فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم لما أراد أنْ ينصرف عن قبر حبيبه قال: والسلام عليك سلام مُودّع، لا قال ولا سئم، فإنْ انصرف فلا عن ملالة، وإنْ أُقم فلا عن سوء ظنَّ بما وعد الله به عباده الصابرين.
فقوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع} [السجدة: 16] أي: تكرهها وتجفوها، مع أنها أعزُّ ما يركن إليه الإنسان عند راحته، فالإنسان حين تدبّ فيه الحياة، ويستطيع أنْ تكون له قوة ونشاط يعمل في الحياة، فالعمل فرع وجود الحياة، وبالقوة يمشي، وبالقوة يحمل الأثقال.
فإذا ما أتعبه الحمْل وضعه عن نفسه ليستريح، لكنه يستطيع أن يمشي بدون حمل، فإنْ أتعبه المشي وقف، فإذا أتعبه الوقوف جلس؛ لذلك يحدث أن تقول لصاحبك: لو سمحت احمل عني هذا الحمْلَ فيقول: يا شيخ، هل أنا قادر أن أحمل نفسي؟
إذن: التعب في هذه الحالة ناشئ من ثقَل الجسم على القدمين فيتعبه الوقوف، إلاَ ترانا إذا أطال الإمام في الصلاة مثلًا نراوح بين القدمين مرة على هذه، ومرة على هذه، أما القعود فيريح الإنسان؛ لأنه يُوسّع دائرة العضو المحتمل، فثقَل الجسم في حالة القعود يُوزَّع على المقعدة كلها، فإذا بلغ به التعب حدًا بحيث أتعبه القعود فإنه يستلقي على جنبه، ويمد جسمه كله على الأرض فيتوزع الثقل على كل الأعضاء، فلا يحمل العضو إلا ثقله فقط.
فإنْ شعر الإنسان بتعب بعد هذا كله تقلَّب على جنبه الآخر أو على ظهره، هذه كلها ألوان من الراحة لجسم الإنسان، لكنه لا يرتاح الراحة الكاملة إلا إذا استغرق في النوم، ويُسمُّون هذا التسلسل متواليات عضلية.
والدليل على أن النوم راحة تامة أنك لا تشعر فيه بالألم الذي تشعر به حال اليقظة- إنْ كنت تتألم من مرض مثلًا- وهذه كلها متواليات يمر بها المؤمن، وبالتالي إذا مات استراح أكثر، ثم إذا بُعث يوم القيامة ارتاح الراحة الكبرى، فهي مراحل نمرُّ بها إلى أنْ نرتمي في حضن خالقنا عز وجل.
إذن: فالمضاجع آخر مرحلة في اليقظة، ولم تأْت إلا بعد عدة مراحل من التعب، ومع ذلك شوق المؤمنين إلى ربهم ورغبتهم في الوقوف بين يديه سبحانه يُنسبهم هذه الراحة، ويُزهّدهم فيها، فيجفونها ليقفوا بين يدي الله.
وفي موضع آخر قال تعالى عنهم: {كَانُوا قَليلًا مّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] ثم يقول سبحانه: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة: 16] أي: يدعون ربهم وهم على حال التعب، كأن الدعاء مجرد الدعاء يريحهم، لماذا ولم يُحَابوا بعد؟ قالوا: لأنهم وضعوا حاجاتهم وطلبهم عند قادر على الإنفاذ، ثم إن حلاوة لقائهم بربهم في الصلاة تُنسيهم التعب الذي يعانون.
والمؤمنون يدعون ربهم {خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] أي: خوفًا مما حدث منهم من تقصير في حق الله، وأنهم لم يُقدّموا لله تعالى ما يستحق من التقوى ومن الطاعة {وَطَمَعًا} [السجدة: 16] أي: في المغفرة {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفقُونَ} [السجدة: 16] والمراد هنا الزكاة.
لذلك نرى في قوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع} [السجدة: 16] أن هذا التجافي كان بقصد الصلاة؛ لأن القرآن عادةً ما يقرن بالصلاة بالزكاة، فقال بعدها: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفقُونَ} [السجدة: 16].
{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفيَ لَهُمْ منْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}.
قلنا: إن الحق سبحانه أخفى أسرار الخير عن الخَلْق، ولم يُعْطهم منها إلا على قدر حاجتهم منها، فإذا أراد سبحانه أنْ يُجازي عباده المؤمنين لا يجازيهم بما يعملون من خيرات الدنيا وإمكاناتهم فيها، إنما يجازيهم بما يعلم هو سبحانه، وبما يتناسب مع إمكانات قدرته.
وهذه الإمكانات لا نستطيع نحن التعبير عنها؛ لأن ألفاظ اللغة لا تستطيع التعبير عنها، ومعلوم أن الإنسان لا يضع الاسم إلا إذا وُجد المسمى والمعنى أولًا؛ لذلك قال تعالى في التعبير عن هذا النعيم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفيَ لَهُم مّن قُرَّة أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة: «فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خظر على قلب بشر» إذن: كيف نُسمّي هذه الأشياء؟ وكيف نتصَّورها وهي فوق إدراكاتنا؟ لذلك سنفاجأ بها حين نراها إنْ شاء الله.
