فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والباء للسببية، أي: بسبب إهمالكم الاستعداد لهذا اليوم.
والنسيان في قوله: {نسيناكم} مستعمل في الحرمان من الكرامة مع المشاكلة.
واللقاء: حقيقته العثور على ذات، فمنه لقاء الرجل غيره وتجيء منه الملاقاة، ومنه: لقاء المرء ضالة أو نحوها.
وقد جاء منه: شيء لَقىً، أي مطروح.
ولقاء اليوم في هذه الآية مجاز في حلول اليوم ووجوده على غير ترقب كأنه عُثر عليه.
وإضافة {يوم} إلى ضمير المخاطبين تهكم بهم لأنهم كانوا ينكرونه فلما تحققوه جُعل كأنه أشد اختصاصًا بهم على طريقة الاستعارة التهكمية لأن اليوم إذا أضيف إلى القوم أو الجماعة إذا كان يوم انتصار لهم على عدوهم قال السموأل:
وأيامنا مشهورة في عدوّنا ** لها غررٌ معلومة وحجول

ويقولون: أيامُ بني فلان على بني فلان، أي أيام انتصارهم.
وسبب ذلك أن تقدير الإضافة على معنى اللام وهي تفيد الاختصاص المنتزع من الملك، قال عمرو بن كلثوم:
وأيَّام لنا غُرَ طوالٍ

وقال تعالى: {ذلك اليوم الحق} [النبأ: 39]، أي: يوم نصر المؤمنين على المشركين في الآخرة نصرًا مؤبَّدًا، أي ليس كأيامكم في الدنيا التي هي أيام نصر زائل.
والإشارة ب {هذا} إلى اليوم تهويلًا له.
وجملة {إنَّا نسيناكم} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن المجرمين إذا سمعوا ما علموا منه أنهم ملاقو العذاب من قوله: {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} تطلعوا إلى معرفة مدى هذا العذاب المَذوق وهل لهم منه مخلص وهل يُجابون إلى ما سألوا من الرجعة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من التصديق، فأعلموا بأن الله مُهمل شأنهم، أي لا يستجيب لهم وهو كناية عن تركهم فيما أُذيقوه.
وقد تقدم في سورة طه (126) قوله: {قال كذلك أتتك آياتنا فَنسيتَها وكذلك اليوم تُنْسَى} فشبه بالنسيان إظهارًا للعدل في الجزاء وأنه من جنس العمل المُجازَى عنه.
وقد حُقّق هذا الخبر بمؤكدات وهي حرف التوكيد.
وإخراج الكلام في صيغة الماضي على خلاف مقتضى الظاهر من زمن الحال لإفادة تحقق الفعل حتى كأنه مضى ووقع.
وقوله: {وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} عطف على {فذوقوا بما نَسيتُم}، وهو وإن أفاد تأكيد تسليط العذاب عليهم فإن عطفه مراعى فيه ما بين الجملتين من المغايرة بالمتعلّقات والقيود مغايرة اقتضت أن تعتبر الجملة الثانية مفيدة فائدة أخرى؛ فالجملة الأولى تضمنت أن من سبب استحقاقهم تلك الإذاقة إهمالَهم التدبر في حلول هذا اليوم، والجملة الثانية تضمنت أن ذلك العذاب مستمر وأن سبب استمرار العذاب وعدم تخفيفه أعمالهم الخاطئة وهي أعم من نسيانهم لقاء يومهم ذلك. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكّلَ بكُمْ ثُمَّ إلى رَبّكُمْ}.
ظاهره هذه الآية الكريمة أن الذي يقبض أرواح الناس ملك واحد معين، وهذا هو المشهور، وقد جاء في بعض الآثار أن اسمه عزرائيل.
وقد بين تعالى في آيات أخر أن الناس تتوفاهم ملائكة لا ملك واحد كقوله تعالى: {إنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسهمْ} [النساء: 97] الآية، وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْربُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27] وقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إذ الظالمون في غَمَرَات الموت والملائكة باسطوا أَيْديهمْ} [الأنعام: 93] الآية. وقوله تعالى: {حتى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ} [الأنعام: 61] إلى غير ذلك من الآيات.
وإيضاح هذا عند أهل العلم أن الموكل يقبض الأرواح ملك واحد، هو المذكور هنا، ولكن له أعوان يعملون بأمره ينتزعون الروح إلى الحلقوم، فيأخذها ملك الموت، أو يعينونه إعانة غير ذلك.
