فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَنُذيقَنَّهُمْ} أي: أهل مكة: {منَ الْعَذَاب الْأَدْنَى} أي: عذاب الدنيا، من الجدب، والقتل، والأسر: {دُونَ الْعَذَاب الْأَكْبَر} يعني عذاب الآخرة: {لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} أي يتوبون عن الكفر أي: يرجعون إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى، قبل الرين بكثافة الحجاب: {وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّن ذُكّرَ بآيَات رَبّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أي: جحدها وكفر بها: {إنَّا منَ الْمُجْرمينَ مُنتَقمُونَ} أي: بالعذاب، وإظهار المتقين عليهم.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ} أي: التوراة: {فَلَا تَكُن في مرْيَةٍ مّن لّقَائه} أي: لقاء الكتاب الذي هو القرآن، وعود الضمير إلى الكتاب المتقدم، والمراد غيره على طريق الاستخدام، أو إرادة العهد، أو تقدير مضاف، أي: تلقي مثله، أي: فلا تكن في مرية من كونه وحيًا متلقى من لدنه تعالى. والمعنى: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيّناه من الوحي مثل ما لقيناك، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله.
ونهيُه صلى الله عليه وسلم عن الشك، المقصود به نهي أمته، والتعريض بمن صدر منه مثله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَني إسْرَائيلَ} أي: من الضلالة: {وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا} أي: قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا: {لَمَّا صَبَرُوا} أي: على العمل به، والاعتصام بأوامره: {وَكَانُوا بآيَاتنَا يُوقنُونَ} أي: يصدقون أشد التصديق وأبلغه. والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه، هدىً لأمتك، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية.
ويؤخذ من فحوى الآية، أن بني إسرائيل لَمّا نبذوا الاعتصام بالكتاب، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفقدوا الاستيقان بحقيّة الإيمان، فغيّروا وبدّلوا، سُلبُوا ذلك المقام، وأَديل عليهم انتقامًا منهم؛ وتلك سنته تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيّرُ مَا بقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بأَنْفُسهمْ} [الرعد: 11]، ففي طي هذا الترغيب، ترهيبٌ وأي ترهيبٍ.
{إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصلُ} أي: يقضي: {بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقيَامَة فيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلفُونَ} أي: فيميز الحق من الباطل، بتمييز المحق من المبطل: {أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ} أي: يتبين لكفار مكة: {كَمْ أَهْلَكْنَا من قَبْلهم مّنَ الْقُرُون} أي: الماضية بعذاب الاستئصال: {يَمْشُونَ في مَسَاكنهمْ} أي: منازلهم، كمنازل قوم شعيب، وهود، وصالح، ولوط عليهم السلام، فلا يرون فيها أحدًا ممن كان يعمرها ويسكنها، ذهبوا كأن لم يغنوا فيها؛ كما قال: {فَتلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاويَةً بمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]، {إنَّ في ذَلكَ} أي: فبما فعلنا بهم: {لَآيَاتٍ} أي: عبرًا، ومواعظ، ودلائل متناظرة: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} أي: أخبار من تقدم، كيف صار أمرهم بسبب تكذيبهم الرسل، وبغيهم الفساد في الأرض، فيحملهم ذلك على الإيمان.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إلَى الْأَرْض الْجُرُز} وهي التي جزر نباتها، أي: قطع: {فَنُخْرجُ به زَرْعًا تَأْكُلُ منْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} يعني العشب والثمار والبقول: {أَفَلَا يُبْصرُونَ} أي: فيستدلون به على كمال قدرته، ووجوب انفراده بالإلهية. وهذا كآية: {فَلْيَنْظُر الْإنْسَان إلَى طَعَامه أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 24- 25] الآية.
{وَيَقُولُونَ} أي: كفار مكة: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} أي: الانتصار علينا، استعجال لوقوع البأس الرباني عليهم، الذي وعدوا به، واستبعاد له {إن كُنتُمْ صَادقينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْح لَا يَنفَعُ الَّذينَ كَفَرُوا إيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} لحلول ما يغشي الأبصار، ويعمي البصائر، وظهور منار الإيمان، وزهوق الفريق الكافر.
