فصل: فصل في أسرار معاني لفظة {الدّين}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولمّا اطّلعت عليه، عرفت الأسباب المعيّنة للغضب والرحمة، وصورة ظهور حكميهما لها، وانطباعهما فيها انطباع الصور في المرآة. وعاينت سرّ {فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ} وسرّ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} و{المحسنين} و{المتقين} وغير ذلك.
وعرفت سرّ النعيم والعذاب المعجّل والمتطاول المدّة وسريع الزوال، وسرّ تبديل السيّئات الحسنات، وسرّ «إنّما هي أعمالكم ترد عليكم». وسرّ قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ} وسرّ {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}.
ورأيت الأفعال- إذا تعيّنت صورها في باطن الإنسان أو ظاهره- صارت مرآة لغضب الحقّ أو رحمته كما قلنا، لكن من غير تغيّر وتجدّد حال في الجناب الأقدس، مع حدوث ظهور التعيّن والأثر بما يلائم وما لا يلائم.
ورأيت أيضا سرّ الحلّ والحرمة في كلّ عصر وأمّة وبالنسبة إلى كلّ شخص أيضا في وقت واحد، وحال مخصوص، أو في حالين ووقتين مختلفين.
ورأيت صورة انبعاث الشرائع وتعيّن أحكامها بحسب أحوال الأمم والأعصار.
ورأيت الأوامر والنواهي المقصورة الحكم على هذه الدار وهذه النشأة، والمختصّة بمصالحهما الكلّيّة والجزئيّة ولوازمهما.
ورأيت المتعدّية الحكم إلى الآخرة تنقسم إلى أربعة أقسام: قسم ينتهي حكمه في أثناء زمان المكث البرزخي، أو ينتهي بانتهاء البرزخ وقسم ينتهي حكمه في أثناء زمان الحشر، أو ينتهي بانتهاء يومه وقسم ينتهي في أثناء زمان سلطنة جهنّم على من دخلها، أو ينتهي بانتهاء حكمها في غير المخلّدين وقسم يختصّ بأهل الجنّة وبمن قيل فيهم: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ}.
وهنا بحار زاخرة، وأسرار باهرة، لو خلّي كشفها، لظهر ما يحيّر الألباب، ويبدي العجب العجاب.
ويعلم من هذا المقام أيضا الجزاء الأبدي المستمرّ الحكم في الشرّ والخير، والثابت إلى أجل متناه، وسرّ المجازاة على الخير والشرّ والموازنة بالمثل في الشرّ والتضعيف في الخير إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف وما شاء اللّه من الزيادة بحساب، وسرّ المجازاة على بعض الأعمال لبعض العاملين في الدنيا والآخرة، وفي الآخرة دون الدنيا، وبالعكس، والمجعول هباء منثورا، حتى لا يبقى لعين العمل صورة تترتّب عليها مكافأة بالخير.
ويعلم أيضا من كمل له التحقّق بهذا المقام المشار إليه سرّ المرتفع عن مراتب المجازات والموازنات المتعيّنة، المنبّه عليها وتبيانه {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} ومثله ممّا ورد وثبت، فإنّ هذا الصنف من الأعمال لا يتعيّن له جزاء معلوم لغير من ظهر به، فإنّه إلهي باق على أصله لا تعلّق له بسوى الحقّ، ولسان حكمه من باب الإشارة لا التفسير {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ}.
وقد لوّحت بطرف من هذا فيما مرّ في باب الحمد وتنزّل الجزاء على الحامدين بحسب علومهم ومعتقداتهم في المحمود ومراتبهم وحظوظهم عنده فإنّها متعلّقات هممهم وقبلة مقاصدهم منه، وبيّنت أنّ ثمّة من ليس لقصده وهمّته والأفعال المنسوبة إليه والظاهرة به من حمد وغيره غاية ولا مستهدف سوى الحقّ المطلق، فجزاء مثل هذا خارج عن المراتب والأقسام المعروفة، فليلمح من هناك على أنّه سنزيد لذلك بيانا عن قريب،- إن شاء اللّه تعالى- ويعلم أيضا من هذا المقام سبب اختلاف الأعمال- من حيث هي أعمال للمسمّين عاملين- والمقامات التي يستقر فيها الأعمال في آخر مدى ارتفاعها ورفعها، وما أوّل تلك المقامات منها، وأيّها أغلب حكما بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة وبالنسبة إلى الأعمال الباطنة أيضا، وما أعلاها وآخرها، وما المقام الذي ينزل منه الجزاء الكلّي الأحدي المتنوّع والمنقسم بحسب مراتب الأعمال المختلفة الظاهرة في الأوقات المختلفة بالعاملين المختلفى المقاصد والعلوم والعقائد والتوجهات والأحوال والمواطن والمقامات والأزمان والنشآت.
