فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في يقن:
اليَقينُ من صفة العلْم فوق المعرفة والدّراية وأَخواتهما، يقال: علْمُ يَقين، ولا يُقال: معرفةُ يَقين؛ وقد يَقنَ زيدٌ الأَمرَ كفَرح يَقَنًا ويَقْنا وأَيْقَنَهُ وأَيْقَن به، وتَيَقَّنَهُ، واسْتَيْقَنَه واسْتَيْقَنَ به: عَلمَه وتَحَقَّقَهُ.
وهو يَقنٌ ويَقُنٌ ويَقَنَةٌ وميقانٌ: إذا كان لا يَسْمع شيئًا إلاَّ أَيْقَنَه، وهى ميقانَةٌ.
قال المحقّقون: اليَقين من الإيمان بمنزلة الرّوح من الجسد، وفيه تفاضَلَ العارفون وتنافَسَ المتنافسون، وإليه شَمَّرَ العاملون، وعَمَلُ القوم إنَّما كان عليه، وإشارتهم كلُّها إليه.
وإذا تزوّج الصبرُ باليقين وُلدَ بينهما حُصُول الأَمانة في الدّين، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بآيَاتنَا يُوقنُونَ}.
وخصّ تعالى أَهلَ اليقين بانتفاعهم بالآيات، والبراهين، قال وهو أَصدق القائلين: {وَفي الأَرْض آيَاتٌ لّلْمُوقنينَ}، وخصّ أَهل اليقين بالهُدَى والفَلاح من بين العالمين فقال: {والَّذينَ يُؤْمنُونَ بمَآ أُنْزلَ إلَيْكَ وَمَآ أُنْزلَ من قَبْلكَ وَبالآخرَة هُمْ يُوقنُونَ أُوْلَائكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهمْ وَأُوْلَائكَ هُمُ الْمُفْلحُونَ} وأَخبر عن أَهل النار بأَنهم لم يكونوا من أَهل اليقين فقال: {وَإذَا قيلَ إنَّ وعْدَ اللَّه حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فيهَا قُلْتُم مَّا نَدْري مَا السَّاعَةُ إن نَّظُنُّ إلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بمُسْتَيْقنينَ}.
فاليقين رُوح أَعمال القُلوب التي هي أَرْواحُ أَعمال الجَوارح، وهو حقيقة الصدْيقيّة، وقُطْبُ رَحَى هذا الشأْن الذي عليه مَدارُه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تُرْضيَنَ أَحَدًا بسخط الله، ولا تَحْمَدَنّ أَحدًا على فَضْل الله، ولا تَذُمَّنَّ أَحدًا على ما لم يُؤتكَ اللهُ، فإنَّ رزْقَ الله لا يَسُوقُه حرْيص، ولا يَرُدُّه عنك كَراهيَةُ كاره، فإنَّ الله بَعْدله وقسْطه جعل الرَّوْح والفَرَح في الرّضَا واليَقين، وجعل الهَمَّ والحُزْنَ في الشَكّ والسّخط» واليَقينُ قَرينُ التوكّل، ولهذا فُسّر التوكُّل بقوّة اليقين.
والصّواب أَنَّ التوكُّلَ ثمرةُ اليقين ونتيجتُه، ولهذا حَسُنَ اقْتران الهُدَى به، قال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه إنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبين} فالحقُّ هو اليَقين.
وقالت رسل الله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّه وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}، ومتى وَصَل اليقينُ إلى القلب امتلأَ نورًا وإشراقًا، وانتفَى عنه كلُّ رَيْبٍ وشُكٍّ وسُخْط وغَمٍّ وهَمٍّ، وامتلأَ محبّةَ الله وخَوْفًا منه ورضًا به، وشُكرًا له، وتوكُّلًا عليه، وإنابةً إليه، فهو مادَّة جميع المقامات، والحامل له.
واخْتُلفَ هل هو كَسْبىٌّ أَو مَوْهبىٌّ.
