فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَلَوْ شئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}.
{لآتينا كل نفس هداها} أي اخترعنا الإيمان فيها، كقوله: {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا} و{لجمعهم على الهدى} و{لجعل الناس أمة واحدة} وقال الزمخشري: على طريق الإلجاء والقسر، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار، فاستحبوا العمى على الهدى، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر.
ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله: {فذوقوا بما نسيتم}؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها، وترك الاستعداد لها.
والمراد بالنسيان: خلاف التذكر، يعني: أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة، وسلط عليكم نسيانها.
ثم قال: {إنا نسيناكم} على المقابلة: أي جازيناكم جزاء نسيانكم.
وقيل: هو بمعنى الترك، قاله ابن عباس وغيره، أي تركتم الفكر في العاقبة، فتركناكم من الرحمة. انتهى.
وقوله: على طريق الإلجاء والقسر، هو قول المعتزلة.
وقالت الإمامية: يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة، ولم يعاقب أحدًا، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم، فلا يجب على الله هداية الكل إليها.
قالوا: بل الواجب هداية المعصومين؛ فأما من له ذنب، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. انتهى.
و{هذا} صفة ليومكم، ومفعول {فذوقوا} محذوف، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم {لقاء يومكم هذا}، وهو ما أنتم فيه من نكس الرءوس والخزي والغم؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم.
وفي استئناف قوله: {إنا نسيناكم}، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم.
{وإنما يؤمن بآياتنا} أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى، من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم استكبارهم؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير، وقول الهجر، وإظهار التكبر؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن.
وقال ابن عباس: السجود هنا بمعنى الركوع.
وروي عن ابن جريج: المسجد مكان الركوع، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارىء للسجدة يركع، واستدل بقوله: {وخرّ راكعًا وأناب} {تتجافى جنوبهم} أي ترتفع وتتنحى، يقال: جفا الرجل الموضع: تركه.
قال عبد الله بن رواحة:
نبي تجافى جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وقال الزجاج والرماني: التجافي: التنحي إلى جهة فوق.
والمضاجع: أماكن الاتكاء للنوم، الواحد مضجع، أي هم منتبهون لا يعرفون نومًا.
وقال الجمهور: المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم.
وفي الحديث، ذكر قيام الليل، ثم استشهد بالآية، يعني الرسول.
وقال أبو الدرداء، وقتادة، والضحاك: تجافي الجنب: هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة.
وقال الحسن: هو التهجد؛ وقال أيضًا: هو وعطاء: هو العتمة.
وفي الترمذي، عن أنس: نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة.
وقال قتادة، وعكرمة: التنفل ما بين المغرب والعشاء، {يدعون} حال، أو مستأنف خوفًا وطمعًا، مفعول من أجله، أو مصدران في موضع الحال.
والظاهر أن الدعاء هو: الابتهال إلى الله، وقيل: الصلاة.
وقرأ الجمهور: {ما أخفي لهم}، فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول؛ وحمزة، والأعمش، ويعقوب: بسكون الياء، فعلًا مضارعًا للمتكلم؛ وابن مسعود: وما نخفي، بنون العظمة؛ والأعمش أيضًا: أخفيت.
وقرأ محمد بن كعب: ما أخفي، فعلًا ماضيًا مبنيًا للفاعل.
وقرأ الجمهور: {من قرة}، على الإفراد.
وقرأ عبد الله، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعوف العقيلي: من قرات، على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش؛ و{ما أخفي} يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية، فيكون {تعلم} متعلقة.
والجملة في موضع المفعول، إن كان {تعلم} مما عدى لواحد؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين، وتقدم تفسيره في {قرة عين} في الفرقان.
وفي الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، اقرأوا إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}» وقال ابن مسعود: في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره.
{ولا تعلم نفس} نكرة في سياق النفي، فيعم جميع الأنفس مما ادّخرا لله تعالى لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم، لا يعلمه إلا هو، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها، بل ولا تفاصيلها.
وقال الحسن: أخفوا اليوم أعمالًا في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
{جزاء بما كانوا يعملون}، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح.
وقال الزمخشري: فحسم أطماع المتمنين.
انتهى، وهذه نزغة اعتزالية.
{أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا}، قال ابن عباس وعطاء: نزلت في علي والوليد بن عقبة.
تلاحيًا، فقال له الوليد: أنا أذلق منك لسانًا، وأحدّ سنانًا، وأرد للكتيبة.
فقال له علي: اسكت، فإنك فاسق.