ثم أَلاَ ترى أن الحق سبحانه حينما يعرض علينا طرفًا من ذكر الجنة لا يقول لنا الجنة كذا وكذا، إنما يقول: {مَّثَلُ الجنة التي وُعدَ المتقون} [الرعد: 35] أي: أن ما نعرضه عليك ليس هو الجنة، إنما شبيه بها، أما هي على الحقيقة ففوق الوصف الذي تؤديه اللغة، فأنا أعطيكم الصورة القريبة لأذهانكم.
ثم يُنقى الحق سبحانه المثل الذي يضربه لنا من شوائبه في الدنيا، وتأمل في ذلك قول الله تعالى عن نعيم الجنة: {مَّثَلُ الجنة التي وُعدَ المتقون فيهَآ أَنْهَارٌ مّن مَّاءٍ غَيْر آسنٍ} [محمد: 15] وكانت آفة الماء عندهم أن يأسن ويتغير في الجرار، فنقَّاه الله من هذه الآفة.
وكذلك في {وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15] وكان العربي إذا سار باللبن يحمض فيعافه {وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّاربينَ} [محمد: 15] وآفة خمر الدنيا أنها تغتال العقل، وتذهب به، وليس في شربها لذة؛ لذلك نرى شاربها والعياذ بالله يتجرَّعها مرة واحدة، ويسكبها في فمه سَكْبًا، دليلًا على أنها غير طيبة، وهل رأيت شارب الخمر يمتصُّها مثلًا كما تمتص كوبًا من العصير، وتشعر بلذة شربه؟
وقد وصف الله خمر الآخرة بقوله: {لاَ فيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 47].
ثم يقول سبحانه: {وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] فوصف العسل بأنه مُصفَّى؛ لأن آفة العسل عندهم ما كان يعلَق به من الحصى والشوائب حين ينحدر من بيوت النحل في الجبال، فصفَّى الله عسل الآخرة من شوائب العسل في الدنيا.
ومهما بلغ بنا ترف الحياة ونعيمها، ومهما عَظْمَتْ إمكاناتنا في الدنيا، فلن نرى فيها نهرًا من الخمر، أو من اللبن، أو من العسل، ثم إن هذه الأنهار تجري في الجنة بلا شطآن، بل ويتداخل بعضها في بعض دون أن يطغى أحد منها على الآخر، وهذه طلاقة القدرة التي لا حدود لها.
إذن: الحق سبحانه حين يشرح لنا نعيم الجنة، وحين يَصفُها يعطينا المثال لا الحقيقة، ثم يُنقّى هذا المثال مما يشوبه في الدنيا.
ومن ذلك أن العربي كان يحب شجرة السّدر أي النبق، فيستظل بظلها، ويأكل ثمرها، لكن كان ينغص عليه هذه اللذة ما بها من أشواك لابد أنْ تؤذى مَنْ يقطف ثمارها، فلما ذكرها الله تعالى في نعيم الجنة قال عنها: {في سدْرٍ مَّخْضُودٍ} [الواقعة: 28] أي: منزوع الشوك، فالمتعة به تامة لا يُنغّصها شيء.
ولما تكلم عن نساء الجنة قال سبحانه عن الحور العين: {لَمْ يَطْمثْهُنَّ إنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 74] فنفى عنهن ما يُنغّص على الرجل جمال المرأة في الدنيا، وطمأنك أنها بكْر لم ينظر إليها أحد قبلك.
لهذا قال تعالى عن نعيم الجنة {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفيَ لَهُم مّن قُرَّة أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] والقرة والقُرور أي: السكون، ومنه قرَّ في المكان أي: استقر فيه، والمعنى أن الإنسان لا يستقر في المكان إلا إذا وجد فيه راحته ومُقوّمات حياته، فإذا أردتَ أنْ تستقر في مكان أو تشتري شقة مثلًا تسأل عن المرافق والخدمات من ماء وكهرباء وطرق. إلخ.
حتى نحن في تعبيراتنا العامية وفي الريف الذي يحتفظ لنا بخصائص الفطرة النقية التي لم يَشُبْها زيف الحضارات ولا زخرفة المدينة، وهذه الفطريات تستهوي النفوس وتجذبها، بدليل أن الإنسان الحضاري مهما بلغ القمة وسكن ناطحات السحاب، وتوفرتْ له كل كماليات الحياة لابد أنْ يأتي اليوم الذي يلجأ فيه إلى أحضان الطبيعة، فلا ترتاح نفسه، ولا تستقر إلا في الريف، فيقضي هناك عدة أيام حيث تهدأ هناك نفسه، وتستريح من ضوضاء المدينة، والبعض يسمونها الويك إند.
فمعنى قرة العين أي: استقرارها على شيء بحيث لا تتحول عنه إلى غيره، والعين لا تستقر على الشيء إلا إذا أعجبها، ورأتْ فيه كل ما تصبو إليه من متعة.
ومن ذلك قولنا فلان عينه مليانة يعني: لا يحتاج مزيدًا من المرائي غير ما يراه وفلان عينه فارغة يعني: لا يكتفي بما يرى، بل يطلب المزيد، فينظر هنا وهناك.
ففي الجنة تقرّ العيون بحيث لم يَعُدْ لها تطلعات، فقد كَمُلَتْ لها المعاني، فلا ينبغي لها أنْ تطمع في شيء آخر إلا الدوام.
لذلك يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا به أَزْوَاجًا مّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لنَفْتنَهُمْ فيه} [طه: 131].
