فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو}:

.قال الفخر:

اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد هاهنا فأجيب عنه بذكر الكمية، قال القفال: قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه ما فلان هذا؟ فيقول: هو رجل من مذهبه كذا، ومن خلقه كذا إذا عرفت هذا فنقول: كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه، سألوا عن مقدار ما كلفوا به، هل هو كل المال أو بعضه، فأعلمهم الله أن العفو مقبول. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَسْئلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلًا مع سؤالهم {ماذا ينفقون}، فعطفت الآية التي فيها جَوابُ سؤالهم {ماذا ينفقون} على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل {يسألونك} بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها.
ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق.

.قال البقاعي:

وفي تخصيص المنفق بالعفو منع لمتعاطي الخمر قبل حرمتها من التصرف، إذ كان الأغلب أن تكون تصرفاته لا على هذا الوجه، لأن حالة السكر غير معتد بها والتصرف فيها يعقب في الأغلب عند الإفاقة أسفًا وكذا الميسر بل هو أغلظ. ولعل تأخير بيان أن المحثوث عليه من النفقة إنما هو الفضل إلى هذا المحل ليحمل أهل الدين الرغبة فيه مع ما كانوا فيه من الضيق على الإيثار على النفس من غير أمر به رحمة لهم، ومن أعظم الملوحات إلى ذلك أن في بعض الآيات الذاكرة له فيما سلف {وآتى المال على حبه} [البقرة: 177]. قال الأصبهاني: قال أهل التفسير: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع ينظر ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، فإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يومه ذلك وتصدق بالباقي حتى نزلت آية الزكاة فنسختها هذه الآية. اهـ.

.قال الفخر:

قال الواحدي رحمه الله: أصل العفو في اللغة الزيادة، قال تعالى: {خُذِ العفو} [الأعراف: 199] أي الزيادة، وقال أيضًا: {حتى عَفَواْ} [الأعراف: 95] أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال القفال: العفو ما سهل وتيسر مما يكون فاضلًا عن الكفاية يقال: خذ ما عفا لك، أي ما تيسر ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعًا إلى التيسر والتسهيل، قال عليه الصلاة والسلام: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا ربع عشر أموالكم» معناه التخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرقيق، ويقال: أعفى فلان فلانًا بحقه إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة، وهو راجع إلى التخفيف ويقال: أعطاه كذا عفوًا صفوًا، إذا لم يكدر عليه بالأذى، ويقال: خذ من الناس ما عفا لك أي ما تيسر، ومنه قوله تعالى: {خُذِ العفو} [الأعراف: 199] أي ما سهل لك من الناس، ويقال للأرض السهلة: العفو وإذا كان العفو هو التيسير فالغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤنتهم فقول من قال: العفو هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرناه وجملة التأويل أن الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} [الإسراء: 26، 27] وقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] وقال: {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه، ثم بمن يعول وهكذا وهكذا» وقال عليه الصلاة والسلام: «خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف» وعن جابر بن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال: يا رسول الله خذها صدقة فوالله لا أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من بين يديه، فقال: هاتها مغضبًا فأخذها منه، ثم حذفه بها حيث لو أصابته لأوجعته، ثم قال: «يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره، ثم يجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها»، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة، وقال الحكماء: الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط، فالإنفاق الكثير هو التبذير، والتقليل جدًا هو التقتير، والعدل هو الفضيلة وهو المراد من قوله: {قُلِ العفو} ومدار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الدقيقة فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة، وشرع النصارى على المسامحة التامة، وشرع محمد صلى الله عليه وسلم متوسط في كل هذه الأمور، فلذلك كان أكمل من الكل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وأل في العفو للجنس المعروف للسامعين، والعفو مقول عليه بالتشكيك؛ لأنه يتبع تعيينَ ما يحتاجه المنفق والناسُ في ذلك متفاوتون، وجعل الله العفو كلَّه منفقًا ترغيبًا في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذَر، إذ كان يرى كنز المال حرامًا وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة، وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى قوله يكون أل في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب. اهـ.

.قال الماوردي:

وفي قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ستة تأويلات:
أحدها: بما فضل عن الأهل، وهو قول أبن عباس.
والثاني: أنه الوسط في النفقة ما لم يكن إسرافًا أو إقتارًا، وهو قول الحسن.
والرابع: إن العفو أن يؤخذ منهم ما أتوا به من قليل أو كثير، وهو قول مروي عن ابن عباس أيضًا.
والخامس: أنه الصدقة عن ظهر غِنى، وهو قول مجاهد.
والسادس: أنه الصدقة المفروضة وهو مروي عن مجاهد أيضًا. اهـ.

.قال ابن العربي:

وَأَسْعَدُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالتَّحْقِيقِ وَبِالصِّحَّةِ مَا عَضَّدَتْهُ اللُّغَةُ، وَأَقْوَاهَا عِنْدِي الْفَضْلُ، لِلْأَثَرِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَلِلنَّظَرِ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَصَدَّقَ بِالْكَثِيرِ نَدِمَ وَاحْتَاجَ، فَكِلَاهُمَا مَكْرُوهٌ شَرْعًا، فَإِعْطَاءُ الْيَسِيرِ حَالَةً بَعْدَ حَالَةٍ أَوْقَعُ فِي الدِّينِ وَأَنْفَعُ فِي الْمَالِ؛ وَقَدْ جَاءَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَكَذَلِكَ كَعْبٌ، فَقَالَ لَهُمَا: الثُّلُثُ. اهـ.