قال الزمخشري: فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما.
وقال الزجاج، والنحاس: نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط.
فعلى هذا تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدنية، وإنما قتل بطريق مكة، منصرف بدر.
والجمع في {لا يستوون}، والتقسيم بعده، حمل على معنى من.
وقيل: {لا يستوون} لاثنين، وهو المؤمن والفاسق، والتثنية جمع.
وقال الزجاج: ونزول الآية في علي والوليد، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد.
والجمهور: {جنات} بالجمع.
وقيل: سميت بذلك لما روي عن ابن عباس، قال: يأوي إليها أرواح الشهداء.
وقيل: هي عن يمين العرش.
وقرأ الجمهور: {نُزُلًا} بضم الزاي؛ وأبو حيوة: بإسكانها.
والنزل: عطاء النازل، ثم صار عامًا فيما يعد للضيف.
{وأما الذين فسقوا} أي بالكفر، {فمأواهم النار}.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد: فجنة مأواهم النار، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين، كقوله: {فبشرهم بعذاب أليم} انتهى وهذا فيه بعد.
وإنما يذهب إلى مثل {فبشرهم} إذا كان مصرحًا به فيقول: قام مقام التبشير العذاب، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع.
أما أن تضمر شيئًا لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار، فليس بجيد.
و{العذاب الأدنى}، قال أبيّ، وابن عباس، والضحاك، وابن زيد: مصائب الدنيا في الأنفس والأموال.
وقال ابن مسعود، والحسن بن علي: هو القتل بالسيف، نحو يوم بدر.
وقال مجاهد: القتل والجوع لقريش، وعنه: إنه عذاب القبر.
وقال النخعي، ومقاتل: هو السنون التي أجاعهم الله فيها.
وقال ابن عباس أيضًا: هو الحدود.
وقال أبيّ أيضًا: هو البطشة واللزام والدخان.
و{العذاب الأكبر}، قال ابن عطية: لا خلاف أنه عذاب الآخرة.
وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار.
وقيل: هو القتل والسبي والأسر.
وعن جعفر بن محمد: أنه خروج المهدي بالسيف.
{لعلهم يرجعون}، قال ابن مسعود: لعل من بقي منهم يتوب.
وقال أبو العالية: لعلهم يتوبون.
وقال مقاتل: يرجعون عن الكفر إلى الإيمان.
وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله: {فارجعنا نعمل صالحًا}.
وسميت إرادة الرجوع رجوعًا، كما سميت إرادة القيام قيامًا في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} انتهى.
ويقابل الأدنى: الأبعد، والأكبر: الأصغر.
لكن الأدنى يتضمن الأصغر، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف، إنما يصلح بما هو قريب، وهو العذاب العاجل.
والأكبر يتضمن الأبعد، لأنه واقع في الآخرة، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته، فحصلت المقابلة من حيث التضمن، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف.
وقال الزمخشري: فإن قلت: من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ ولعل من الله إرادة، وإذا أراد الله شيئًا كان ولم يمتنع، وتوبتهم مما لا يكون، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت: إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئًا من أفعاله كان، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي؛ وأما أفعال عباده، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدراك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك، وهو لا يختارها، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك، فلم يكن بعده دالًا على عجزك.
انتهى، وهو على مذهب المعتزلة، وقد ردّ عليهم أهل السنة، وذلك مقرر في علم الكلام.
{ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها}، بخلاف المؤمنين، إذا ذكروا بها خروا سجدًا.
{ثم أعرض عنها}، قال الزمخشري: ثم للاستبعاد، والمعنى: أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل؛ والعادة، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة، ثم لم تنتهزها استبعادًا لتركه الانتهاز، ومنه ثم في بيت الشاعر:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة ** يرى غمرات الموت ثم يزورها

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها. انتهى.
{من المجرمين} عام في كل من أجرم، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم؛ والإجرام هنا: هو: الكفر.
