فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومناسبة ذكر ذلك هنا أنه وقع عقب الإشارة إلى دليل وقوع البعث وهو يوم الفصل.
ويجوز أن يعطف على جملة {وقالوا أإذا ضَلَلْنا في الأرض إنّا لفي خلق جديد} [السجدة: 10].
والمعنى: أنهم كذبوا بالبعث وما معه من الوعيد في الآخرة وكذّبوا بوعيد عذاب الدنيا الذي منه قوله تعالى: {ولنُذيقَنَّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} [السجدة: 21].
والفتح: النصر والقضاء.
والمراد به: نصر أهل الإيمان بظهور فوزهم وخيبة أعدائهم فإن خيبة العدوّ نصر لضده وكان المسلمون يتحدّون المشركين بأن الله سيفتح بينهم وينصرهم وتظهر حجتهم فكان الكافرون يكررون التهكم بالمسلمين بالسؤال عن وقت هذا الفتح استفهامًا مستعملًا في التكذيب حيث لم يحصل المستفهم عنه.
وحكاية قولهم بصيغة المضارع لإفادة التعجيب منه كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74] مع إفادة تكرر ذلك منهم واتخاذهم إياه.
والمعنى: إن كنتم صادقين في أنه واقع فبينوا لنا وقته فإنكم إذ علمتم به دون غيركم فلتعلموا وقته.
وهذا من السفسطة الباطلة لأن العلم بالشيء إجمالًا لا يقتضي العلم بتفصيل أحواله حتى ينسب الذي لا يعلم تفصيله إلى الكذب في إجماله.
واسم الإشارة في {هذا الفتح} مع إمكان الاستغناء عنه بذكر مبينه مقصود منه التحقير وقلة الاكتراث به كما في قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموتُ لا يلف حاجة ** لنفسي إلا قَدْ قضيت قضاءها

إنباء بقلة اكتراثه بالموت ومنه قوله تعالى حكاية عنهم: {أهذا الذي يذكر ءالهتكم} [الأنبياء: 36] فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم بأن يومَ الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل وحينئذ ينقطع أملَ الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظارًا لتدارك ما فاتهم، أي إفادتُهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح لأنهم يقولون يومئذ {ربنا أبصَرْنا وسمعْنا فارجعنا نعملْ صالحًا إنّا موقنون} [السجدة: 12] مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحلّ به {لا ينفعُ نفسًا إيمانُها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} [الأنعام: 158].
ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين: من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح، ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق، وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا.
وإظهار وصف {الذين كفروا في مقام الإضمار مع أنهم هم القائلون متى هذا الفتح} لقصد التسجيل عليهم بأن كفرهم هو سبب خيبتهم.
ثم فرع على جميع هذه المجادلات والدلالات توجيه الله خطابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عن هؤلاء القائلين المكذبين وأن لا يزيد في الإلحاح عليهم تأييسًا من إيمان المجادلين منهم المتصدّين للتمويه على دهمائهم.
وهذا إعراض متاركة عن الجدال وقتيًا لا إعراض مستمر، ولا عن الدعوة إلى الله ولا علاقة له بأحكام الجهاد المشروع في غير هذه الآية.
والانتظار: الترقب.
وأصله مشتق من النظر فكأنه مطاوع: أنظره، أي أراه فانتظر، أي: تكلف أن ينظُر.
وحذف مفعول {انتظر} للتهويل، أي: انتظر أيامًا يكون لك فيها النصر، ويكون لهم فيها الخسران مثل سني الجوع إنْ كان حصلت بعد نزول هذه السورة، ومثل يوم بدر ويوم فتح مكة وهما بعد نزول هذه السورة لا محالة، ففي الأمر بالانتظار تعريض بالبشارة للمؤمنين بالنظر، وتعريض بالوعيد للمشركين بالعذاب في الدارين.
وجملة {إنهم منتظرون} تعليل لما تضمنه الأمر بالانتظار من إضمار العذاب لهم.
ومفعول {منتظرون} محذوف دل عليه السياق، أي منتظرون لكم الفرصة لحربكم أو لإخراجكم قال تعالى: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30] وقال: {ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء} [التوبة: 98] أي لم نكن ظالمين في تقدير العذاب لهم لأنهم بدأوا بالظلم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إنْ كُنْتُمْ صَادقينَ (28)}.