قال ابن كثير: أي: إذا حل بكم بأس الله، وسخطه، وغضبه في الدنيا والآخرة، لا ينفع الذين كفروا إيمانهم، ولا هم ينظرون، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالْبَيّنَات فَرحُوا بمَا عنْدَهُمْ منَ الْعلْم} [غافر: 83] الآيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتحَ مكة، فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح، قد قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إسلامَ الطلقاء، وقد كانوا قريبًا من ألفين، ولو كان المراد فتح مكة، لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْح لَا يَنفَعُ الَّذينَ كَفَرُوا إيمَانُهُمْ} وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل، كقوله: {فَافْتَحْ بَيْني وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء: 118]، وكقوله: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالْحَقّ} [سبأ: 26] الآية.، وقال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيدٍ} [إبراهيم: 15]، وقال تعالى: {إنْ تَسْتَفْتحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19].
{فَأَعْرضْ عَنْهُمْ} أي: عن المشركين، ولا تبال بهم، وبلغ ما أنزل إليك من ربك: {وَانتَظرْ} أي: النصرة عليهم، فإن الله سينجز لك ما وعدك، إنه لا يخلف الميعاد: {إنَّهُم مُّنتَظرُونَ} أي: ما في نفوسهم، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعرٌ نَتَرَبَّصُ به رَيْبَ الْمَنُون} [الطور: 30]، {وَيَتَرَبَّصُ بكُمُ الدَّوَائرَ} [التوبة: 98]، أي: وسيجدون مغبة انتظارهم من وبيل عقابه تعالى، وأليم عذابه بهم. اهـ.

.قال سيد قطب:

{الم (1) تَنْزيلُ الْكتَاب لَا رَيْبَ فيه منْ رَبّ الْعَالَمينَ (2)}.
ألف لام ميم هذه الأحرف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب؛ ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن؛ وهو فارق يدركه كل خبير بالقول، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار.
كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية، وعنصرًا مستكنًا، يجعل لها سلطانًا وإيقاعًا في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة، مما يقوله البشر في جميع الأعصار. وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها، لأن السامع يدركها، ويميزها، ويهتز لها، من بين سائر القول، ولو لم يعلم سلفًا أن هذا قرآن! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس.
والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء. صنعة الله واضحة مميزة، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء. وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور. وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام!.
ألف. لام. ميم {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين}. قضية مقطوع بها، لا سبيل إلى الشك فيها. قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين. ويعجل السياق بنفي الريب في منتصف الآية، بين المبتدأ فيها والخبر، لأن هذا هو صلب القضية، والنقطة المقصودة في النص. والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطعة يضع المرتابين الشاكين وجهًا لوجه أمام واقع الأمر، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه. فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون؛ ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه، أمام التجربة الواقعة، وأمام موازين القول التي يقر بها الجميع.
إن كل آية وكل سورة تنبض بالعنصر المستكن العجيب المعجز في هذا القرآن؛ وتشي بالقوة الخفية المودعة في هذا الكلام. وإن الكيان الإنساني ليهتز ويرتجف ويتزايل ولا يملك التماسك أمام هذا القرآن، كلما تفتح القلب، وصفا الحس، وارتفع الإدراك، وارتفعت حساسية التلقي والاستجابة. وإن هذه الظاهرة لتزداد وضوحًا كلما اتسعت ثقافة الإنسان، ومعرفته بهذا الكون وما فيه ومن فيه. فليست هي مجرد وهلة تأثيرية وجدانية غامضة. فهي متحققة حين يخاطب القرآن الفطرة خطابًا مباشرًا. وهي متحققة كذلك حين يخاطب القلب المجرب، والعقل المثقف، والذهن الحافل بالعلم والمعلومات. وإن نصوصه ليتسع مدى مدلولاتها ومفهوماتها وإيقاعاتها على السواء كلما ارتفعت درجة العلم والثقافة والمعرفة، ما دامت الفطرة مستقيمة لم تنحرف ولم تطمس عليها الأهواء مما يجزم بأن هذا القرآن صنعة غير بشرية على وجه اليقين، وأنه تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.
{أم يقولون افتراه}.
ولقد قالوها فيما زعموه متعنتين. ولكن السياق هنا يصوغ هذا القول في صيغة المستنكر لأن يقال هذا القول أصلًا: {أم يقولون افتراه}.