.قال في البحر المديد:

يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويسألونك} ما القدر الذي ينفقونه؟ {قل} لهم: هو {العفو} أي: السهل الذي لا مشقة في إعطائه، ولا ضرر على المعطي في فقده، رُوِي أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقدر بَيْضة من الذهب، فقال: خُذها عني صَدقَة، فأعرض عنه، حتى كَرَّر مِرَارًا، فقال: هاتها، مُغْضَبَا، فحذفها حذفًا لو أصابه لشجَّه، فقال: «يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفَّفُ الناس إنما الصدقةُ عن ظَهْرِ غِنَى» قاله البيضاوي مختصرًا.
قلت: وهذا يختلف باختلاف اليقين؛ فقد تصدّق الصدِّيقُ رضي الله عنه بماله كله، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله، فأقرهما ورَدّ فعلَ غيرهما، فدلَّ ذلك على أن العفو يختلف باختلاف الأشخاص، على حسب اليقين. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في أن المراد بهذا الإنفاق هو الإنفاق الواجب أو التطوع، أما القائلون بأنه هو الإنفاق الواجب، فلهم قولان الأول: قول أبي مسلم يجوز أن يكون العفو هو الزكاة فجاء ذكرها هاهنا على سبيل الإجمال، وأما تفاصيلها فمذكورة في السنة الثاني: أن هذا كان قبل نزول آية الصدقات فالناس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم، ثم ينفقوا الباقي، ثم صار هذا منسوخًا بآية الزكاة فعلى هذا التقدير تكون الآية منسوخة.
القول الثاني: أن المراد من هذا الإنفاق هو الإنفاق على سبيل التطوع وهو الصدقة واحتج هذا القائل بأنه لو كان مفروضًا لبين الله تعالى مقداره فلما لم يبين بل فوضه إلى رأي المخاطب علمنا أنه ليس بفرض.
وأجيب عنه: بأنه لا يبعد أن يوجب الله شيئًا على سبيل الإجمال، ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر.
أما قوله: {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} فمعناه أني بينت لكم الأمر فيما سألتم عنه من وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا أبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون. اهـ.

.سؤال: لم قرن اسم الإشارة بعلامة البعد؟

الجواب: قرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيمًا لشأن المشار إليه لكماله في البيان، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس، وحتى يلحقوا به نظائره، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة فلم يقل كذلكم على نحو قوله: {يبين الله لكم}. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة}:

.قال البقاعي:

لما بيّن الأحكام الماضية في هذه السورة أحسن بيان وفصل ما قص من جميع ما أراد أبدع تفصيل لاسيما أمر النفقة فإنها بينها مع أول السورة إلى هنا في أنواع من البيان على غاية الحكمة والإتقان كان موضع سؤال: هي يبين لنا ربنا غير هذا من الآيات كهذا البيان؟ فقال: {كذلك} أي مثل ما مضى من هذا البيان العلي الرتبة البعيد المنال عن منازل الأرذال {يبين الله} الذي له جميع صفات الكمال {لكم} جميع {الآيات} قال الحرالي: فجمعها لأنها آيات من جهات مختلفات لما يرجع لأمر القلب وللنفس وللجسم ولحال المرء مع غيره- انتهى. وأفرد الخطاب أولًا وجمع ثانيًا إعلامًا بعظمة هذا القول للإقبال به على الرأس، وإيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ علمًا من قبل هذا بحيث لا يحتاج إلى زيادة وأن هذا البيان إنما هو للأتباع يتفهمونه على مقادير أفهامهم وهممهم، ويجوز أن يكون الكلام تم بكذلك أي البيان ثم استأنف ما بعده فيكون البيان مذكورًا مرتين: مرة في خطابه تلويحًا، وأخرى في خطابهم تصريحًا؛ أو يقال: أشار إلى علو الخطاب بالإفراد وإلى عمومه بالجمع انتهى {لعلكم تتفكرون} أي لتكونوا على حالة يرجى لكم معها التفكر، وهو طلب الفكر وهو يد النفس التي تنال بها المعلومات كما تنال بيد الجسم المحسوسات- قاله الحرالي.
ولما كان البيان من أول السؤال إلى هنا قد شفي في أمور الدارين وكفى وأوضح ثمرات كل منهما وكان العرب ينكرون الآخرة ساق ذكرها مساق ما لا نزاع فيه لكثرة ما دل عليها فقال: {في الدنيا والآخرة} أي في أمورهما فتعلموا بما فتح الله لكم سبحانه وتعالى من الأبواب وما أصل لكم من الأصول ما هو صالح وما هو أصلح وما هو شر وما هو أشر لتفعلوا الخير وتتقوا الشر فيؤول بكم ذلك إلى فوز الدارين. اهـ.