أظهر أقوال أهل العلم عندي هو أن الفتح في هذه الآية الكريمة، هو الحكم والقضاء، وقد قدمنا أن الفتاح وهي لغة حميرية قديمة. والفتاحة الحكم والقضاء، ومنه قوله:
ألا من مبلغ عمرًا رسولًا ** بأني عن فتاحتكم غنى

وقد جاءت آيات تدل على أن الفتاح الحكم، كقوله تعالى عن نبيه شعيب: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89] أي احكم بيننا بالحق، وأنت خير الحاكمين.
وقوله تعالى عن نبيه نوح: {قَالَ رَبّ إنَّ قَوْمي كَذَّبُون فافتح بَيْني وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجّني وَمَن مَّعي منَ المؤمنين} [الشعراء: 117- 118] الآية. أي احكم بيني وبينهم حكمًا. وقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وَهُوَ الفتاح العليم} [سبأ: 26]. وقوله تعالى: {إن تَسْتَفْتحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] أي إن تطلبوا الحكم بهلاك الظالم منكم، ومن النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءكم الفتح: أي الحكم بهلاك الظالم وهو هلاكهم يوم بدر، كما قاله غير واحد، وقد ذكروا أنهم لما أرادوا الخروج إلى بدر، جاء أبو جهل، وتعلق بأستار الكعبة وقال: اللهم إنا قطان بيتك نسقب الحجيج، ونفعل ونفعل، وإن محمدًا قطع الرحم وفرق الجماعة، وعاب الدين، وشتم الآلهة، وسفه أحلام الآياء، اللهم أهلك الظالم منا ومنه فطلب الحكم على الظالم، فجاءهم الحكم على الظالم فقتلوا ببدر، وصاروا إلى الخلود في النار إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى قول من قال: من أهل العلم إن المراد بالفتح في الآية الحكم والقضاء بينهم يوم القيامة فلا إشكال في قوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إيَمَانُهُمْ} وعلى القول بأن المراد بالفتح في الآية الحكم بينهم في الدنيا بهلاك الكفار. كما وقع يوم بدر، فالظاهر أن معنى قوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إيَمَانُهُمْ} أي إذا عاينوا الموت، وشاهدوا القتل بدليل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بمَا كُنَّا به مُشْركينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ في عبَاده وَخَسرَ هُنَالكَ الكافرون} [غافر: 84- 85] وقوله تعالى: {وَلَيْسَت التوبة للَّذينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إنّي تُبْتُ الآن} [النساء: 18] الآية. وقوله تعالى في فرعون: {حتى إذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إلاَّ الذي آمَنَتْ به بنوا إسْرَائيلَ وَأَنَا منَ المسلمين آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ منَ المفسدين} [يونس: 90- 91] ولا يخفى أن قول من قال من أهل العلم: إن الفتح في هذه الآية: فتح مكة أنه غير صواب بدليل قوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إيَمَانُهُمْ} ومعلوم أن فتح مكة لا يمنع انتفاع المؤمن في وقته بإيمانه كما لا يخفى.
قوله تعالى: {وانتظر إنَّهُمْ مُّنتَظرُونَ}.
جاء معناه موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعرٌ نَّتَرَبَّصُ به رَيْبَ المنون قُلْ تَرَبَّصُوا فَإنّي مَعَكُمْ مّنَ المتربصين} [الطور: 30- 31] ومعلوم أن التربص هو الانتظار. وقوله تعالى: {قُل انتظروا إنَّا مُنتَظرُونَ} [الأنعام: 158] إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا منْ قَبْلهمْ منَ الْقُرُون يَمْشُونَ في مَسَاكنهمْ}.
الحق- سبحانه وتعالى- تكلم عن الرسالة التي أرسل بها رسوله صلى الله عليه وسلم ليؤكد في الناس عقيدة أعلى، وهي عقيدة الوجود للإله الواحد الذي لا شريك له، ثم بيَّن أن لنا مع الله لقاء آخر حين تنتهي هذه الدنيا الفانية، ثم نستقبل حياة خالدة، إما إلى جنة إنْ شاء الله، وإما إلى نار ونعوذ بالله.
والحق سبحانه حين يعرض آياته في الكون يعرضها لتثبت أنه هو الذي خلق هذه الآيات العجيبة، فلم يتركنا سبحانه ننظر وننصرف إنما لفتنا ونبَّهنا إلى وجوب النظر إلى آياته في الكون، وحين يأتي مَنْ يريد أنْ يُنبه عقلك فاعلم أنه لا يريد أنْ يخدعك، أو أن يأخذك على غرَّة، فربك يقول لك: استقبل كلامي هذا بمنتهى التدُّبر والتذكُّر والتعقُّل.
