فصل: تفسير الآيات (6- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (6- 10):

قوله تعالى: {ذَلكَ عَالمُ الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزيزُ الرَّحيمُ (6) الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسَان منْ طينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ منْ سُلَالَةٍ منْ مَاءٍ مَهينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيه منْ رُوحه وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئدَةَ قَليلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإذَا ضَلَلْنَا في الْأَرْض أَإنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ بَلْ هُمْ بلقَاء رَبّهمْ كَافرُونَ (10)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق، ثم عالم الأرواح والأمر، فدل ذلك على شمول القدرة، وكان شامل القدرة لابد وأن يكون محيط العلم، كانت نتيجته لا محالة: {ذلك} أي الإله العالي المقدار، الواضح المنار {عالم الغيب} الذي تقدمت مفاتيحه آخر التي قبلها من الأرواح والأمر والخلق.
ولما قدم علم الغيب لكونه، أعلى وكان العالم به قد لا يعلم المشهود لكونه لا يبصر قال: {والشهادة} من ذلك كله التي منها تنزيل القرآن عليك ووصوله إليك {العزيز} الذي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء.
ولما كان ربما قدح متعنت في عزته بإهمال العصاة قال: {الرحيم} أي الذي خص أهل التكليف من عباده بالرحمة في إنزال الكتب على السنة الرسل، وأبان لهم ما ترضاه الإلهية، بعد أن عم جميع الخلائق بصفة الرحمانية بعد الإيجاد من الإعدام بالبر والإنعام.
ولما ذكر صفة الرحيمية صريحًا لأقتضاء المقام إياها، أشار إلى صفة الرحمانية فقال: {الذي أحسن كل شيء} ولما كان هذا الإحسان عامًا، خصه بأن وصفه- على قراءة المدني والكوفي- بقوله: {خلقه} فبين أن ذلك بالإتقان والإحكام، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما من حيث التشكيل والتصوير، وشق المشاعر، وتهيئة المدارك، وإفاضة المعاني، مع المفاوتة في جميع ذلك، وإلى هذا أشار الإبدال في قراءة الباقين، وعبر بالحسن لأن ما كان على وجه الحكمة كان حسنًا وإن رآه الجاهل القاصر قبيحًا.
ولما كان الحيوان أشرف الأجناس، وكان الإنسان أشرفه، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل بالآفاق، فقال دالًا على البعث: {وبدأ خلق الإنسان} أي الذي هو المقصود بالخطاب بهذا القرآن {من طين} أي مما ليس له أصل في الحياة بخلق آدم عليه السلام منه.
ولما كان قلب الطين إلى هذا الهيكل على هذه الصورة بهذه المعاني أمرًا هائلًا، أشار إليه بأداة البعد في قوله: {ثم جعل نسله} أي ولده الذي ينسل أي يخرج {من سلالة} أي من شيء مسلول، أي منتزع منه {من ماء مهين} أي حقير وضعيف وقليل مراق مبذول، فعيل بمعنى مفعول، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله: {ثم سواه} أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني {ونفخ فيه من روحه} الروح ما يمتاز به الحي من الميت، والإضافة للتشريف، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله.
ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم، لفت إليهم الخطاب قائلًا: {وجعل} أي بما ركب في البدن من الأسباب {لكم السمع} أي تدركون به المعاني المصوتة، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالمًا {والأبصار} تدركون بها المعاني والأعيان القابلة، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر.
ولذا تربط القوابل العين لئلا يضعفها النور، وأما العقل فإنما يحصل بالتدريج فلذا أخر محله فقال: {والأفئدة} أي المضغ الحارة المتوقدة المتحرفة، وهي القلوب المودعة غرائز العقول المتباينة فيها أيّ تباين؛ قال الرازي في اللوامع: جعله- أي الإنسان- مركبًا من روحاني وجسماني، وعلوي وسفلي، جمع فيه بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين بعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحيًا قوليًا، وسلم الأمر لمن له الخلق والأمر تسليمًا اختياريًا طوعيًا.
ولما لم يتبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال: {قليلًا ما تشكرون} أي وكثيرًا ما تكفرون.