هذه القولة التي لا ينبغي أن تقال؛ فتاريخ محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ينفي هذه الكلمة الظالمة من جهة؛ وطبيعة هذا الكتاب ذاتها تنفيه أصلًا، ولا تدع مجالًا للريب والتشكك:
{بل هو الحق من ربك}.
الحق. بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحق الأزلي؛ وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت، المستقر في كيانه، الملحوظ في تناسقه، واطراد نظامه، وثبات هذا النظام، وشموله وعدم تصادم أجزائه، أو تناثرها، وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها.
الحق. بترجمته لنواميس هذا الوجود الكبير ترجمة مستقيمة؛ وكأنما هو الصورة اللفظية المعنوية لتلك النواميس الطبيعية الواقعية العاملة في هذا الوجود.
الحق. بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلية، وما يعقده بينهم وبين قوى الكون كله من سلام وتعاون وتفاهم وتلاق. حيث يجدون أنفسهم في صداقة مع كل ما حولهم من هذا الكون الكبير.
الحق. الذي تستجيب له الفطرة حين يلمسها إيقاعه، في يسر وسهولة، وفي غير مشقة ولا عنت. لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم.
الحق. الذي لا يتفرق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج الحياة البشرية كاملًا؛ ويلحظ في هذا المنهاج كل قواها وكل طاقاتها، وكل نزعاتها وكل حاجاتها، وكل ما يعتورها من مرض أو ضعف أو نقص أو آفة، تدرك النفوس وتفسد القلوب.
الحق. الذي لا يظلم أحدًا في دنيا أو آخرة. ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة. ولا يظلم فكرة في القلب أو حركة في الحياة، فيكفها عن الوجود والنشاط، ما دامت متفقة مع الحق الكبير الأصيل في صلب الوجود.
{بل هو الحق من ربك}. فما هو من عندك، إنما هو من عند ربك. وهو رب العالمين كما قال في الآية السابقة؛ إنما هذه الإضافة هنا للتكريم. تكريم الرسول الذي يتهمونه بالافتراء. وإلقاء ظلال القربى بينه وبين ربه رب العالمين. ردًا على الاتهام الأثيم. وتقريرًا للصلة الوثيقة التي تحمل مع معنى التكريم معنى وثاقة المصدر وصحة التلقي. وأمانة النقل والتبليغ.
{لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون}.
والعرب الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم لم يرسل إليهم أحد قبله؛ ولا يعرف التاريخ رسولًا بين إسماعيل عليه السلام جد العرب الأول وبين محمد صلى الله عليه وسلم وقد نزل الله عليه هذا الكتاب الحق، لينذرهم به. {لعلهم يهتدون} فهدايتهم مرجوة بهذا الكتاب، لما فيه من الحق الذي يخاطب الفطر والقلوب.
هؤلاء القوم الذين نزل الله الكتاب لينذرهم به رسوله صلى الله عليه وسلم كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى.
فهنا يبدأ ببيان صفة الله التي يعرفون بها حق ألوهيته سبحانه، ويميزون بها بين من يستحق هذا الوصف العظيم: الله ومن لا يستحقونه ولا يجوز أن يقرنوا إلى مقام الله رب العالمين:
{الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون}.
ذلك هو الله، وهذه هي آثار ألوهيته ودلائلها. هذه هي في صفحة الكون المنظور. وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود. وفي نشأة الإنسان وأطواره التي يعرفها الناس، والتي يطلعهم عليها الله في كتابه الحق المبين.
{الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام}.
والسماوات والأرض وما بينهما هي هذه الخلائق الهائلة التي نعلم عنها القليل ونجهل عنها الكثير. هي هذا الملكوت الطويل العريض الضخم المترامي الأطراف، الذي يقف الإنسان أمامه مبهورًا مدهوشًا متحيرًا في الصنعة المتقنة الجميلة المنسقة الدقيقة التنظيم. هي هذا الخلق الذي يجمع إلى العظمة الباهرة، الجمال الأخاذ. الجمال الحقيقي الكامل، الذي لا يرى فيه البصر، ولا الحس، ولا القلب، موضعًا للنقص؛ ولا يمل المتأمل التطلع إليه مهما طالت وقفته؛ ولا يذهب التكرار والألفة بجاذبيته. المتجددة العجيبة. ثم هي هذه الخلائق المنوعة، المتعددة الأنواع والأجناس والأحجام والأشكال والخواص والمظاهر والاستعدادات والوظائف، الخاضعة كلها لناموس واحد، المتناسقة كلها في نشاط واحد، المتجهة كلها إلى مصدر واحد تتلقى منه التوجيه والتدبير، وتتجه إليه بالطاعة والاستسلام.