ولو لم يكُنْ واثقًا من أنه سيصل بالتدبُّر والتعقُّل والتذكر إلى الغاية التي يريدها لما نبَّه عقلَك لآياته، كما ترى عارض السلعة الجيدة الواثق من جودتها يعرضها عليك، ويكشفها لك، ويدعوك إلى فحصها وتأمُّل ما فيها، فهو لا يفعل ذلك إلا لثقته في بضاعته وأنها ستنال رضاك.
أما صاحب السلعة المغشوشة فيخدعك ويسلك معك أساليب اللفَّ والدوران والتغرير، فحين تدهب مثلًا لشراء حذاء وجاء ضيقًا يقول لك: سيتسع بعدما تمشي فيه، فإنْ جاء واسعًا يقول لك: أحضر لك واحدًا أوسع؟ ليوهمك أنه ضيّق، وأساليب هؤلاء مكشوفة لا تخفى على أحد، فالذي يريد أنْ يغشَّ أو يخدع يلف القضايا ليسترها عن عقلك المتدبر المتذكر المتمعن.
أما الحق سبحانه، فكثيرًا ما قال في قرآنه: أفلا يسمعون، أفلا يعقلون، أفلا يتدبرون القرآن؛ لذلك من مصلحة الدعوة أنْ يتعقلها الناس، وأن يتدبروها، في حين أن بعض أصحاب الديانات الأخرى يقول لك حين تناقشه: أبعدْ العقل عن هذه المسألة، لماذا؟ لأنه واثق أنها لو بُحثَتْ بالعقل لردها العقل ولم يقبلها- والحق سبحانه يريد إلاَّ يترك عذرًا لأحد في البلاغ، فالدعوة قد بلغتْ الجميع بلاغًا سليمًا واضحًا، تلك آيات الله في الكون.
ثم يأتي الحق سبحانه بآيات معجزة ليثبت صدْق الرسول، فيجعلها تخالف نواميس الكون فيما نبغ فيه القوم ليقطع عليهم الحجة، ثم يأتي بآيات الأحكام التي تحمل المنهج بافعل ولا تفعل، ويُبيّن أنَّ صلاح حركة الحياة في تطبيق هذا المنهج ويترك للمخالفات أن تُظهر بعض العيوب، فإذا ما نظرتَ إلى عيب أو عورة في المجتمع عرفتَ أنها نتيجة طبيعية لمخالفة منهج الله، فكأن المخالفة ذاتها من مُؤكّدات الحكم.
ثم يُبيّن سبحانه أنه أرسل رسلًا كثيرين من لَدُنْ آدم عليه السلام؛ لأن الإنسان الذي هو خليفته في الكون تصيبه غفلة حين ينخرط في أسباب الدنيا، وتأخذ عليه كل فكره وكل همه، فينسى ما طلب الله منه، فمن عادة الإنسان ألاَّ يتذكر إلاَّ ما ينفعه النفع العاجل.
لذلك نجد كثيرًا من الناس ينسى ما للناس عنده، ويتذكر ما له عندهم.
فالحق سبحانه يقول: أنا لم يَعُدْ لخَلْقي عندي حجة، فقد نثرتُ لهم آيات الكون المُلْفتة، وهي آيات واضحات لم يدَّعها أحد لنفسه، ومع كثرة الملحدين والكافرين لم نَرَ أبدًا من ادَّعى خَلْق الشمس أو القمر، ولم يقُلْ أحد: إنني أُسيّر الريح، أو أُنبت الزرع، أو أُنزل الماء من السحاب.
والحق سبحانه يُنبهنا أيضًا: لا تنْس أيها الإنسان أنك خليفة لله في الأرض، وإياك أنْ تظن أنك أصيل فيها، فساعةَ تظن أنك أصيل في الدنيا يتخلى الله عنك، ويتركك لنفسك فتهلك، كما حدث لقارون حين وسَّع الله عليه في الدنيا، فاغترَّ بما في يده، وظن أنه من سعيه وعلمه وجهده.
فكانت النتيجة {فَخَسَفْنَا به وَبدَاره الأرض} [القصص: 81] لينبه الناس جميعًا أن المال ليس مال صاحبه، إنما هو مُستْخلف فيه، ولو كان ماله لحافظ عليه، فالحق يردُّ الناس بالأحداث إلى طبيعة الفطرة الخلافية، لأن فساد الكون يأتي من اعتبار الإنسان نفسه أصيلًا في الكون.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الإنسان إذا نظر في الكون نظرة فاحصة عادلة لَعلم ما يأتي: أن كل شيء لم تتدخل فيه يَدُ الإنسان سليم، ويؤدي مهمته على أكمل وجه، وأن كل فساد في الكون إنما هو من تدخُّل الإنسان فيه بغير قانون ربه، ولو تدخَّل فيه بقانون ربه لَصَلُحت له الأشياء التي تدخَّل فيها، كما صَلُحَتْ له الأشياء التي لم يتدخل فيها.