فقيل: هو العلْم المُسْتودَع في القُلوب، فيشير إلى إنَّه غيرُ كَسْبّى.
وقال سَهْلٌ: اليقين من زيادة الإيمان، ولا رَيْب أَنّ الإيمان كسْبىّ باعتبار أَسبابه، مَوْهبىّ باعتبار نفسه وذاته.
وقال سهل أَيضا: ابتداؤه المُكاشَفَة كما قال بعض السلف: لو كُشفَ الغطاءُ ما ازْدَدْتُ يقينًا.
وقال ابنُ خفيفٍ: هو تَحقُّقُ الأَسرار بأَحكام المُغَيَّبات.
وقال أَبو بَكْر بن طاهر: العلمُ يعارضه الشُّكوك، واليقين لا شَكَّ فيه.
وعند القوم: اليقين لا يُساكنُ قلبًا فيه سُكُونٌ إلى غير الله.
قال ذُو النُّون: اليقين يدعُو إلى قَصْر الأَمَل، وقَصْرُ الأَمل يدعُو إلى الزُّهْد، والزُّهْدُ يُورثُ الحكمةَ، وهى تُورث النَظَر في العَواقب.
وثلاثةٌ من أَعْلام اليقين: قلَّةُ مُخالطة الناس في العشْرَة؛ وتَرْكُ المدح لهم في العطيَّة؛ والتَنَزُّه عن ذَمّهم عند المنع.
وثلاثةٌ من أَعلامه أَيضًا:
النَّظر إليه في كل شىء؛ والرّجوع إليه في كلّ أَمر؛ والاستعانة به في كلّ حال.
وقال الجُنيْد رحمه الله: اليقينُ هو استقرارُ العلْم الذي لا يَحُول ولا ينقلب ولا يتغيَّرُ في القَلْب.
وقال ابن عطاءٍ رحمه الله: على قَدْر قُرْبهم من التَّقْوَى أَدْرَكُوا من اليقين.
وأَصل التَّقْوَى مُبايَنَة المَنْهىّ عنه، فعلى مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليَقين.
وقيل: اليَقين هو المُكاشَفة، وهى على ثلاثة أَوجه: مكاشَفَةٌ بالأَخْبار، ومكاشَفَةٌ بإظهار القُدْرَة، ومكاشَفَةُ القُلوب بحقائق الإيمان.
ومرادُ القَوْم بالمكاشَفَة ظهور الشَّىْء بالقلب بحيث تصير نسْبَتُه إليه كنسْبة المرئىّ إلى العين، فلا يَبْقَى معه شكٌّ ولا رَيْب أَصلا، وهذا نهايةُ الإيمان، وهو مَقامُ الإحسان.
وقد يريدون بها أَمرًا آخر وهو ما يَراهُ أَحدٌ في برْزَخٍ بين النَّوْم واليَقَظة عند أَوائل تجرُّد الرُّوح عن البَدَن ومن أَشار إلى غير هذَيْن فقط غَلط، ولُبّس عليه.
وقال السّرىُّ: اليقين سُكُونُك عند جَوَلان الموارد في صَدْرك، ليَقينك أَن حَرْكَتَك فيها لا تَنْفعك ولا تردّ عنك مَقْضيًّا.
وقال أَبو بكرٍ الورّاق: اليقين ملاكُ القَلْب، وبه كمالُ الإيمان.
وباليَقين عُرفَ الله، وبالعقل عُقلَ عن الله.
وقال الجُنَيْد رحمه الله: قد مَشَى رجالٌ باليَقين على الماء، ومات بالعَطَش من هو أَفضل منهم يَقينًا.
وقد اختلف في تفضيل اليقين على الحُضور، والحضور على اليقين، فقيل: الحضور أَفضل.
وبعضهم رَجَّحَ اليَقين وقال هو غايَةُ الإيمان.