والله. هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما. فهو الحقيق سبحانه بهذا الوصف العظيم.
{خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام}.
وليست هي قطعًا من أيام هذه الأرض التي نعرفها. فأيام هذه الأرض مقياس زمني ناشئ من دورة هذه الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة، تؤلف ليلًا ونهارًا على هذه الأرض الصغيرة الضئيلة، التي لا تزيد على أن تكون هباءة منثورة في فضاء الكون الرحيب! وقد وجد هذا المقياس الزمني بعد وجود الأرض والشمس. وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة!.
أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة في القرآن فعلمها عند الله؛ ولا سبيل لنا إلى تحديدها وتعيين مقدارها. فهي من أيام الله التي يقول عنها: {وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون}.
تلك الأيام الستة قد تكون ستة أطوار مرت بها السماوات والأرض وما بينهما حتى انتهت إلى ما هي عليه. أو ستة مراحل في النشأة والتكوين. أو ستة أدهار لا يعلم ما بين أحدها والآخر إلا الله. وهي على أية حال شيء آخر غير الأيام الأرضية التي تعارف عليها أبناء الفناء. فلنأخذها كما هي غيبًا من غيب الله لا سبيل إلى معرفته على وجه التحديد. إنما يقصد التعبير إلى تقرير التدبير والتقدير في الخلق، وفق حكمة الله وعلمه. وإحسانه لكل شيء خلقه في الزمن والمراحل والأطوار المقدرة لهذا الخلق العظيم.
{ثم استوى على العرش}.
والاستواء على العرش رمز لاستعلائه على الخلق كله. أما العرش ذاته فلا سبيل إلى قول شيء عنه، ولابد من الوقوف عند لفظه. وليس كذلك الاستواء. فظاهر أنه كناية عن الاستعلاء. ولفظ. ثم، لا يمكن قطعًا أن يكون للترتيب الزمني، لأن الله سبحانه لا تتغير عليه الأحوال. ولا يكون في حال أو وضع سبحانه ثم يكون في حال أو وضع تال. إنما هو الترتيب المعنوي. فالاستعلاء درجة فوق الخلق، يعبر عنها هذا التعبير.
وفي ظلال الاستعلاء المطلق يلمس قلوبهم بالحقيقة التي تمسهم:
{ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع}.
وأين؟ ومن؟ وهو سبحانه المسيطر على العرش والسماوات والأرض وما بينهما؟ وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما؟ فأين هو الولي من دونه؟ وأين هو الشفيع الخارج على سلطانه؟
{أفلا تتذكرون}.
وتذكر هذه الحقيقة يرد القلب إلى الإقرار بالله، والاتجاه إليه وحده دون سواه.
ومع الخلق والاستعلاء. التدبير والتقدير. في الدنيا والآخرة. فكل أمر يدبر في السماوات والأرض وما بينهما يرفع إليه سبحانه في يوم القيامة، ويرجع إليه مآله في ذلك اليوم الطويل:
{يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}.
والتعبير يرسم مجال التدبير منظورًا واسعًا شاملًا: {من السماء إلى الأرض} ليلقي على الحس البشري الظلال التي يطيقها ويملك تصورها ويخشع لها. وإلا فمجال تدبير الله أوسع وأشمل من السماء إلى الأرض. ولكن الحس البشري حسبه الوقوف أمام هذا المجال الفسيح، ومتابعة التدبير شاملًا لهذه الرقعة الهائلة التي لا يعرف حتى الأرقام التي تحدد مداها!.
ثم يرتفع كل تدبير وكل تقدير بمآله ونتائجه وعواقبه. يرتفع إليه سبحانه في علاه في اليوم الذي قدره لعرض مآلات الأعمال والأقوال، والأشياء والأحياء {في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}. وليس شيء من هذا كله متروكًا سدى ولا مخلوقًا عبثًا، إنما يدبر بأمر الله إلى أجل مرسوم. يرتفع. فكل شيء وكل أمر وكل تدبير وكل مآل هو دون مقام الله ذي الجلال، فهو يرتفع إليه أو يرفع بإذنه حين يشاء.