فالإنسان إذا كانت عينه فارغة تراه زائغ العينين، ينظر هنا وهناك، ولو كانت عينه مليانة لانتهى عندها.
ومن معاني مادة قرَّ القُرُّ وهو البرد الشديد، وهذا المعنى يَكْنُون به عن سرور النفس، فالعين الباردة أي: المسرورة، أما العين الساخنة فهي الحزينة المتألمة.
ومن المعاني أيضًا لقرور العين سكونها وعدم حركتها لعلَّة أو عمى، ومن ذلك قول المرأة التي دخلتْ على الخليفة فقالت: أقرَّ الله عينك، وأتمَّ عليك نعمتك.
ففهم الحاضرون أنها تدعو له، فقال: والله ما دعتْ لي، إنما دعتْ علي، فهي تقصد أقرَّ الله عينك يعني: أسكنها لا تتحرك، وأتمَّ عليك نعمتك. أي: أزالها؛ لأن النعمة إذا تمتْ زالت، فلا شيء بعد التمام إلا النقصان.
ثم يُعلّل الحق سبحانه هذا النعيم الي أخفاه لعباده المؤمنين في الجنة بأنه {جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وهذه أثارت معركة بين العلماء هي معركة الأحباء: فريق قال إن المؤمن يدخل الجنة بعمله، كما نصَّتْ هذه الآية أي: أن الجنة بالعدل لا بالفضل، وفريق قال: بل يدخل الجنة بفضل الله، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ بفَضْل الله وَبرَحْمَته فَبذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدٌ الجنةَ بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته».
فلما حميَتْ هذه المعركة أرادوا أنْ يوحدوا هذين الرأيين، ويُوفّقوا بينهما، فقالوا: لقد سبق الله تعالى المكلف بالإحسان، فخلق له مُقومات حياته قبل أنْ يوجد، ثم تركه يرتع في نعَمه دون أنْ يطالبه بشيء حتى بلغ سنَّ التكليف.
فإذا ما كلَّفه الله بعد سابق نعمه عليه، فعليه أنْ يطيع هذا التكليف جزاء ما سبق من إحسان الله إليه الإحسان الأول، وبذلك يكون الجزاء في الآخرة ليس على العمل، إنما محْض فضل من الله على عباده.
إذن: حينما تؤدي ما كلَّفك ربك به كأنك تجازي ربك بطاعته على سابق إحسانه إليه، فكأن الجنة ونعيمها زيادة وفضل من الله، فالله سبحانه له الفضل عليك في الأولى، وله الفضل عليك في الآخرة.
ثم إن الحق- تبارك وتعالى- حين يُشرع لك ويكلّفك، فشَرْعه وتكليفه في ذاته فضل، أَلاَ ترى أن الحسنة عنده سبحانه بعشر أمثالها، وأنها تضاعف إلى أضعاف كثيرة، ونحن ملْكه سبحانه، يعطينا أو لا يعطينا.
وبعض أهل المعرفة والشطح يقولون: الله قدَّم الإحسان أولًا، فيجب على العبد أن يأتي بالإحسان جزاء الإحسان؛ لأنه {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60].
وحين يُحسن العبد في التكليف يُحيّيه ربه بإحسان آخر، فيرد العبد على إحسان ربه إليه بالإحسان، وهكذا يتواصل الإحسان بين العبد وربه إلى ما لا نهاية. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{إنَّمَا يُؤْمنُ بآيَاتنَا الَّذينَ إذَا ذُكّرُوا بهَا خَرُّوا سُجَّدًا}.
التصديقُ والتكذيبُ ضدان- والضدان لا يجتمعان؛ التكذيب هو جحودٌ واستكبار، والتصديقُ هو سجودٌ وتحقيق، فَمَنْ اتَّصَفَ بأحد، القسمين امَّحى عنه الثاني.
{خَرُّوا سُجَّدًا} سجدوا بظواهرهم في المحراب، وفي سرائرهم على تراب الخضوع وبساط الخشوع بنعت الذبول وحُكْم الخمود.
ويقال: كيف يستكبر مَنْ لا يَجدُ كمالَ راحته ولا حقيقةَ أُنْسه إلأ في تَذَلُّله بين يدي معبوده، ولا يؤثرُ آجلَ جحيمه على نعيمه، ولا شقاءَه على شفائة؟!.
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (16)}.
فى الظاهر: عن الفراش قيامًا بحقّ العبادة والجهد والتهجد. وفي الباطن: تتباعد قلوبُهم عن مضاجعات الأحوال، ورُؤية قَدّر النفس، وتوَّهُم المقَام- فإن ذلك بجملته حجابٌ عن الحقيقة، وهو للعبد سُمّ قاتل- فلا يساكَنون أعمالَهم ولا يلاحظون أحوالَهم. ويفارقون مآلفَهم، ويَهجرون في الله معَارفَهم.
والليل زمان الأحباب، قال تعالى: {لتَسْكُنُوا فيه} [يونس: 67]: يعني عن كلّ شُغل وحديث سوء حديث محبوبكم. والنهارُ زمانُ أهل الدنيا، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11]، أولئك قال لهم: {فإذَا قُضيَت الصَّلاَةُ فَانتَشرُوا في الأَرْض} [الجمعة: 10].
إذا ناجيتمونا في ركعتين في الجمعة فعودوا إلى متجركم، واشتغلوا بحرفتكم.
وأما الأحبابُ فالليلُ لهم إمَّا في طرَب التلاقي وإما في حَرَب الفراق، فإن كانوا في أُنْس القرابة فَلَيْلَهُم أقصرُ من لحظة، كما قالوا:
زارني مَنْ هَوَيْتُ بعد بعادٍ ** بوصال مُجَدَّدٍ ووداد

