أن ابنة خالد بن سنان وفدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي عجوز وأنه قال لها: «مرحبًا بابنة نبيء ضَيَّعه قومُه» وليس لذلك سند صحيح.
وأيًَّا مَّا كان فالعرب كلهم أو الذين شملتهم دعوة الإسلام يومئذ يحق عليهم وصف {ما أتاهم من نذير} من وقت تحقق قوميتهم.
والمقصود به: تذكيرهم بأنهم أحوج الأقوام إلى نذير، إذ لم يكونوا على بقية من هُدى وأثارةُ همَمهم لاغتباط أهل الكتاب ليتقبلوا الكتاب الذي أنزل إليهم ويسبقوا أهل الكتاب إلى اتّباعه؛ فيكون للمؤمنين منه السبْق في الشرع الأخير كما كان لمن لم يُسلم من أهل الكتاب السبق ببعض الاهتداء وممارسة الكتاب السابق.
وقد اهتم بعض أهل الأحلام من العَرب بتطلب الدين الحق فتهوّد كثير من عرب اليمن، وتنصّرتْ طيء وكَلْب وتغلب وغيرهم من نصارى العرب، وتتبع الحنيفية نفر مثل قُسّ بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نُفيل، وأمية بن أبي الصلت، وكان ذلك تطلبًا للكمال ولم يأتهم رسول بذلك.
وهذا التعليل لا يقتضي اقتصار الرسالة الإسلامية على هؤلاء القوم ولا ينافي عموم الرسالة لمن أتاهم نذير، لأن لام العلة لا تقتضي إلا كون ما بعدها باعثًا على وقوع الفعل الذي تعلقت به دون انحصار باعثث الفعل في تلك العلة، فإن الفعل الواحد قد تكون له بواعث كثيرة، وأفعال الله تعالى منوطة بحكم عديدة، ودلائلُ عموم الرسالة متواترة من صريح القرآن والسنّة ومن عموم الدعوة.
وقيل: أُريد بالقوم الذين لم يأتهم نذير من قبلُ جميعُ الأمم، وأن المراد بأنهم لم يأتهم نذير أنهم كلَّهم لم يأتهم نذير بعد أن ضلّوا، سواء منهم من ضلّ في شرعه مثل أهل الكتاب، ومن ضلّ بالخلو عن شرع كالعَرب.
وهذا الوجه بعيد عن لفظ قوم وعن فعل {أتاهم} ومفيتٌ للمقصود من هذا الوصف كما قدمناه.
وأما قضية عموم الدعوة المحمدية فدلائلها كثيرة من غير هذه الآية.
ولعلّ مستعارة تمثيلًا لإرادة اهتدائهم والحرص على حصوله. اهـ.