فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {ذلكَ عالمُ الْغَيْب وَالشَّهادَة الْعَزيزُ الرَّحيمُ}.
الإشارة هنا إلى الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة من أيام دنيانا وهو اللّه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {عالمُ الْغَيْب وَالشَّهادَة} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، أي ذلك المشار إلى قدرته في تدبير الأمور، هو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الرحيم وقدم علم الغيب على الشهادة، للإشارة إلى أن علم اللّه علم مطلق، لا تحدّه حدود، فيستوى لديه القريب والبعيد، والظاهر والخفىّ، إذ لا قرب وبعد، ولا خفاء وظهور. لأن ذلك إنما يكون بالإضافة إلى العلم القاصر المحدود، الذي يتناول شيئا ويقصر عن شىء. أما العلم الكامل المطلق، فحقائق الأشياء كلها واقعة في دائرة هذا العلم كحقيقة واحدة!.
وفي وصف اللّه سبحانه بالعزة والرحمة، إشارة إلى أن عزته سبحانه وتعالى، عزة رحمة وإحسان، وليست عزة تسلط وقهر، فإن من شأن العزة القهر والجبروت، وفي المثل: من عزّ بزّ. وتعالت عزة العزيز الحكيم عن ذلك علوا كبيرا.
قوله تعالى: {الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسان منْ طينٍ}.
أي أن من عزة اللّه ورحمته قيام هذا الوجود على أحسن نظام، وأكمله.
والمراد بالحسن هنا ليس مجرد حسن السورة، وإنما هو الحسن الذي يتجلى في إحكام الصنعة، ودقة التنسيق، وروعة التأليف، وتجاوب النغم، ووحدة الغاية، وإن اختلفت الاتجاهات، وتعددت الأنغام. {ما تَرى في خَلْق الرَّحْمن منْ تَفاوُتٍ}. فدبيب النملة على مسارها، وجريان الشمس في فلكها، وتدفق النهر في مجراه، وحفيف الأوراق على أشجارها، وكل همسة، وكل حركة في هذا الوجود، في أرضه وسماواته، تؤلّف جميعها لحنا علوىّ النعم، يروع القلب جلاله، ويأسر الفؤاد حسنه وجماله. سواء أنظر الإنسان إليها في اجتماعها أو افتراقها، وسواء استعرضها على تفصيلها أو إحمالها.
وفي قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسان منْ طينٍ} إلفات إلى وحدة من وحدات هذا الخلق، وإشارة إلى مواطن هذا الحسن منه، وهو خلق الإنسان من طين.
ففى هذا الطين الذي قد تنبو عنه العين، ويتحاشاه النظر حسن رائع، وجلال مهيب، إذا استطاع الناظر أن ينفذ إلى ما وراء هذا الظاهر الذي يراه، وأن يتجاوز هذه القشرة السوداء المعتمة من الطين. فإن وراء هذه القشرة، عالما يموج بألوان زاخرة، زاهية من الحياة. فما هذه الأناسىّ التي تتحرك على ظهر الأرض، وتملأ الحياة حركة وعمرانا، إلا بعض هذا الطين الذي نمشى عليه، وننطلق فوقه!!. وإذا عجز إدراك الإنسان عن أن يرى في مرآة هذا الطين صورته، ويعرف الرّحم الذي تفتق عنه، فلينظر في وجوه الأرض، وما عليها من ألوان الزهر، وأصناف الشجر، وأنواع الثمر. {وَفي الْأَرْض قطَعٌ مُتَجاوراتٌ وَجَنَّاتٌ منْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخيلٌ صنْوانٌ وَغَيْرُ صنْوانٍ يُسْقى بماءٍ واحدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الْأُكُل إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَعْقلُونَ} (4: الرعد).
فهذا الطين، ليس في عين ذوى البصائر طينا، جامدا، صامتا، كئيبا، وإنما هو الجمال كله، والحسن كله، تفتقت عنه- بقدرة العزيز الرحيم- هذه الحياة المتدفقة من إنسان، وحيوان، ونبات! فبدء خلق الإنسان من طين، هو نقطة الابتداء، التي يبدأ العقل مسيرته منها، إلى حيث يلتقى بالإنسان في أكمل صورته، وأعظم مواقفه. وعندئذ يرى كيف تدبير اللّه، وقدرته، وكيف علمه، وإحسانه، ورحمته. فما أبعد ما بين الطين والإنسان، في عين من لا يحسن النظر، ويمعن التفكير، وما أقرب ما بين الطين والإنسان، في عين من ينظر، فيحسن النظر بعقله وبقلبه جميعا. فمن هذا الطين، كان الأنبياء والرسل، والقادة، والمصلحون، والعباقرة. ومن هذا الطين كانت تلك الشموس المضيئة التي زينت الأرض كما زينت الكواكب والنجوم وجه السماء!.
قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ منْ سُلالَةٍ منْ ماءٍ مَهينٍ}.
وهذه لفتة أخرى إلى قدرة العزيز الرحيم، يرى فيها الإنسان نفسه، لا في هذا الطين، الذي ربما كانت كثافته حائلا بينه وبين نظره الكليل أن يرى وجوده فيه. فهناك النطفة، التي يعلم الإنسان- كل إنسان- عن يقين أنه ثمرتها، وأنها البذرة التي جاء منها. فأين تلك النطفة. من هذا الإنسان؟
{فَلْيَنْظُر الْإنْسانُ ممَّ خُلقَ خُلقَ منْ ماءٍ دافقٍ يَخْرُجُ منْ بَيْن الصُّلْب وَالتَّرائب} (5- 7 الطارق).
وفي وصف النطفة بأنها ماء مهين، إشارة إلى أنها شيء رخيص مبتذل، لا يرى فيها الإنسان شيئا ذابال، فما هي إلا ماء مستقذر. هكذا يبدو في ظاهر الأمر. ولكن إذا نظر إليه نظرا متأملا متفحصا، رأى أنه هو هذا الإنسان، قد أجمل في هذه القطرة من الماء! ثم فصّل فكان هذا الخلق السّوىّ، الذي توّج بتاج الخلافة من اللّه على هذه الأرض! قوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيه منْ رُوحه وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئدَةَ قَليلًا ما تَشْكُرُونَ}.
وهذه أيضا لفتة أخرى، يرى فيها الناظر إلى الإنسان في مسيرته من النطفة إلى الوجود البشرى- يرى كيف تحركت هذه النطفة، وكيف نمت كما ينمو النبات، حتى إذا بلغت في رحم الأمّ مرحلة محددة، نفخ فيها الخالق من روحه، فبعث فيها الحياة، حتى إذا تم نضجها، دفع بها الرحم إلى هذه الدنيا، قطعة من لحم، مصورة في هيئة بشر، لا سمع، ولا بصر، ولا إدراك. ثم لا يلبث هذا الوليد حتى يكون له السمع والبصر والإدراك. وإذا هو هذا الإنسان، كما هو في كل موقع من مواقع الحياة.
وقدّم السمع على البصر، لأنه أسبق من البصر ظهورا في الكائن الحي بعد الميلاد، حيث تبدأ وظيفة السمع في كيان الطفل، قبل أن يبدأ البصر في أداء وظيفته- وهذا من إعجاز القرآن، الذي كشف عنه العلم- ثم يجىء بعد هذا دور الوعى والإدراك! وفي إفراد السمع، وجمع البصر، والفؤاد، إشارة إلى أن معطيات السمع تكاد تكون واحدة عند الناس جميعا، وذلك على خلاف البصر، الذي يختلف من إنسان إلى إنسان، حيث يكون النظر عند بعض الناس مجرد عين ترى الأشياء رؤية حيوانية لا تتجاوز ظاهر المرئيات، على حين يكون النظر عند بعض آخر بصيرة نافذة، تبلغ الأعماق، وتصل إلى اللباب. وكذلك الشأن في الفؤاد، وهو موطن المدركات! وذلك أظهر من أن يكشف عنه.
وقوله تعالى: {قَليلًا ما تَشْكُرُونَ} أي قليل منكم من يعرف للّه قدره، ويذكر له إحسانه وفضله، فيؤدى الشكر للّه، إيمانا به، وإفرادا له بالألوهة، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: {وَقَليلٌ منْ عباديَ الشَّكُورُ} (13: سبأ) قوله تعالى: {وَقالُوا أَإذا ضَلَلْنا في الْأَرْض أَإنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ بَلْ هُمْ بلقاء رَبّهمْ كافرُونَ}.
الضلال في الأرض: الضّياع، والفناء في ترابها. وذلك بما يحدث للأجساد بعد الموت من تحلل وفناء.