ليلة كاد يلتقي طرفاها ** قصَرًا وهي ليلة الميعاد

وكما قالوا:
وليلةٍ زَيْنُ ليالي الدهر ** قابلتُ فيها بدرها ببدر

لم تَسْتَبن عنْ شققٍ وفجر ** حتى تولَّت وهي بكْرُ الدهر

وأمَّا إن كان الوقتُ وقتَ مقاساة فُرقة وانفرادٍ بكُرْبة فَلَيْلُهم طويل، كما قالوا:
كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها ** أفْنَيْتُها قابضًا على كبدي

قد غُصَّت العينُ بالدموع وقد ** وضعتُ خدي على بنان يدي

قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]: قومٌ خوفًا من العذاب وطمعًا في الثواب، وآخرون خوفًا من الفراق وطمعًا في التلاقي، وآخرون خوفًا من المكر وطمعًا في الوَصْل.
{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} يأتون بالشاهد الذي خصصناهم به؛ فإنْ طَهَّرْنا أحوالَهم عن الكدورات حضروا بأحوالٍ مُقَدَّسة، وإنْ دَنَّسَّا أوقاتهم بالآفات شهدوا بحالاتٍ مُدّنَّسَة، {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفقُونَ}؛ فالعبدُ إنما يتجر في البضاعة التي يودعها لديه سَيّدُه:
يفديكَ بالروح صَبٌّ لو يكون له ** أعزّ من روحه شيء فداك به

{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفيَ لَهُمْ منْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}.
إنما تَقَرُّ عينُكَ برؤية مَنْ تحبه، أو ما تحبه؛ فطالبْ قلبكَ وراع حالك، فيحصل اليومَ سرورُك، وكذلك غدًا. وعلى ذلك تحشر؛ ففي الخبر: «مَنْ كان بحالة لقي الله بها».
ثم إنّ وصفَ ما قال الله سبحانه إنه لا يعلمه أحدٌ- مُحَالٌ، اللهم أن يُقال: إنها حال عزيزة، وصفةٌ جَليلة. اهـ.