ولما كانوا قد قالوا: محمد ليس برسول، والإله ليس بواحد، والبعث ليس بممكن، فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب، ثم على الوحدانية بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم، وختم بالتعجيب من كفرهم، وكان استبعادهم للبعث- الذي هو الأصل الثالث- من أعظم كفرهم، قال معجبًا منهم في إنكاره بعد التعجيب في قوله: {أم يقولون افتراه}، لافتًا عنهم الخطاب إيذانًا بالغضب من قولهم: {وقالوا} منكرين لما ركز في الفطر الأُوَل، ونبهت عليه الرسل، فصار بحيث لا يكره عاقل ألم بشيء من الحكمة: {أإذا} أي أنبعث إذا {ضللنا} أي ذهبنا وبطلنا وغبنا {في الأرض} بصيرورتنا ترابًا مثل ترابها، لا يتميز بعضه من بعض: قال أبو حيان تبعًا للبغوي والزمخشري وابن جرير الطبري وغيرهم: وأصله من ضل الماء في اللبن- إذا ذهب.
ثم كرروا الاستفهام الإنكاري زيادة في الاستبعاد فقالوا: {إنا لفي خلق جديد} هو محيط بنا ونحن مظروفون له.
ولما كان قولهم هذا يتضمن إنكارهم القدرة، وكانوا يقرون بما يلزمهم منه الإقرار بالقدرة على البعث من خلق الخلق والإنجاء من كل كرب ونحو ذلك، أشار إليه بقوله: {بل} أي ليسوا بمنكرين لقدرته سبحانه، بل {هم بلقاء ربهم} المحسن بالإيجاد والإبقاء مسخرًا لهم كل ما ينفعهم في الآخرة للحساب أحياء سويين كما كانوا في الدنيا، والإشارة بهذه الصفة إلى أنه لا يحسن بالمحسن أن ينغص إحسانه بترك القصاص من الظالم الكائن في القيامة {كافرون} أي منكرون للبعث عنادًا، ساترون لما في طباعهم من أدلته، لما غلب عليهم من الهوى القائد لهم إلى أفعال منعهم من الرجوع عنها الكبرُ عن قبول الحق والأنفة من الإقرار بما يلزم منه نقص العقل. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم بين أن هذا الملك العظيم النافذ الأمر غير غافل، فإن الملك إذا كان آمرًا ناهيًا يطاع في أمره ونهيه، ولكن يكون غافلًا لا يكون مهيبًا عظيمًا كما يكون مع ذلك خبيرًا يقظًا لا تخفى عليه أمور الممالك والمماليك فقال: {ذلك عَالمُ الغيب والشهادة} ولما ذكر من قبل عالم الأشباح بقوله: {خُلقَ السموات} [السجدة: 4] وعالم الأرواح بقوله: {يُدَبّرُ الأمر منَ السماء إلَى الأرض} قال: {عالم الغيب} يعلم ما في الأرواح {والشهادة} يعلم ما في الأجسام أو نقول قال: {عالم الغيب} إشارة إلى ما لم يكن بعد {والشهادة} إشارة إلى ما وجد وكان وقدم العلم بالغيب لأنه أقوى وأشد إنباء عن كمال العلم، ثم قال تعالى: {العزيز الرحيم} لما بين أنه عالم ذكر أنه عزيز قادر على الانتقام من الكفرة رحيم واسع الرحمة على البررة، ثم قال تعالى: {الذى أَحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان من طينٍ} لما بين الدليل الدال على الوحدانية من الآفاق بقوله: {خُلقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} وأتمه بتوابعه ومكملاته ذكر الدليل الدال عليها من الأنفس بقوله: {الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء} يعني أحسن كل شيء مما ذكره وبين أن الذي بين السموات والأرض خلقه وهو كذلك لأنك إذا نظرت إلى الأشياء رأيتها على ما ينبغي صلابة الأرض للنبات وسلاسة الهواء للاستنشاق وقبول الانشقاق لسهولة الاستطراق وسيلان الماء لنقدر عليه في كل موضع وحركة النار إلى فوق، لأنها لو كانت مثل الماء تتحرك يمنة ويسرة لاحترق العالم فخلقت طالبة لجهة فوق حيث لا شيء هناك يقبل الاحتراق وقوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان من طينٍ} قيل المراد آدم عليه السلام فإنه خلق من طين، ويمكن أن يقال بأن الطين ماء وتراب مجتمعان والآدمي أصله منى والمنى أصله غذاء، والأغذية إما حيوانية، وإما نباتية، والحيوانية بالآخرة ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو طين.