وقد جاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيه أن ملك الموت إذا أخذ روح الميت أخذها من يده بسرعة ملائكة فصعدوا بها إلى السماء وقد بين فيه صلى الله عليه وسلم ما تعامل به روح المؤمن وروح الكافر بعد أخذ الملائكة له من ملك الموت حين يأخذها من البدن وحديث البراء المذكور صححه غير واحد، وأوضح ابن القيم في كتاب الروح بطلان تضعيف ابن حزم له.
والحاصل: أن حديث البراء المذكور، دل على أن مع ملك الموت ملائكة آخرين يأخذون من يده الروح، حين يأخذه من بدن الميت. وأما قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حينَ موْتهَاَ} [الزمر: 42] فلا إشكال فيه، لأن الملائكة لا يقدرون أن يتوفوا أحدًا إلا بمشيئته جل وعلا {وَمَا كَانَ لنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلاَّ بإذْن الله كتَابًا مُّؤَجَّلًا} [آل عمران: 145].
فتحصل: أن إسناد التوفي إلى ملك الموت في قوله هنا: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكّلَ بكُمْ} لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وأن إسناده لملائكة في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْربُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27] الآية. ونحوها من الآيات، لأن لملك الموت أعوانًا يعملون بأمره، وأن إسناده إلى الله في قوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حينَ موْتهَا} [الزمر: 42] لأن كل شيء كائنًا ما كان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره. والعلم عند الله تعالى.
{وَلَوْ تَرَى إذ الْمُجْرمُونَ نَاكسُو رُءُوسهمْ عنْدَ رَبّهمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا فَارْجعْنَا نَعْمَلْ صَالحًا إنَّا مُوقنُونَ (12)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتي تَأْويلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ من قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق فَهَل لَّنَا من شُفَعَاءَ} [الأعراف: 53] الآية. وفي سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {أَسْمعْ بهمْ وَأَبْصرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] الآية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْت}.
تلحظ هنا أنهم يتكلمون عن البعث {وقالوا أَئذَا ضَلَلْنَا في الأرض أَئنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ} [السجدة: 10] ومعلوم أن البعث إيجاد حياة، فإذا بالقرآن يُحدّثهم عن الوفاة، وهي نقْضٌ للحياة، ليُذكّرهم بهذه الحقيقة.
ومعنى {يَتَوَفَّاكُم} [السجدة: 11] من توفيت دَيْنًا من المدين. أي: أخذتهُ كاملًا غيرَ منقوص، والمراد هنا الموت، والتوفّي يُنسَب مرة إلى الله عز وجل: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حينَ مَوْتهَا} [الزمر: 42].
ويُنسَب لملك الموت {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكّلَ بكُمْ} [السجدة: 11] ويُنسب إلى أعوانه من الملائكة {حتى إذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ} [الأنعام: 61].
لأن مسألة الموت أمرها الأعلى بيد الخالق سبحانه، فهو وحده واهب الحياة، وهو وحده صاحب الأمر في نَقْضها وسَلْبها من صاحبها؛ لذلك حرَّم الله القتل، وجعل القاتل ملعونًا؛ لأنه يهدم بنيان الله، فإذا قدَّر الله على إنسان الموت إذن لملَك الموت في ذلك، وهو عزرائيل.
إذن: هذه المسألة لها مراحل ثلاث: التوفّي من الله يأمر به عزرائيل، ثم يأمر عزرائيلُ ملائكته الموكّلين بهذه المسألة، ثم ينفذ الملائكةُ هذا الأمر.
وتأمل لفظة {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] أي: أخذتْه كاملًا، فلم يقُلْ: أعدمتُه مثلًا؛ لذلك نقول قُبضت روحه أي: ذهبتْ إلى حيث كانت قبل أن تُنفخ فيه، ذهبت إلى الملأ الأعلى، ثم تحلَّل الجسد وعاد إلى أصله، وذاب في الأرض، جزئية هنا وجزئية هناك، كما قالوا: {أَئذَا ضَلَلْنَا في الأرض أَئنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ} [السجدة: 10].
فالذي يُتوفَّى لم يُعدم، إنما هو موجود وجودًا كاملًا، روحه وجسده، والله قادر على إعادته يوم القيامة؛ لذلك لم يقُلْ أعدمنا. وهذه المسألة تحلُّ لنا إشكالًا في قصة سيدنا عيسى- عليه السلام- فقد قال الله فيه: {إذْ قَالَ الله ياعيسى إنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافعُكَ إلَيَّ} [آل عمران: 55].