وقلنا: إنك إذا رأيتَ عوارًا في الكون فاعلم أنه نتيجة حقٍّ مُضيَّع من حقوق الله، فحين ترى فقيرًا يتضوَّر جوعًا أو عريانًا لا يملك ما يستر عورته، فاعلم أن الأغنياء قصَّروا في أداء حق الله في الزكاة؛ لأن الله تعالى شرعها بحساب، فلو أن القادر أخرج الزكاة المفروضة في ماله لما بقي في المجتمع المحيط به محتاج.
ثم يريد منا الحق سبحانه أن نحافظ في نفوسنا على إيمان الفطرة، وعلى الذرة الإيمانية الأولى التي لم تدخلها الشهوة، ولم يخالطها النسيان، هذه الذرة التي شهدت العهد الأول الذي قال الله فيه: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بني ءَادَمَ من ظُهُورهمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسهمْ أَلَسْتُ برَبّكُمْ قَالُوا بلى شَهدْنَآ أَن تَقُولُوا يَوْمَ القيامة إنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافلينَ} [الأعراف: 173].
أي: قبل أنْ تأخذكم شهوات الدنيا ونسيانها فتُنكروا هذه الشهادة، وتقولون: {إنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافلينَ أَوْ تقولوا إنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا من قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدهمْ أَفَتُهْلكُنَا بمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172-173].
فالذي يحافظ على هذه الذرة، وعلى هذه اللمسة الربانية التي وضعها الله فيه بيده، وعلى العهد الذي أخذه الله عليه يبقى له نور هذه الفطرة، وتظل هذه النورانية متأججة في نفسه، فإن أهملها طمستْها الذنوب والغفلة.
لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يضرب لنا المثل فيقول: «تُعرض الأمانة» أي: التكاليف الاختيارية من الله «على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّما قلب أُشْربها نُكتَتْ فيه نكتة بيضاء، وأيُّما قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة سوداء حتى تكون على قلبين: أبيض مثل الصَّفا، لا تضره فتنة ما دامتْ السماوات والأرض، والآخر أسود مُربَادًا كالكوز مجَخَّيًا ممقوتًا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرًا».
فالطاعات أو الذنوب تتراكم على القلب كما تُصَفُّ عيدان الحصير عودًا بجوار عود، فيبيضّ القلب بالطاعات، أو يسودّ بالمعاصي.
والإنسان منه مادة ومنه روح، الروح في المادة تعطيها الحياة والحركة والفهم والفكر والتصرف، وهما قبل أن يلتقيا كانا مُسبّحَيْن لله تعالى، فكل شيء في الوجود مُسبّح {كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبيحَهُ} [النور: 41].
وعلى الإنسان أنْ يفهم هذه الحقيقة، وأن يحافظ على الطبيعة الإيمانية في ذراته ومكوناته لتظل مشرقة نيَّرة بنور الإيمان، فإنْ غفل عن هذه الطبيعة حدثتْ الأغيار، وحدث عدم الانسجام بين ذراته في الذات البشرية، فحين تحمل إرادتُك الجسمَ والروحَ على المعصية يكرهك جسمك، وتكرهك روحك؛ لأنك خالفتَ منهج خالقها- عز وجل- فهي مُسبّحة عابدة وأنت لاهٍ غافل عَاصٍ؛ لذلك تلعنك روحك وتلعنك أبعاضك.
ومن رحمة الله بالعاصي أن ينام فترتاح أبعاضه، وترتاح روحه من معاصيه، وتأخذ راحتها في عبادة ربها، حيث لا منازع لها، ولا معاند من إرادة صاحبها، لذلك يشعر الإنسان بالراحة عند النوم، ويقوم منه نشيطًا لما حدث من انسجام وتعادل بين ذرات ذاته أثناء النوم.
لذلك ورد أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تنام عينه ولا ينام قلبه؛ لأن أبعاضه منسجمة دائمًا في نومه وفي يقظته، فإذا رأيتَ إنسانًا يغلب عليه أنه مُنْهك القوى فاعرف أنه قد أتعب ذراته، وأنها تودُّ الخلاص منه بالنوم، وكأنها تقول له نَمْ فلم تَعْدُ صالحًا للتعايش معي.