والحديث هنا عن المشركين، الذين ينكرون البعث، ويرون أن انحلال أجسادهم بعد الموت، وتحولهم إلى تراب من تراب الأرض، يجعل من المستحيل أن يعودوا مرة أخرى إلى ما كانوا عليه، إذ ما أبعد ما بين هذه الأجساد التي أبلاها البلى، وبين الحال التي ستصبح عليها لو صحّ أنهم سيبعثون.
ولو أنهم نظروا إلى ما دعاهم اللّه سبحانه وتعالى إليه، من النظر في قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسان منْ طينٍ}. وفي قوله: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ منْ سُلالَةٍ منْ ماءٍ مَهينٍ} لوجدوا أن لا فرق بين هذا التراب الذي جاءوا منه، أو تلك النطفة التي تخلقوا منها، وبين هذا التراب الذي صارت إليه أجسادهم. بل إن في أجسادهم الغائبة تحت التراب، إشارات تشير إليهم، وتاريخا يحدث عنهم! إنهم- وهم في التراب- أشبه بغائب ترجى له عودة، وهم لم يكونوا من قبل شيئا! وشىء يعود إلى أصله، أقرب في التصور من توقع وجود شيء من عدم!- وفي قوله تعالى: {بَلْ هُمْ بلقاء رَبّهمْ كافرُونَ} إشارة إلى أن هؤلاء المشركين على ضلال في حياتهم الدنيا. قد فتنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، وأطلقوا لهواهم العنان يذهب بهم كلّ مذهب. وهذا ما أوقع في تفكيرهم أن لا حياة بعد الموت، وأن لا حساب ولا جزاء. لأن ذلك يعنى أن يعملوا حسابا لهذا الحساب، وأن يتخففوا كثيرا مما هم فيه من ضلال، وأن يستبقوا من يومهم شيئا لما بعد هذا اليوم. وإنه ليس لهم إلى ذلك من سبيل، وقد غلبتهم أهواؤهم، واستولت عليهم دنياهم. وإذن فلا يوم بعد هذا اليوم، ولا حياة بعد هذه الحياة. إنهم- والحال كذلك أشبه بالجند في ليلة الحرب. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، حتى الصباح، ينفقون فيها كل ما معهم. ثم ليكن في الغد ما يكون!!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ذَلكَ عَالمُ الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزيزُ الرَّحيمُ (6)}.
جيء بالإشارة إلى اسم الجلالة بعدما أجري عليه من أوصاف التصرف بخلق الكائنات وتدبير أمورها للتنبيه على أن المشار إليه باسم الإشارة حقيق بما يَرد بعد اسم الإشارة من أجل تلك الصفات المتقدمة كما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة البقرة (5)، لا جرم أن المتصرف بذلك الخلق والتدبير عالم بجميع مخلوقاته ومحيط بجميع شؤونها فهو عالم الغيب، أي: ما غاب عن حواس الخلق، وعالمُ الشهادة، وهو ما يدخل تحت إدراك الحواس، فالمراد بالغيب والشهادة: كل غائب وكل مشهود.
والمقصود هو علم الغيب لأنهم لما أنكروا البعث وإحياء الموتى كانت شبهتهم في إحالته أن أجزاء الأجسام تفرقت وتخللت الأرضَ، ولذلك عقب بقوله بعده {وقالوا أإذا ضَلَلْنَا في الأرض إنَّا لفي خلق جديد} [السجدة: 10].
وأما عطف {والشهادة} فهو تكميل واحتراس.
ومناسبة وصفه تعالى ب {العزيز الرحيم} عقب ما تقدم أنه خلق الخلق بمحض قدرته بدون معين، فالعزة وهي الاستغناء عن الغير ظاهرة، وأنه خلقهم على أحوال فيها لطف بهم فهو رحيم بهم فيما خلقهم إذ جعل أمور حياتهم ملائمة لهم فيها نعيم لهم وجنبهم الآلام فيها.
فهذا سبب الجمع بين صفتي العزيز والرحيم هنا على خلاف الغالب من ذكر الحكيم مع العزيز.
و{العزيز الرحيم} يجوز كونهما خبرين آخرين عن اسم الإشارة أو وصفين ل {عَالم الغَيب}.
{الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسَان منْ طينٍ (7)}.