فالبعض يقول: إنه عليه السلام تُوفّي أولًا، ثم رفعه الله إليه. والصواب أن واو العطف هنا تفيد مطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيبًا ولا تعقيبًا، واقرأ إنْ شئتَ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ وَمنْكَ وَمن نُّوحٍ وَإبْرَاهيمَ وموسى وَعيسَى ابن مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7].
والخطاب هنا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ونوح عليه السلام قبله.
فالمعنى هنا أن الله تعالى قدَّم الوفاة على الرفع، حتى لا يظن أحد أن عيسى- عليه السلام- تبرأ من الوفاة، فقدَّم الشيء الذي فيك شكٌّ أو جدال، وما دام قد توفّاه الله فقد أخذه كاملًا غير منقوص، وهذا يعني أنه لم يُصْلَب ولم يُقتل، إنما رفعه الله إليه كاملًا.
وقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] جاءت ردّا على قولهم: {أَئذَا ضَلَلْنَا في الأرض أَئنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ} [السجدة: 10] فالحق الذي قال أنا خلقتُ الإنسان لم يقُلْ وأنا سأعدمه إنما سأتوفاه، فهو عندي كاملٌ بروحه وبذراته التكوينية، والذي خلق في البَدْء قادر على الإعادة، وجمع الذرات التي تشتتت.
وقوله عن ملك الموت {الذي وُكّلَ بكُمْ} [السجدة: 11] أي: يرقبكم ولا يغفل عنكم، يلازمكم ولا ينصرف عنكم، بحيث لا مهربَ منه ولا فكَاك، كما قال أهل المعرفة: الموت سهم انطلق إليك فعلًا، وعمرك بمقدار سفره إليك، فهو واقع لا محالة. كما قلنا في المصيبة وأنها ما سُمّيت مصيبة إلا أنها ستصيبك لا محالة.
وقوله: {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] أي: يوم القيامة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ ترى إذ المجرمون}.
تصوّر لنا هذه الآية مشهدًا من مشاهد يوم القيامة، يوم يُساق المجرم ذليلًا إلى ما يستحق من العذاب، كأنْ ترى مجرمًا مثلًا تسوقه الشرطة وهو مُكبّل بالقيود يذوق الإهانة والمذلّة، فتشفى نفسك حين تراه ينال جزءاه بعد أنْ أتعب الدنيا وأداخ الناس.
وفي هذا المشهد يخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو أول مخاطب، ثم يصبح خطابًا لأمته: {وَلَوْ ترى إذ المجرمون نَاكسُوا رُءُوسهمْ عندَ رَبّهمْ} [السجدة: 12] أي: حالة وجودهم أنهم ناكسو رءوسهم. وتقدير جواب الشرط: لرأيتَ أمرًا عجيبًا يشفى صدرك مما فعلوه بك.
ونلحظ في هذا الأسلوب دقة الأداء في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى} [السجدة: 12] فلم يقل مثلًا: ولو تعلم؛ لأن إخبار الله كأنه رؤيا العين، فحين يخبرك الله بأمر، فاعلم أنه أصدق من عينك حين ترى؛ لأن عينك قد تخدعك، أما إخبار الله لك فهو الحق.
ومعنى {نَاكسُوا رُءُوسهمْ} [السجدة: 12] النكس هو جَعْل الأعلى أسفل، والرأس دائمًا في الإنسان أعلى شيء فيه.
وقد وردتْ هذه المادة في قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام حين حطم الأصنام، وعلَّق الفأس على كبيرهم: {ثُمَّ نُكسُوا على رُءُوسهمْ لَقَدْ عَلمْتَ مَا هؤلاء يَنطقُونَ} [الأنبياء: 65].
فبعد أنْ عادوا إلى رشدهم واتهموا أنفسهم بالظلم انتكسوا وعادوا إلى باطلهم، فقالوا: {لَقَدْ عَلمْتَ مَا هؤلاء يَنطقُونَ} [الأنبياء: 65].
وورد هذا اللفظ أيضًا في قوله تعالى: {وَمَن نُّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ في الخلق أَفَلاَ يَعْقلُونَ} [يس: 68].
والمعنى: نرجعه من حال القوة والفتوة إلى حال الضعف والهرم وعدم القدرة، كما قال سبحانه: {وَمنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَل العمر لكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ علْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70].