وقال يزيد بن رفيع: هي في أهل القدر، وقرأ: {إن المجرمين} إلى قوله: {بقدر} وفي الحديث: «ثلاث من كن فيه فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، ومن عق والديه، ومن نصر ظالمًا». اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {إنَّمَا يُؤْمنُ بآياتنا} استئنافٌ مسوقٌ لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهُدى والإشعار بعدم إيمانهم لو أُوتوه بتعيين مَن يستحقُّه بطريق القصر كأنَّه قيل: إنَّكم لا تُؤمنون بآياتنا ولا تعملون بموجبها عملًا صالحًا ولو رَجَعناكم إلى الدُّنيا كما تدَّعون حسبما ينطقُ به قولُه تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لعادوا لمَا نُهُوا عَنْهُ} وإنَّما يُؤمن بها {الذين إذَا ذُكّرُوا بهَا} أي وُعظوا {خَرُّوا سُجَّدًا} آثر ذي أثيرٍ من غير تردُّدٍ ولا تلعثمٍ فضلًا عن التَّسويف إلى معاينة ما نطقتْ به من الوعد والوعيد أي سقطُوا على وجوههم {وَسَبَّحُوا بحَمْد رَبّهمْ} أي ونزَّهُوه عند ذلك عن كلّ ما لا يليقُ به من الأمور التي من جُملتها العجزُ عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه التي أجلُّها الهدايةُ بإيتاء الآيات والتَّوفيق للاهتداء بها، والتعرُّضُ لعُنوان الرُّبوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلَّة التَّسبيح والتَّحميد وبأنَّهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبرُونَ} أي والحالُ أنَّهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عمَّا فعلُوا من الخُرور والتَّسبيح والتَّحميد {تتجافى جُنُوبُهُمْ} أي تنبُو وتنْحَى {عَن المضاجع} أي الفُرش ومواضع المنام. والجملةُ مستأنفةٌ لبيان بقية محاسنهم وهم المُتهجّدونَ بالليل. قال أنسٌ رضي الله عنه: نزلتْ فينا معاشرَ الأنصار كنَّا نصلّي المغربَ فلا نرجعُ إلى رحالنا حتى نصلّي العشاءَ مع النبيّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وعن أنسٍ أيضًا رضي الله عنه أنَّه قال: نزلتْ في أناسٍ من أصحاب النبيّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانوا يصلُّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهي صلاةُ الأوَّابينَ وهو قولُ أبي حازمٍ ومحمَّد بن المُنْكَدر، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
وقال عطاءٌ: هم الذين لا ينامُون حتَّى يصلُّوا العشاءَ الآخرةَ والفجرَ في جماعةٍ. والمشهورُ أنَّ المرادَ منه صلاةُ اللَّيل وهو قولُ الحسن ومجاهدٍ ومالكٍ والأوزاعيّ وجماعةٍ، لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أفضلُ الصّيام بعد شهر رمضانَ شهرُ الله المحرَّمُ وأفضلُ الصَّلاة بعد الفريضة صلاةُ اللَّيل» وعن النبيّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في تفسيرها: «قيامُ العبد من الليل» وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إذا جمعَ الله الأوَّلينَ والآخرينَ جاء منادٍ ينادي بصوتٍ يُسمع الخلائقَ كلَّهم سيعلم أهلُ الجمع اليَّومَ من أولى بالكرم ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانتْ تتجَافى جنوبُهم عن المضاجع فيقومونَ وهُم قليلٌ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانُوا يحمدون الله في السرَّاء والضَّراء فيقومون وهُم قليلٌ فيسرَّحُون جميعًا إلى الجنَّة، ثم يُحاسَب سائرُ النَّاس». وقولُه تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} حالٌ من ضمير جنوبُهم أي داعينَ له تعالى على الاستمرار {خَوْفًا} من سخطه وعذابه وعدم قبول عبادته {وَطَمَعًا} في رحمته {وَممَّا رزقناهم} من المال {يُنفقُونَ} في وجوه البرّ والحسنات.