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ منْ سُلَالَةٍ منْ مَاءٍ مَهينٍ (8)}.
وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ من سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهينٍ} على التفسير الأول ظاهر لأن آدم كان من طين ونسله من سلالة من ماء مهين هو النطفة، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من الطين، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي من ماء مهين، فإن قال قائل التفسير الثاني غير صحيح لأن قوله: {بدأ خلق الإنسان}، {ثم جعل نسله} دليل على أن جعل النسل بعد خلق الإنسان من طين فنقول لا بل التفسير الثاني أقرب إلى الترتيب اللفظي فإنه تعالى بدأ بذكر الأمر من الابتداء في خلق الإنسان فقال بدأه من طين ثم جعله سلالة ثم سواه ونفخ فيه من روحه وعلى ما ذكرتم يبعد أن يقال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيه من رُّوحه} عائد إلى آدم أيضًا لأن كلمة ثم للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة، وذلك بعد خلق آدم، واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرَ} [غافر: 57] ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة فإن التغيرات فيها كثيرة وإليه الإشارة بقوله: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ}، {ثُمَّ سَوَّاهُ} أي كان طينًا فجعله منيًا ثم جعله بشرًا سويًا، وقوله تعالى: {وَنَفَخَ فيه من رُّوحه} إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف، واعلم أن النصارى يفترون على الله الكذب ويقولون بأن عيسى كان روح الله فهو ابن ولا يعلمون أن كل أحد روحه روح الله بقوله: {وَنَفَخَ فيه من رُّوحه} أي الروح التي هي ملكه كما يقول القائل داري وعبدي، ولم يقل أعطاه من جسمه لأن الشرف بالروح فأضاف الروح دون الجسم على ما يترتب على نفخ الروح من السمع والبصر والعلم فقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَليلًا مَّا تَشْكُرُونَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال: {وجعل لكم} مخاطبًا ولم يخاطب من قبل وذلك لأن الخطاب يكون مع الحي فلما قال: {وَنَفَخَ فيه من رُّوحه} خاطبه من بعده وقال: {جعل لكم}، فإن قيل الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى: {وَمنْ ءاياته أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} [الروم: 20] فنقول هناك لم يذكر الأمور المرتبة وإنما أشار إلى تمام الخلق، وههنا ذكر الأمور المرتبة وهي كون الإنسان طينًا ثم ماءً مهينًا ثم خلقًا مسوى بأنواع القوى مقوي فخاطب في بعض المراتب دون البعض.
المسألة الثانية:
الترتيب في السمع والأبصار والأفئدة على مقتضى الحكمة، وذلك لأن الإنسان يسمع أولًا من الأبوين أو الناس أمورًا فيفهمها ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجريها ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قبله ومثاله شخص يسمع من أستاذ شيئًا ثم يصير له أهلية مطالعة الكتب وفهم معانيها، ثم يصير له أهلية التصنيف فيكتب من قلبه كتابًا، فكذلك الإنسان يسمع ثم يطالع صحائف الموجودات ثم يعلم الأمور الخفية.
المسألة الثالثة:
ذكر في السمع المصدر وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع، لأن المصدر لا يجمع وذلك لحكمة وهو أن السمع قوة واحدة ولها فعل واحد فإن الإنسان لا يضبط في زمان واحد كلامين، والأذن محله ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة لها على تخصيص القوة بإدراك البعض دون البعض، وأما الإبصار فمحله العين ولها فيه شبه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب مرئي دون آخر وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير والقوة مستبدة، فذكر القوة في الأذن وفي العين والفؤاد للمحل نوع اختيار، فذكر المحل لأن الفعل يسند إلى المختار، ألا ترى أنك تقول سمع زيد ورأى عمرو ولا تقول سمع أذن زيد ولا رأى عين عمرو إلا نادرًا، لما بينا أن المختار هو الأصل وغيره آلته، فالسمع أصل دون محله لعدم الاختيار له، والعين كالأصل وقوة الأبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته، فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة وفي الأبصار والأفئدة الاسم الذي هو محل القوة ولأن السمع له قوة واحدة ولها فعل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويدرك في زمان واحد صورتين وأكثر ويستبينهما.