وهذا المقام- المترجم عن بعض أحكامه وخصائصه- يحتوي على نحو ثلاثة آلاف مقام أو أكثر، وله أسرار شريفة نزيهة تعزّ معرفتها، ويقلّ وجدان الواقف عليها، ولولا أنّ الخوض في تفصيل أمّهاتها يحتاج إلى فضل بسط، ويفضي إلى إيضاح ما يحرم كشفه من أسرار الربوبيّة، لظهر ما يدهش العقول والبصائر، ويشرح الصدور والسرائر، ولكن لا مظهر لما شاء الحقّ إخفاءه من أسراره المستورة ولا كاتم لما أحبّ بروزه وظهوره.
ثم نعود إلى إتمام ما وقع الشروع في إيضاحه أوّلا، فنقول: وأمّا وجوه القلب، المشار إليها آنفا فخمسة على عدد الحضرات الأصليّة المذكورة، ولا يمكن أن يصدر من أحد فعل مّا من الأفعال إلّا ولابد أن يكون ذلك الفعل منصبغا بحكم أحد هذه الوجوه أو كلّها.
فالوجه الواحد منها يقابل غيب الحقّ وهويّته وهو المسمّى بالوجه الخاصّ عند المحقّقين الذين ليس للوسائط- من الصفات والأسماء وغيرهما ممّا نزل عنهما- فيه حكم ولا مدخل، ولا يعرفه و[لا] يتحقّق به إلّا الكمّل والأفراد وبعض المحقّقين، ولهذا الأمر- من حيث الوجه الذي يقابله من قلب الإنسان وغيره- في الوجود الظاهر مراتب ومظاهر وآيات من جملتها الأوّليّات: كالحركة الأولى، والنظرة، والخاطر، والسماع، وكلّ ظاهر أوّل ممّا لا يخفى على أهل الحضور. ولا يترتّب شرعا ولا تحقيقا في جميع العالم على هذا الوجه وما يخصّه حكم، ولا يدخل تحت قيد فإنّه إلهي باق على حكم التقديس الأصلي، ولا يتطرّق إليه شكّ ولا غلط ولا كذب أصلا.
والمتحقّق بهذا الوجه متى راقب قلبه مراقبة لا تتخلّلها فترة بعد معرفته سرّ التجدّد والخلق الجديد في كلّ نفس، حكم بكلّ ما يخطر له، وأصاب ولابد فإنّه لا تكرّر عنده، كما لا تكرار في حضرة الحقّ. وصاحب هذا، المشهد والمقام كلّ خواطره وإدراكاته واقعة بالحقّ في مرتبته الأوّليّة، فالأفعال الصادرة منه من حيث جميع مشاعره وحواسّه تترتّب وتبتني على هذا الأساس الإلهي، فلا يصدر منه إلّا جميل حسن وما يوجب رفع الدرجة ومزيد القرب في عين القرب، لكن من باب المنّة والإحسان لا المجازاة فإنّ أعمال صاحب هذا المقام الصادرة على هذا الوجه قد ارتفعت- كما ذكرنا من قبل- عن مراتب الجزاء. وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى: {وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وبقوله وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ} وبالتنبيه المضمّن في قصّة كتب الفجّار والأبرار- التي هي جرائد أعمالهم- وكون الواحد في سجّين، والآخر في علّيّين، ولم يذكر للمقرّبين كتابا، ولم ينسب إليهم غير الشهود واختصاصهم بالعين التي يطيب ويشرف بها مشرب الأبرار، فافهم.