والأَوّل رأَى أَنَّ اليقينَ ابتداءُ الحضور، وكأَنه جعل اليقينَ ابتداءً والحضُورَ دوامًا، وهذا الخلاف لا يتبيّن، فإنَ اليقين لا ينفكَّ عن الحضور، والحضورَ لا ينفكَّ عن اليقين، بل في اليقين من زيادة الإيمان ومعرفة تفاصيله وتنزُّلها منازلها ما ليس في الحضور، فهو أَكمل منه من هذا الوجه، وفى الحضور من الجمعية وعدم التفرقة والدّخول في الفناء ما قد ينفكُّ عنه اليقين، فاليقين خُصّ بالمعرفة، والحضور خصّ بالإرادة.
والله أَعلم.
وقال النَّهْرجُوىّ رحمه الله: إذا استكمل العبُد حقائقَ اليقين صار البلاءُ عنده نعْمة، والرّخاء مصيبة.
وقال أَبو بكرٍ الورّاق رحمه الله: اليقين على ثلاثة أَوْجُه: يَقينُ خَبَر، ويقين دَلالَة، ويقين مُشاهدة.
يريد بيقين الخَبَر سُكُون القلب إلى خَبَر المُخْبر ووُثوقُه به؛ ويقين الدّلالة ما هو فوْقَه، وو أَن يُقيم له مع وثُوقه بصدْقه الأَدلَّةَ على ما أَخبر به، وهذا كعامة الأَخبار بالإيمان والتوحيد في القرآن، فإنَّه سبحانه مع كونه أَصدق القائلين الصّادقين يُقيم لعباده الأَدلَّةَ والبراهين على صدْق أَخباره، فيحصل لهم اليقين من الوَحْهَيْن، من جهة الخَبر ومن جهة الدّليل، فيرتفعون من ذلك إلى الدّرجة الثالثة وهى يقين المكاشفة بحيث المُخْبَرُ به كالمرئى لعيونهم، فنسْبَة الإيمان بالغيب هي إلى القلب كنسبه المرئى إلى العين وهذا أَعلى أَنواع المُكاشَفة، وهى التي أَشار إليها عمر بن عبد القيس في قوله: لو كشف الغطاءُ ما ازددت يَقينا.
وليس هذا من كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا من كلام علىّ بن أَبى طالب كرّم الله وجهه كما يظنه من لا علْمَ له بالمنقولات.
وقال بعضهم: رأَيت الجنَّة والنار حقيقة، قيل له: كيف؟ قال: رأَيته بعَيْنَىْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ورؤيتى لهما بعينَيْه أَوثق عندى من روْيتى لهما بعينى، فإنَّ بصرى قد يُخْطئ بخلاف نصره صلَّى الله عليه وسلَّم.
واليَقينُ يَحملُ على مُباشَرَة الأَهوال ورُكوب الأَخطار، وهو يأْمرُ بالتقدّم دائما، فإن لم يقارنْه العلْم حَمَل على المعاطب، والعلم يأْمرُ بالتأّخُّر دائما وبالإحجام، فإنْ لم يُصبْه اليقينُ فقد يَصُدّ صاحبه عن المكاسب والغنائم.
وقال الشيخ أَبو إسماعيل الأَنصارىّ رحمه الله: اليقين مَرْكَبُ الآخذ في هذا الطَّريق، وهو غاية درجات العامّة وأَوّل خطوة للخاصة، لمَّا كان اليقين هو الذي يحمل السّائر إلى الله، كما قال أَبو سعيد الخرّاز رحمه الله: العلمُ ما اسْتَعْمَلك، واليَقينُ ما حَمَلَك وسَمّاهُ مَرْكبًا يركبه السائر إلى الله، فإنَّه لولا اليقين ما سار الراكب إلى الله، ولا ثَبَتَ لأَحد قَدَمٌ في السّلوك؛ وإنَّما جعله آخرَ درجات العامّة لأَنَّهم إليه ينتهون.