المسألة الرابعة:
لم قدم السمع هاهنا والقلب في قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبهمْ وعلى سَمْعهمْ} [البقرة: 7] فنقول ذلك يحقق ما ذكرنا، وذلك لأن عند الإعطاء ذكر الأدنى وارتقى إلى الأعلى فقال أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب وعند السلب قال ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها، وقد ذكرنا هناك ما هو السبب في تأخير الأبصار مع أنها في الوسط فيما ذكرنا من الترتيب وهو أن القلب والسمع سلب قوتهما بالطبع فجمع بينهما وسلب قوة البصر بجعل الغشاوة عليه فذكرها متأخرة.
{وَقَالُوا أَإذَا ضَلَلْنَا في الْأَرْض أَإنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ بَلْ هُمْ بلقَاء رَبّهمْ كَافرُونَ (10)}.
لما قال: {قَليلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9] بين عدم شكرهم بإتيانهم بضده وهو الكفر وإنكار قدرته على إحياء الموتى وقد ذكرنا أن الله تعالى، في كلامه القديم، كلما ذكر أصلين من الأصول الثلاثة لم يترك الأصل الثالث وههنا كذلك لما ذكر الرسالة بقوله: {تَنزيلُ الكتاب} إلى قوله: {لتُنذرَ قَوْمًا مَّا أتاهم مّن نَّذيرٍ مّن قَبْلكَ} [السجدة: 2، 3] الوحدانية بقوله: {الله الذي خَلَقَ} إلى قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار} [السجدة: 4، 9] ذكر الأصل الثالث وهو الحشر بقوله تعالى: {وَقَالُوا أَءذَا ضَلَلْنَا في الأرض} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الواو للعطف على ما سبق منهم فإنهم قالوا محمد ليس برسول والله ليس بواحد وقالوا الحشر ليس بممكن.
المسألة الثانية:
أنه تعالى قال في تكذيبهم الرسول في الرسالة {أم يقولون} [يونس: 38] بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم إياه في الحشر، {وقالوا} بلفظ الماضي، وذلك لأن تكذيبهم إياه في رسالته لم يكن قبل وجوده وإنما كان ذلك حالة وجوده فقال يقولون يعني هم فيه، وأما إنكارهم للحشر كان سابقًا صادرًا منهم ومن آبائهم فقال: {وقالوا}.
المسألة الثالثة:
أنه تعالى صرح بذكر قولهم في الرسالة حيث قال: {أَمْ يَقُولُونَ} [يونس: 38] وفي الحشر حيث قال: {وقالوا أئذا} ولم يصرح بذكر قولهم في الوحدانية، وذلك لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسول، وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في المعنى، ألا ترى أن الله تعالى قال: {وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] فلم يقل قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر.
المسألة الرابعة:
لو قال قائل لما ذكر الرسالة ذكر من قبل دليلها وهو التنزيل الذي لا ريب فيه ولما ذكر الوحدانية ذكر دليلها وهو خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من طين، ولما ذكر إنكارهم الحشر لم يذكر الدليل، نقول في الجواب: ذكر دليله أيضًا وذلك لأن خلق الإنسان ابتداء دليل على قدرته على إعادته، ولهذا استدل الله على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال: {ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} [الروم: 27] وقوله: {قُلْ يُحْييهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [ياس: 79] وكذلك خلق السموات كما قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مثْلَهُم بلى} [ياس: 81، 82].
وقوله تعالى: {إنَّكُمْ لَفي خَلْقٍ جَديدٍ} أي أئنا كائنون في خلق جديد أو واقعون فيه {بَلْ هُم بلَقَاء رَبّهمْ كافرون} إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانيًا بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب، أو نقول معناه لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم، فإنهم أنكروه فأنكروا المفضى إليه، ثم بين ما يكون لهم من الموت إلى العذاب. اهـ.