فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{إنَّمَا يُؤْمنُ بآيَاتنَا الَّذينَ إذَا ذُكّرُوا بهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا}.
هذه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي أنهم لإلْفهم الكفر لا يؤمنون بك؛ إنما يؤمن بك وبالقرآن المتدبرون له والمتعظون به، وهم الذين إذا قرىء عليهم القرآن {خَرُّوا سُجَّدًا} قال ابن عباس: ركّعًا.
قال المهدويّ: وهذا على مذهب من يرى الركوع عند قراءة السجدة؛ واستدلّ بقوله تبارك وتعالى: {وَخَرَّ رَاكعًا وَأَنَابَ} [ص: 24].
وقيل: المراد به السجود، وعليه أكثر العلماء؛ أي خَرُّوا سُجَّدًا لله تعالى على وجوههم تعظيمًا لآياته وخَوْفًا من سَطْوته وعذابه.
{وَسَبَّحُوا بحَمْد رَبّهمْ} أي خلطوا التسبيح بالحمد؛ أي نزّهوه وحَمدوه؛ فقالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، سبحان ربّيَ الأعلى وبحمده؛ أي تنزيهًا لله تعالى عن قول المشركين.
وقال سفيان: {وَسَبَّحُوا بحَمْد رَبّهمْ} أي صلُّوا حمدًا لربهم.
{وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبرُونَ} عن عبادته؛ قاله يحيى بن سلام.
النقاش: {لاَ يَسْتَكْبرُونَ} كما استكبر أهل مكة عن السجود.
قوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع} أي ترتفع وتَنْبُو عن مواضع الاضطجاع.
وهو في موضع نصب على الحال؛ أي متجافية جنوبهم.
والمضاجع جمع مضجع؛ وهي مواضع النوم.
ويحتمل عن وقت الاضطجاع، ولكنه مجاز، والحقيقة أوْلى.
ومنه قول عبد الله بن رَوَاحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الصبح ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

قال الزّجاج والرُّمانيّ: التّجافي التنحّي إلى جهة فوق.
وكذلك هو في الصفح عن المخطىء في سَبٍّ ونحوه.
والجُنوب جمع جنب.
وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان: أحدهما: لذكر الله تعالى، إمّا في صلاة وإما في غير صلاة؛ قاله ابن عباس والضحاك.
الثاني: للصلاة.
وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقوال: أحدها: التّنفّل بالليل؛ قاله الجمهور من المفسرين وعليه أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وهو قول مجاهد والأوزاعيّ ومالك بن أنس والحسن بن أبي الحسن وأبي العالية وغيرهم.
ويدلّ عليه قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفيَ لَهُم مّن قُرَّة أَعْيُنٍ} لأنهم جُوزُوا على ما أخفوا بما خفي.
والله أعلم.
وسيأتي بيانه.
وفي قيام الليل أحاديث كثيرة؛ منها حديث معاذ بن جبل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «أَلاَ أَدُلُّك على أبواب الخير: الصوم جُنّة، والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وصلاة الرجل من جَوْف الليل قال ثم تلا {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع حتى بلغ يَعْمَلُونَ}» أخرجه أبو داود الطيالسيّ في مسنده والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو عيسى الترمذيّ، وقال فيه: حديث حسن صحيح.
الثاني: صلاة العشاء التي يقال لها العتمة؛ قاله الحسن وعطاء.
وفي الترمذيّ: عن أنس بن مالك أن هذه الآية {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع} نزلت في انتظار الصلاة التي تُدْعَى العَتمَة قال: هذا حديث حسن غريب.
الثالث: التنفُّل ما بين المغرب والعشاء؛ قاله قتادة وعكرمة.
وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفقُونَ} قال: كانوا يتنفَّلون ما بين المغرب والعشاء.
الرابع: قال الضحاك: تَجافي الجُنُب هو أن يصلّي الرجل العشاء والصبح في جماعة.
وقاله أبو الدّرداء وعُبادة.
قلت: وهذا قول حسن، وهو يجمع الأقوال بالمعنى، وذلك أن منتظر العشاء إلى أن يصليها في صلاة وذكرٍ لله جلّ وعز؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الرجل في صلاة ما انتظر الصلاة» وقال أنس: المراد بالآية انتظار صلاة العشاء الآخرة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل.