ثم حكى قول من قال: إنَّه أَوّل خطوة للخاصّة، يعنى أَنَّه ليس بمقام له، وإنَّما هو مُبْتدَأْ سُلوكه، وهذا لأَنَّ الخاصّة عنده سائرون إلى الجَمْع والفَناء في شهُود الحقيقة، لا يَقف لهم دُوَنَها همَّة، فكلُّ ما دُونَها فهو عندهم منْ مُشاهَدَة العامّة ومَنازلهم ومَقاماتهم حتَّى المَحَبّة، وحَسْبُك بجَعْل اليَقين نهايةً للعامة وبداية لهم.
قال: وهو على ثلاث درجات:
علمُ اليَقين: وهو ما ظَهَرَ من الحَقّ، وقَبُول ما غابَ للحْقّ، والوُقُوف على ما قام بالحَقّ، فذكر رحمه الله ثلاثة أَشياء هي مُتَعَلَّق اليقين وأَركانه:
الأَوّل: هو ما ظهر من الحقَّ تعالى، والَّذى ظهر منه سبحانه أَوامرُه ونَواهيه وشَرْعُه ودينُه الذي ظهر لنا منه على أَلْسنَة رُسُله، فيتلقَّاه بالقَبول والانْقياد والإذعان والتَّسْليم للرّبوبيّة، والدّخول تحت رقّ العبوديّة.
الثانى: قَبُولُ ما غابَ للحقّ وهو الإيمانُ بالغيب الذي أَخبر به الحقُّ سبحانه على لسان رُسُله من أَمور المَعاد وتَفاصيله، والجنَّة والنَّار، وما قبل ذلك من الصّراط والميزن والحساب، وما قبل ذلك من تَشَقُّق السّماء وانفطارها وانتثار الكواكب ونَسْف الجبال وطَىّ العالم، وما قبل ذلك من أَمور البَرْزَخ ونَعيمه وعَذابه، فقبولُ هذا كلّه تصديقًا وإيمانًا هو اليقين بحيث لا يُخالج القَلْبَ فيه شُبَهْةٌ ولا شكٌّ ولا رَيْب، ولا تَناس ولا غَفْلَة عنه، فإنَّه إن لم يستملك يَقينَع أَفْسَدَه وأَضْعَفَه، الثالث: الوقوف على ما قام بالحقّ سبحانه من أَسمائه وصفاته وأَفعاله، وهو علْمُ التَّوحيد الذي أَساسهُ إثبات الأَسماء والصّفات، وضدّه التَّعْطيل والنَّفْرُ والتَّجْهيم.
فهذا التَّوحيد يقابله التَّعطيل.
وأَما التوحيد القصدى الإرادى الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده فيقابله الشّرك، والتعطيل شرّ من الشرك، فإنَّ المعطل جاحدٌ للذَّات أَو لكمالها، وهو جحد لحقيقة الإلهية، فإنَّ ذاتًا لا تسمعُ ولا تُبْصر ولا تَتَكَلَّم ولا ترضَى ولا تَغْضَب ولا تَفْعَل شيئًا، وليست داخلَ العالَم ولا خارجه ولا متَّصلَة بالعالَم ولا مُنْفَصلَة ولا مُجانبَة ولا مُباينة ولا فَوْقَ العَرْش ولا تَحْته ولا خَلْفَه ولا أَمامَه ولا عن يَمينه ولا عن شماله، سواءٌ والعَدَم.
والمشرك مقرّ بالله وصفاته ولكن عنده معه غيره، فمُعَطّل الذات والصّفات شَرٌّ منه.
فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحَقّ سبحانه من أَسمائه وصفاته ونُعُوت كَماله وتوحيده وهذه الثلاثة هي أَشرفُ عُلُوم الخلائق، علْمُ الأَمْر والنَّهْى، وعلْمُ الأَسماء والصّفات والتَّوْحيد، وعلْمُ المعَاد واليَوْم الآخر.