ومن هذا المقام قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} الآية. وهذه الحالة المذكورة لصاحب هذا المقام إحدى علامات من كان الحقّ سمعه وبصره، وإحدى علامات صاحب قرب الفرائض أيضا باعتبار آخر يعسر شهوده وتصوّره إلّا للندّر.
والوجه الثاني من وجوه القلب يحاذي عالم الأرواح، ويأخذ به صاحبه عنها، وتنتقش فيه منها بحسب المناسبة الثابتة بينه وبينها، وبحسب طهارة الوجه وصقاله، الذي بهما تظهر صحة النسبة وتحيا رقيقة الارتباط، التي هي كالأنبوب والمرزاب الذي يمرّ عليه الفيض، ويسري فيه، ويصل به إلى مستقرّه من القابل. وزكاته وصقاله بالتحلّي بالأخلاق المحمودة واجتناب المذمومة وعدم تمكين القوى الطبيعيّة من الاستيلاء على القوى الروحانيّة وإطفائها بظلمتها وتكديرها أشعّة أنوارها، حتى تضمحلّ أحكامها وآثارها بقهر الأحكام الطبيعيّة المضادّة لها.
وهذا الشرط- أعني حفظ صحّة أحكام كلّ وجه وحالة والصفات المختصّة به من الغلبة المحذورة من الضدّ ومن الانحراف عن اعتداله الوسطي إلى طرف الإفراط والتفريط- معتبر في كلّ وجه من هذه الوجوه، فزكاة الوجه الأوّل المقابل لغيب الحقّ بصحّة المسامتة وخلوّه عن كلّ قيد وحكم كوني ورقيقة إطلاقه عن القيود وطلسته، وعروه عن النقوش، وحياة تلك الرقيقة بدوام الافتقار المحقّق والتوجّه الذاتي العاري عن التعمّل والتكلّف.
والوجه الثالث يقابل به صاحبه العالم العلويّ، وقبوله لما يريد الحقّ إلقاءه إليه من حيث هو يكون بحسب صور هذا الإنسان التي له في كلّ سماء، كما نبّه على ذلك السيّد الحبر ابن عباس رضي اللّه عنه ووافقه عليه المحقّقون من أهل اللّه وخاصّته قاطبة.
وزكاة هذا الوجه وإحياء رقيقته هو بما مرّ ذكره في وجه الأرواح، وبحفظ الاستقامة في الأوصاف الظاهرة الحفظ المتوسّط المانع من التفريط والإفراط. ولن يتحقّق أحد بذلك ما لم يعرف نسبته من كلّ عالم، ويراعي حكم الموازنة والمناسبة في ذلك، ويتفصّل له- ذوقا- ما أجملت الشريعة الإلهيّة الحقّة ذكره، وتكفّلت السيرة النبويّة المحمديّة الكماليّة ببيانه بالفعل والحال بعد الإفصاح عنه مجملا، فحينئذ متى حكم، أصاب، وعرف كيف يتحرّى طريق الجزم والصواب، واللّه المرشد.
والوجه الآخر يقابل به عالم العناصر، وتزكيته وإحياء رقيقته أيضا معلوم بالموازين الربانيّة المشروعة والمعقولة، وعمدته أمران:
أحدهما: استعمال الحواسّ والقوى فيما تتعيّن المصلحة فيه حسب الاستطاعة والإمكان وتقديم الأهمّ فالأهمّ والمبادرة إلى ذلك.
والآخر: كفّها عن كلّ ما ليس بمهمّ، فضلا عن استعمالها في الفضول وما لا ينبغي استعمالها فيه، أو يجب الاحتراز عنه.
والوجه الآخر يقابل عالم المثال، وله نسبتان:
نسبة مقيّدة، وتختصّ بعالم الخيال الإنساني، وطهارته تابعة لطهارة الوجه المتقدّم، المختصّ بعالم الحسّ والشهادة، فينضمّ إلى ذلك تحسين المقاصد حال تصوّرها وامتشائها في الحسّ المشترك، والحضور مع الخواطر، ومحو ما لا يستحسن منها فإنّ هذه أمور يسري حكمها فيما يصدر عن الإنسان من الأعمال والأنفاس وغيرهما.
وهكذا الأمر في الحسّ الظاهر، وقد نبّهنا على ذلك بقوله صلّى اللّه عليه وآله: «أصدقكم رؤيا، أصدقكم حديثا».