قال ابن عطية: وكانت الجاهلية ينامون من أوّل الغروب ومن أيّ وقت شاء الإنسان، فجاء انتظار وقت العشاء غريبًا شاقًّا.
ومصلّي الصبح في جماعة لاسيما في أوّل الوقت؛ كما كان عليه السلام يصليها.
والعادة أن من حافظ على هذه الصلاة في أوّل الوقت يقوم سَحَرًا يتوضأ ويصليّ ويذكر الله عز وجل إلى أن يطلع الفجر؛ فقد حصل التجافي أوّلَ الليل وآخره.
يزيد هذا ما رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلّى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله» ولفظ الترمذي وأبي داود في هذا الحديث: «من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة، ومن صلّى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة» وقد مضى في سورة النور عن كعب فيمن صلّى بعد العشاء الآخرة أربع ركعات كن له بمنزلة ليلة القدر.
وجاءت آثار حسان في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء وقيام الليل.
ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا يحيى بن أيوب قال حدثني محمد بن الحجاج أو ابن أبي الحجاج أنه سمع عبد الكريم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ركع عشر ركعات بين المغرب والعشاء بُنيَ له قصر في الجنة» فقال له عمر بن الخطاب: إذًا تَكْثر قصورنا وبيوتنا يا رسول لله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر وأفضل أو قال أطيب» وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: صلاة الأوّابين الخلوة التي بين المغرب والعشاء حتى تثوب الناس إلى الصلاة.
وكان عبد الله بن مسعود يصلّي في تلك الساعة ويقول: صلاة الغفلة بين المغرب والعشاء؛ ذكره ابن المبارك.
ورواه الثعلبي مرفوعًا عن ابن عمر قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من جَفَتْ جنباه عن المضاجع ما بين المغرب والعشاء بُنيَ له قصران في الجنة مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلها أهل المشرق والمغرب لأوسعتهم فاكهة» وهي صلاة الأوّابين وغفلة الغافلين.
وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يردّ الدعاء بين المغرب والعشاء.
فصل في فضل التجافي:
ذكر ابن المبارك عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ستعلمون اليوم مَن أصحاب الكرم؛ ليَقُم الحامدون لله على كل حال، فيقومون فيُسَرّحون إلى الجنة.
ثم ينادي ثانية: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليَقُم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفقُونَ}.
قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة.
قال: ثم ينادي ثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؛ ليَقُم الذين كانوا {لاَّ تُلْهيهمْ تجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذكْر الله وَإقَام الصلاة وَإيتَاء الزكاة يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فيه القلوب والأبصار}، فيقومون فيسرحون إلى الجنة.
ذكره الثعلبيّ مرفوعًا عن أسماء بنت يزيد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أوْلى بالكَرَم، ليَقُم الذين كانت تتجافى جنوبُهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل، ثم ينادي الثانيةَ ستعلمون اليومَ مَن أوْلَى بالكرم ليَقُم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون، ثم ينادي الثالثةَ ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليَقُم الحامدون لله على كل حال في السرّاء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعًا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس» وذكر ابن المبارك قال أخبرنا مَعْمَر عن رجل عن أبي العلاء بن الشّخّير عن أبي ذرّ قال: ثلاثة يَضْحَك الله إليهم ويستبشر الله بهم: رجل قام من الليل وترك فراشه ودفْأهُ، ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة؛ فيقول الله لملائكته: ما حمل عبدي على ما صنع، فيقولون: ربَّنا أنت أعلم به منا؛ فيقول: أنا أعلم به ولكن أخبروني فيقولون: رَجّيته شيئًا فرجاه وخوّفته فخافه.
فيقول: أشهدكم أني قد أمنته مما خاف وأوجبت له ما رجاه قال: ورجل كان في سَريّة فلقي العدوّ فانهزم أصحابه وثبت هو حتى يُقتل أو يفتح الله عليهم؛ فيقول الله لملائكته مثل هذه القصة.
ورجل سَرى في ليلة حتى إذا كان في آخر الليل نزل هو وأصحابه، فنام أصحابه وقام هو يصلّي؛ فيقول الله لملائكته.
وذكر القصة.
قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} في موضع نصب على الحال؛ أي داعين.