قال: الثانية: عين اليَقين وهو المَعْنىّ بالاسْتدْراك عن الاسْتدْلال، وعن الخَبَر بالعَيان، وخَرْق الشُّهود حجابَ العلْم.
والفَرْقُ بين علْم اليَقين وعَيْن اليقين كالفَرْق بين الخَبَر الصادق والعَيان، وحَقُّ اليَقين فَوْقَ هذا.
وقد مُثّلَت المراتب الثلاثة بمن أَخبرك أَنَّ عنده عَسَلًا وأَنت لا تَشُكَّ في صدْقه، تمَّ أَراك إيّاه فازددت يقينا، ثم ذُقْت منه، فالأَوّل علْمُ يَقين، والثانى عَيْنُ يَقين؛ والثالث حَقُّ يَقين.
فعلْمُنا الآن بالجنَّة والنَّار علْمُ يَقينٍ، فإذا أَزْلفَت الجنَّة في المَوْقف وشاهَدَها الخلائقُ، وبُرّزت الجَحيم وعاينها الخلائق، فذلك عَيْنُ اليَقين، فإذا دخل أَهلُ الجنَّة الجنَّةَ وأَهلُ النَّار النَّارَ فذلك هو حَق اليقين.
وقوله المَعْنَىُّ بالاسْتدراك عن الاسْتدلال، يُريد بالاسْتدراك الإدْراكَ والشُّهودَ، يعنى أَنَّ صاحبَه قد استغنَى به عن طَلَب الدّليل، فإنَّه إنَّما يَطْلُب الدَّليلَ ليحصلَ له العلَمُ بالمَدْلُول فإذا كان المدلولُ مُشاهَدًا له وقد أدركه بكَشْفه، فأَىّ حاجة به إلى الاستدرال؟ وهذا معنى الاستغناء عن الخَبَر بالعَيان.
وأَمّا قوله وخَرْق الشهود حجابَ العلم، فيريد به أَنَّ المعارف التي تحصُل لصاحب هذه الدرجة هي من الشُّهود الخارق لحجاب العلْم، فإنَّ العلْم حجابٌ على المَشْهُود، ففى هذه الدّرجة يرتفع الحجابُ ويُفْضى إلى المعلوم بحيث يُكافحُ قَلْبَه وبَصيرَتَه.
ثمّ قال: والدّرجة الثالثة حَقُّ اليَقين، وهو إسْفارُ صُبْح الكَشْف، ثم الخلاصُ من كُلْفَة اليَقين، ثم الفناءُ في حَقّ اليقين.
انتهى كلامه.
والحق إنَّ هذه الدّرجة لا ينالها في هذا العالم إلاَّ الرّسلُ صلوات الله وسلامه عليهم، فإنَّ نبيّنا صلَّى الله منه إليه بلا واسطة وكَلَّمة تكليمًا، وتَجَلَّى للجبل وموسى ينظر فجَعَلَه دكًّا هشيمًا، فحصل لهما حقُّ اليقين، وهو ذَوْقُ ما أَخبر به الرّسولُ من حقائق الإيمان المتعلّقة بالقلوب، وأَنَّ القلبَ إذا باشرها وذاقَها صارت في حقّه حَقَّ يقين.
وأَمّا في أُمُور الآخرةَ والمعاد، ورُؤية الله جَهْرَةً عيانًا، وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة، فحظُّ المُؤمن منه في هذه الدّار الإيمانُ به.
وعلْمُ اليَقين وحَقُّ اليقين يتأَخَّر إلى وقت اللّقاء، لكنَّ السّالك عند القوم ينتهى إلى الفناء ويتحقَّق شهود الحقيقة، ويصل إلى عين الجمع.
قال: حقّ اليقين هو إسفار صبح الكَشْف، يعنى تحقُّقه وثُبُوته وغَلَبَة نوره على ظُلْمَة ليل الحجاب، فينتقل من طَوْر العلم إلى الاسْتغْراق في الفَناء عن الرّسْم بالكُلّيَّة.