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ} من النُّفوس لا مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ فضلًا عمَّن عداهم {مَّا أُخْفىَ لَهُم} أي لأولئكَ الذين عُدّدت نعوتُهم الجليلةُ {مّن قُرَّة أَعْيُنٍ} مما تقرُّ به أعينُهم وعنْهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يقولُ الله عزَّ وجلَّ: أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلب بشرٍ، بَلْهَ ما اطلعتُم عليه اقرؤا إنْ شئتُم، فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرَّة أعينٍ». وقُرىء: {ما أُخفي لهم} و{ما نُخفي لهم} و{ما أَخفيتُ لهم} على صيغة المتكلّم و{ما أخفى لهم} على البناء للفاعل وهو الله سبحانه. وقُرىء {قُرَّات أعينٍ} لاختلاف أنواعها. والعلمُ بمعنى المعرفة وما موصولةٌ أو استفهاميةٌ عُلّق عنها الفعلُ {جَزَاء بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جُزوا جَزاءًا أو أُخفي لهم للجزاء بما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من الأعمال الصَّالحة. قيل: هؤلاء القومُ أخفَوا أعمالَهم فأخفَى الله تعالى ثوابَهم {أَفَمَن كَانَ مُؤْمنًا كَمَن كَانَ فَاسقًا} أي أبعدَ ظهور ما بينهُما من التَّباين البيّن يُتوهَّمُ كونُ المؤمن الذي حُكيت أوصافُه الفاضلةُ كالفاسق الذي ذُكرت أحوالُه {لاَّ يَسْتَوُونَ} التَّصريح به مع إفادة الإنكار لنفي المشابهة بالمرَّة على أبلغ وجهٍ وآكده لبناء التَّفصيل الآتي عليه والجمعُ باعتبار معنى مَن كما أنَّ الإفرادَ فيما سبق باعتبار لفظها. وقولُه تعالى: {أَمَّا الذين ءامَنُوا وَعَملُوا الصالحات فَلَهُمْ جنات المأوى} تفصيلٌ لمراتب الفريقين في الآخرة بعد ذكر أحوالهما في الدُّنيا وأضيفتْ الجنَّةُ إلى المَأْوى لأنَّها المأوى الحقيقيُّ وإنَّما الدُّنيا منزلٌ مرتحلٌ عنه لا محالةَ وقيل: المَأْوى جنَّةٌ من الجنَّات، وأيًا ما كان فلا يبعُد أنْ يكونَ فيه رمزٌ إلى ما ذُكر من تجافيهم عن مضاجعهم التي هي مأواهم في الدُّنيا {نُزُلًا} أي ثوابًا وهو في الأصل ما يعدُّ للنَّازل من الطَّعام والشَّراب وانتصابُه على الحاليَّة {بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدُّنيا من الأعمال الصَّالحة أو بأعمالهم.
{وَأَمَّا الذين فَسَقُوا} أي خرجُوا عن الطَّاعة {فَمَأْوَاهُمُ} أي ملجأهُم ومنزلُهم {النار} مكانَ جنَّات المأوى للمؤمنينَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ منْهَا أُعيدُوا فيهَا} استئنافٌ لبيان كيفية كون النَّار مأواهم. يُروى أنَّه يضربُهم لهَبُ النَّار فيرتفعونَ إلى طبقاتها حتَّى إذا قربُوا من بابها وأرادُوا أنْ يخرجُوا منها يضربُهم اللَّهبُ فيهوون إلى قعرها وهكذا يُفعل بهم أبدًا وكلمةُ في للدّلالة على أنَّهم مستقرُّون فيها وإنَّما الإعادةُ من بعض طبقاتها إلى بعضٍ {وَقيلَ لَهُمْ} تشديدًا عليهم وزيادةً في غيظهم {ذُوقُوا عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ به} أي بعذاب النَّار {تُكَذّبُونَ} على الاستمرار في الدُّنيا {وَلَنُذيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى} أي عذاب الدُّنيا وهو ما مُحنُوا به من السَّنة سبعَ سنينَ والقتل والأسر {دُونَ العذاب الاكبر} الذي هو عذابُ الآخرة {لَعَلَّهُمْ} لعلَّ الذين يُشاهدونه وهُم في الحياة {يَرْجعُونَ} يتوبُون عن الكفر. رُوي أن الوليدَ بنَ عُقبةَ فاخرَ عليًّا رضيَ الله عنه يومَ بدرٍ فنزلتْ هذه الآياتُ {وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّن ذُكّرَ بئايات رَبّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} بيانٌ إجماليٌّ لحال من قابلَ آيات الله تعالى بالإعراض بعد بيان حال مَن قابلها بالسُّجود والتَّسبيح والتَّحميد. وكلمةُ ثمَّ لاستبعاد الإعراض عنها عقلًا مع غاية وضوحها وإرشادهم إلى سعادة الدَّارين كما في بيت الحماسة:
وَلاَ يَكْشفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابْنُ حُرَّة ** يَرَى غَمَرات المَوْت ثُمَّ يزُورُها

أي هو أظلمُ من كلّ ظالمٍ وإن كان سبكُ التَّركيب على نفي الأظلم من غير تعرُّضٍ لنفي المُساوي. وقد مرَّ مرارًا {إنَّا منَ المجرمين} أي من كلّ من اتَّصف بالإجرام وإنْ هانتْ جريمتُه {مُنتَقمُونَ} فكيفَ ممَّن هو أظلمُ من كلّ ظالمٍ وأشدُّ جُرمًا من كلّ مجرم. اهـ.