فإنّ الخيال لا ينتقش فيه إلّا ما انتقل إليه من عالم الحسّ، فإن اختلف فمن حيث تغيّر التركيب وتجدّده. وأمّا المفردات فمستفادة من الحسّ لا محالة، فمن صحّ وجه حسّه وقواه الحسّية، صحّ له وجه خياله.
والنسبة الأخرى تختصّ بعالم المثال المطلق، وكمال استقامتها- من حيث حصّة الإنسان منها- ناتج عن استقامة الوجوه الثلاثة المذكورة بعد الوجه الغيبي وصحّتها، فاعلم ذلك.

.فصل في أسرار معاني لفظة {الدّين}:

يتضمّن الكلام على ما تبقى من أسرار معاني لفظة {الدّين} وبيان سرّ التكليف وحكمته، وأصل منشئه وما يتعلّق بذلك من الأمور الكلّيّة واللوازم المهمّة بلسان مقام المطلع وأحديّة الجمع.
مقدّمة:
ولنقدّم قبل الشروع في الكلام على ما ترجمنا عليه مقدّمة تنبّه على نكت مفيدة مهمّة يجب التنبيه عليها، فنقول:
اعلم، أنّ سرّ كلّ شيء هو ما خفي من شأنه، أو بطن منه، سواء كان الباطن أمرا وجوديّا يمكن أن يدرك ببعض الحواسّ أو كلّها، كتجويف باطن قلب الإنسان مثلا وما فيه من البخار بالنسبة إلى ظاهر جلدة بدنه، وكدهن اللوز ونحوه مثلا بالنسبة إلى صورة اللوز، أو كان أمرا معنويّا كالقوى والخواصّ التي أودعها الحقّ سبحانه وتعالى في الأرواح وغيرها، بالنسبة إلى المظاهر والصور الجزئيّة، التي بها تظهر تلك الخواصّ، ويكمّل الحقّ بها أفعال تلك القوى، كالقوّة المسهلة التي في السقمونيا والقوّة الجاذبة للحديد في المغناطيس.
وقد يكون الأمر المضاف إليه السرّ معنى مجرّدا لا ظهور له في الأعيان، بل يتعقّل في الأذهان لا غير، كالنبوّة والرسالة والدين والتقى والإيمان ونحو ذلك فإنّ نسبة السرّ إلى هذه الأمور ليست على نحو نسبته إلى الأمور المتحقّقة الوجود في الأعيان، فإذا قيل: ما سرّ النبوّة؟ وما سرّ الشريعة؟ وما سرّ الدين؟ فالمراد بالسرّ هنا عند المحقّقين هو أصل الشيء المسئوول عنه، أو ما خفي من أمره الذي من عرفه علّة ذلك الشيء وخاصّيّته، وأصل منشئه وسبب حكمه وظهوره، ولوازمه البيّنة والخفيّة.
وللدين سرّ يعرفه من يعرف حقيقة الجزاء وأحكامه، وللجزاء سرّ أيضا تتوقّف معرفته على معرفة الأفعال التي يترتّب عليها الجزاء، وللأفعال أيضا- من حيث ما يجازى عليها من نسبت إليه وظهرت منه- سرّ تتوقّف معرفته على معرفة التكليف، فإنّه ما لم يكن تكليف لم يتقرّر أمر ونهي يوجبان تركا أو فعلا، ومتى لم يتقرّر الأفعال المشروعة المتفرّعة عن الأوامر والنواهي، لا يتعقّل الجزاء المجعول في مقابلة الأفعال التي هي متعلّقات الأوامر والنواهي، فالتكليف إذا أصل هذه الأمور المذكورة، وله أيضا سرّ وحكمة، سنشير إليه- إن شاء اللّه تعالى- فإنّه قد ذكرنا من سرّ الأفعال والمجازاة وما يختصّ بهما ما قدّر الحقّ ذكره، ونبّهنا على كثير من الأفعال من الأسرار الإلهيّة، المتعلّقة بهذا الباب، وما إذا تأمّله اللبيب وفهمه ثم استحضره، لم يعزب عنه شيء من كلّيّات أسرار الدين وأحكامه ولوازمه الأصليّة.