وقولُه ثُمّ الخلاصُ من كلفة اليقين، يعنى أَنَّ اليقين له حقوق يجب على صاحبه أَن يؤدّيَها ويقومَ به ويَتَحَمَّل كُلَفَها ومَشاقَّها، فإذا فَنىَ في التَّوْحيد حَصَل له أُمورٌ أُخرَى رفيعةٌ عالية جدًّا يصير فيها محمولًا بعد أَن كان حاملًا، وظاهرًا بعد أَن كان ساترًا، فتزول عنه كلفةُ حَمْل تلك الحقوق.
وهذا أَمْرٌ التَحاكُمُ فيه إلى الذَّوْق والإحساس، فلا تَذْهَب إلى إنكاره، وتأَمَّلْ حالَ ذلك الصّحابىّى الذي أَخذ تَمَراتٍ وقعد يَأْكُلها على حاجَةٍ وفاقَةٍ إليها، فلمَّا عايَنَ سُوقَ الشهادة قد قامت أَلْقَى قُوتَه منْ يَده وقال: إنها لحياةٌ طويلة إنْ بَقيتُ حَتَّى آكُل هذه التَّمرات وأَلْقَاها من يده، وقاتَلَ حتى قُتلَ، وكذلك أَحوال الصَّحابة رضى الله عنهم كانت مطابقةً لما أَشار إليه.
لكن بَقيَتْ نُكتةٌ عظيمة، وهى مَوْضعُ السجدة، وهى أَنَّ فَناءَهم لم يكن في توحيد الرُّبُوبيَّة وشهود الحقيقة التي يشير إليها أَرباب الفناء، بل في توحيد الإلهيّة، فعَنوا بحُبّه تعالى عن حُبّ ما سواه، وبُمراده منهم عن مرادهم. وحظوظهم، فلم يكونوا عاملين على فناءٍ ولا استغراق في الشُّهود، بحيث فَنُوا به عن مُراد محبوبهم، بل فَثُوا بمُراده عن مُرادهم، فهم أهل فَناء في بَقاءٍ، وفَرْق في جَمْع، وكَثْرَة في وَحْدَة، وحقيقةٍ كَوْنيَّة في حقيقة دينيَّة.
هم القَوْمُ لا قَوْمَ إلاَّ هُمُ ** ولولاهُمُ ما اهْتَدَينا السَّبيلا

فنسبة أَحوالهم إلى أَحوال غيرهم كنسبة ما يَرشَحُه الظَّرْفُ والقرْبة إلى ما في داخلها، والله أَعلم.
قال بعض العارفين:
اليقين الصّريح رُؤيَتُك الَشْى ** ءَ للفْؤاد فيه هُيامُ

لم يُغَيّرْكَ فيه ذَمٌّ ولا يَطعَنْـ ** كَ مَدْحٌ ولا عَلَيْه كَلامُ

اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ فَلَا تَكُنْ في مرْيَةٍ منْ لقَائه وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبَني إسْرَائيلَ (23)}.
فلا تكن في مرية من لقائه غدًا لنا ورؤيته لنا.
{وَجَعَلْنَاهُ هُدًًى لّبَنى إسْرَاءيلَ}.
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم جُعلَ رحمةً للعالمين.
{وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بآيَاتنَا يُوقنُونَ (24)}.
لمّا صبروا على طلبنا سَعدوا بوجودنا، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى مُتبعيهم وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلهم؛ فهم للخلْق هُداةٌ، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم.
{إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقيَامَة فيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلفُونَ (25)}.
يحكم بينهم، وعند ذلك يتبين المردودُ من المقبول، والمهجور من الموصول، والرضيّ من الغوّي، والعدو من الوليّ. فكم من بهجةٍ دامت هنالك! وكم من مهجة ذابت عند ذلك!. اهـ.