خبر آخر عن اسم الإشارة أو وصف آخر ل {عالم الغيب} [السجدة: 6]، وهو ارتقاء في الاستدلال مشوبٌ بامتنان على الناس أنْ أحْسنَ خلقهم في جملة إحسان خلق كل شيء وبتخصيص خلق الإنسان بالذكر.
والمقصود: أنه الذي خلق كل شيء وخاصة الإنسان خلقًا بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا، وأخرج أصله من تراب ثم كوَّن فيه نظام النسل من ماء، فكيف تعجزه إعادة أجزائه.
والإحسان: جعل الشي حَسنًا، أي محمودًا غير معيب، وذلك بأن يكون وافيًا بالمقصود منه فإنك إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي؛ فصلابة الأرض مثلًا للسير عليها، ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس، وتوجه لهيب النار إلى فوقُ لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يمينًا وشمالًا لكثرت الحرائق فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق.
وقوله: {خَلَقَه} قرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بصيغة فعل المضي على أن الجملة صفة ل {شيء} أي: كل شيء من الموجودات التي خلقها وهم يعرفون كثيرًا منها.
وقرأه الباقون بسكون اللام على أنه اسم هو بدل من {كل شيء} بدل اشتمال.
وتخلص من هذا الوصف العام إلى خلْق الإنسان لأن في خلقة الإنسان دقائق في ظاهره وباطنه وأعظمها العقل.
والإنسان أُريد به الجنس وبَدْءُ خلقه هو خلق أصله آدم كما في قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف: 11]، أي: خلقنا أباكم ثم صورناه ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.
ويدل على هذا المعنى هنا قوله: {ثم جَعَل نسله من سلالة} فإن ذلك بُدىء من أول نسل لآدم وحواء، وقد تقدم خلْق آدم في سورة البقرة.
و{من} في قوله: {من طين} ابتدائية.
والنسل: الأبناء والذرية.
سمي نسلًا لأنه ينسل، أي: ينفصل من أصله وهو مأخوذ من نَسَلَ الصوفُ والوَبَر إذا سقط عن جلد الحيوان، وهو من بابي كتب وضرب.
و{من} في قوله: {من سلالة} ابتدائية.
وسميت النطفة التي يتقوم منها تكوين الجنين سُلالة كما في الآية لأنها تنفصل عن الرجل، فقوله: {من ماء مهين} بيان ل {سلالة} و{من} بيانية فالسلالة هي الماء المهين، هذا هو الظاهر لمتعارف الناس؛ ولكن في الآية إيماء علمي لم يدركه الناس إلا في هذا العصر وهو أن النطفة يتوقف تكوّن الجنين عليها لأنه يتكون من ذرات فيها تختلط مع سلالة من المرأة وما زاد على ذلك يذهب فضلة، فالسلالة التي تنفرز من الماء المهين هي النسل لا جميع الماء المهين، فتكون {من} في قوله: {من ماء مهين} للتبعيض أو للابتداء.
والمهين: الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به.
والغرض من إجراء هذا الوصف عليه الاعتبار بنظام التكوين إذ جعل الله تكوين هذا الجنس المكتمل التركيب العجيب الآثار من نوع ماء مهراق لا يُعبأ به ولا يصان.
والتسوية: التقويم، قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4].
والضمير المنصوب في {سَوّاه} عائد إلى {نسله} لأنه أقرب مذكور ولأنه ظاهر العطف ب {ثم} وإن كان آدم قد سُوّي ونفخ فيه من الروح، قال تعالى: {فإذا سَوّيتُه ونفختُ فيه من روحي فَقَعُوا له ساجدين} [ص: 72].
وذكر التسوية ونفخ الروح في جانب النسل يؤذن بأن أصله كذلك، فالكلام إيجاز.
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصًا بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله.
والنفخ: تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع، وقد تقدم في قوله تعالى: {فإذا سوّيته ونفخْتُ فيه من رُوحي} في سورة الحجر (29).
والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {وجعل لكم} التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس وجَعْل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريق الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم ناسب أن يُلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب لأنه آثرُ بالامتنان وأسعدُ بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله: {قليلًا ما تشكرون}.
والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره.
والعدول عن أن يقال: وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى {جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} لأن ذلك أعرق في الفصاحة، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلًا لفائدتهم ولأجلهم، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف، ولأن كلمة {الأفئدة} أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعضٌ منها.