ويحتمل أن تكون صفة مستأنفة؛ أي تتجافى جنوبهم وهم أيضًا في كل حال يدعون ربّهم لَيْلَهم ونهارهم.
و{خَوْفًا} مفعول من أجله.
ويجوز أن يكون مصدرًا.
{وَطَمَعًا} مثله؛ أي خوفًا من العذاب وطمعًا في الثواب.
{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفقُونَ} تكون ما بمعنى الذي وتكون مصدرًا، وفي كلاَ الوجهين يجب أن تكون منفصلة من من و{يُنْفقُونَ} قيل: معناه الزكاة المفروضة.
وقيل: النوافل؛ وهذا القول أمدح.
{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفيَ لَهُمْ منْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}.
قرأ حمزة: {مَّا أُخْفي لَهُمْ} بإسكان الياء وفتحها الباقون.
وفي قراءة عبد الله {مَا نُخْفي} بالنون مضمومة.
وروى المفضّل عن الأعمش {ما يُخْفَى لَهُمْ} بالياء المضمومة وفتح الفاء.
وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة: {من قُرّات أعين}.
فمن أسكن الياء من قوله: {ما أخفي} فهو مستقبل وألفه ألف المتكلم.
وما في موضع نصب ب {أخفي} وهي استفهام، والجملة في موضع نصب لوقوعها موقع المفعولين، والضمير العائد على ما محذوف.
ومن فتح الياء فهو فعل ماضٍ مبني للمفعول.
وما في موضع رفع بالابتداء، والخبر {أخفي} وما بعده، والضمير في {أخفي} عائد على ما.
قال الزجاج: ويقرأ: {مَا أَخْفَى لَهُمْ} بمعنى ما أخفى الله لهم؛ وهي قراءة محمد بن كعب، وما في موضع نصب.
المهدويّ: ومن قرأ: {قرّات أعين} فهو جمع قُرّة، وحَسُن الجمع فيه لإضافته إلى جمع، والإفراد لأنه مصدر، وهو اسم للجنس.
وقال أبو بكر الأنباريّ: وهذا غير مخالف للمصحف؛ لأن تاء {قُرّة} تكتب تاء على لغة من يجري الوصل على الوقف؛ كما كتبوا {رحمت الله} بالتاء.
ولا يُستنكر سقوط الألف من {قُرات} في الخط وهو موجود في اللفظ؛ كما لم يستنكر سقوط الألف من السموات وهي ثابتة في اللسان والنطق.
والمعنى المراد: أنه أخبر تعالى بما لهم من النعيم الذي لم تعلمه نفس ولا بشر ولا مَلَك.
وفي معنى هذه الآية: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل أعْدَدْتُ لعبادي الصالحين ما لا عيْن رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قرأ هذه الآية {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع إلى قوله بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}» خرجه الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعديّ.
وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب: على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَر على قلب بشر.
وقال ابن عباس: الأمر في هذا أجلّ وأعظم من أن يُعرف تفسيره.
قلت: وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلًا؛ كما جاء مبيَّنًا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شُعبة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سأل موسى عليه السلام ربّه فقال: يا ربّ ما أدنى أهل الجنة منزلةً قال: هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول أيْ ربّ كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أَخَذَاتهم فيقال له أترضى أن يكون لك مثلُ مُلْك مَلك من ملوك الدنيا فيقول رضيتُ ربّ فيقول لك ذلك ومثله ومثله معه ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت رَبّ فيقال هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذّت عينك فيقول رضيتُ رَبّ قال رَبّ فأعلاهم منزلةً قال أولئك الذين أردتُ غَرَسْتُ كرامتهم بيدي وخَتمتُ عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يَخْطر على قلب بشر قال ومصْداقُه من كتاب الله قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفيَ لَهُم مّن قُرَّة أَعْيُنٍ جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}» وقد روي عن المغيرة موقوفًا قوله.
وخرّج مسلم أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذُخْرًا بَلْهَ ما أَطْلَعَكُمْ عليه ثم قرأ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفيَ لَهُم مّن قُرَّة أَعْيُنٍ}» وقال ابن سيرين: المراد به النظر إلى الله تعالى.
وقال الحسن: أخفى القوم أعمالًا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. اهـ.