فبعد القوة يتكئ على عصا، ثم لا يستطيع السير فيحبو، أو يُحمل كما يُحمل الطفل الصغير، هذا هو التنكيس في الخَلْق، وحين نتأمله نقول: الحمد لله لو عافانا من هذه الفترة وهذه التنكيسة، ونعلم أن الموت لُطْف من الله ورحمة بالعباد، أَلاَ ترى أن مَنْ وصل إلى هذه المرحلة يضيق به أهله، وربما تمنَّوْا وفاته ليستريح وليستريحوا؟
وتنكيس رءوس المجرمين فيه إشارة إلى أن هذه هي العاقبة فاحذر المخالفة، فمَنْ تكبر وتغطرس في الدنيا نُكّسَتْ رأسه في الآخرة، ومَنْ تواضع لله في الدنيا رُفعت رأسه، وهذا معنى الحديث الشريف: «من تواضع لله رفعه».
وفي تنكيس رءوس المجرمين يوم القيامة معنى آخر؛ لأن الحق- سبحانه وتعالى- سيفعل في كل مخالف في الآخرة من جنس ما فعل في الدنيا، وهؤلاء الذين نكَّس الله رءوسهم في الاخرة فعلوا ذلك في الدنيا، واقرأ إن شئتَ قول ربك: {أَلا إنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ليَسْتَخْفُوا منْهُ} [هود: 5].
أي: يطأطئون رءوسهم؛ لكي لا يواجهوا رسول الله، فللحق صَوْلة وقوة لا يثبت الباطل أمامها؛ لذلك نسمع من أصحاب الحق: تعالَ واجهني، هات عيني في عينك، ولابد أنْ يستخزي أهل الباطل، وأنْ يجبنوا عن المواجهة؛ لأنها ليست في صالحهم.
وهذا العجز عن المواجهة يدعو الإنسان إلى ارتكاب أفظع الجرائم، ويصل به إلى القتل، والقتل لا يدل على القوة، إنما يدل على عجز وضعف وجُبْن عن المواجهة، فالقاتل أقرَّ بأنه لا يستطيع أنْ يواجه حياة عدوه فقتله، ولو كان قويًا لواجه حياته.
ومن العذاب الذي يأتي من جنس ما فعل الإنسان في الدنيا قول الله تعالى في الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله: {والذين يَكْنزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفقُونَهَا في سَبيل الله فَبَشّرْهُمْ بعَذَابٍ أَليمٍ يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا في نَار جَهَنَّمَ فتكوى بهَا جبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنزُونَ} [التوبة: 34-35].
سبحان الله، كأنها صورة طبق الأصل مما فعلوه في الدنيا، فالواحد منهم يأتيه طالب العطاء فيعبس في وجهه، ثم يُعرض عنه، ويعطيه جنبه، ثم يعرض عنه ويعيطه ظهره، ويأتي العذاب بنفس هذا التفصيل. إذن: فعلى العاقل أن يحذر هذه المخالفات، فمن جنسها يكون العذاب في الآخرة.
وهؤلاء المجرمون حال تنكيسهم يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا} [السجدة: 12] هذا كلامهم، ومع ذلك لم يقل القرآن: قالوا أبصرنا وسمعنا، فحَذْف الفعل هنا يدل على أن القول ليس سهلًا عليهم؛ لأنه إقرار بخطئهم الأول وإعلان لذَّلة التوبة.
وقلنا: إن هذه هي الآية الوحيدة التي تقدَّم فيها البصر على السمع؛ لأن الساعة حين تأتي بأهوالها نرى الهول أولًا، ثم نسمع ما نراه.
لذلك يقول تعالى مُصوّرًا أثر هذا الهول: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَديدٌ} [الحج: 2].
وفي معرض حديثنا السابق عن الحواس: السمع والبصر والفؤاد فاتنا أنْ نذكر آية مهمة جاءت على غير هذا الترتيب، وهي قول الله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبهمْ وعلى سَمْعهمْ وعلى أَبْصَارهمْ غشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظيمٌ} [البقرة: 7].
فجاء الفؤاد هنا أولًا، وجمع الفؤاد مع السمع في الختم لأنهما اشتركا فيه، أما البصر فاختص بشيء آخر، وهو الغشاوة التي تُغطّي أبصارهم؛ ذلك لأن الآية السابقة في السمع والبصر والفؤاد كانت عطاءً من الله، فبدأ بالسمع، ثم البصر، ثم ترقى في العطاء إلى الفؤاد، لكن هنا المقام مقام سلب لهذه النعم، فيسلب الأهم أولًا، فأتى بالفؤاد ثم السمع ثم الأبصار.