فصل: مطلب زواج حضرة الرسول بمطلقة زيد، وكونه خاتم الأنبياء، والطلاق قبل الدخول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب زواج حضرة الرسول بمطلقة زيد، وكونه خاتم الأنبياء، والطلاق قبل الدخول:

قال تعالى: {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ منْها وَطَرًا} ولم يبق له بها أرب وقد طابت نفسه بطلاقها للأسباب المتقدمة وقد طلقها وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها يا حبيبنا حسبما وعدناك قبلا، قالوا فصارت تفتخر على نساء الرسول بأن اللّه هو الذي زوجها من رسوله وهن زوجهن له أولياؤهن، وأن السفير بينهما جبريل عليه السلام، والسفير بينهن وبين الرسول في أمر زواجهن من آحاد الناس، وأنها بنت عمته، ولأنه لم يولم على امرأة ما أولمه عليها.
روى البخاري ومسلم عن أنس قال ما أولم النبي صلّى اللّه عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولمه على زينب أولم بشاة.
وفي رواية أكثر وأفضل ما أولم على زينب.
قال ثابت بم أولم؟ قال أطعمهم خبزا ولحما، حتى تركوه زوجه اللّه امرأة الرجل المعروف بأنه عبده وأنه تبناه أخيرا.
{لكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمنينَ حَرَجٌ في أَزْواج أَدْعيائهمْ إذا قَضَوْا منْهُنَّ وَطَرًا} الوطر إدراك الحاجة وبلوغ المراد فإذا قضى الرجل نهمته من شيء له همة فيه قالوا قضى وطره منه، وهذا مقيد بشرط قضاء الوطر، فلا يجوز إجبار العبد على ترك زوجته لمولاه أو لغيره وكذلك الحر {وَكانَ أَمْرُ اللَّه} في هذه الحادثة كما هو في غيرها {مَفْعُولًا} (37) ماضيا نافذا لا محالة.
هذا هو الواقع في هذه القصة، ومن قال إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رآها وهي عند زيد فأعجبته وتمنى طلاقها منه وزواجها به لا صحة له ولا يليق بمقامه الكريم وعصمة الأنبياء ومنصبهم الشريف، كيف وهو الذي زوجه إياها وهي بنت عمته ولا تنحجب عنه لا هي ولا غيرها، وما هذا القول إلا جرأة عظيمة وفرية كبيرة وبهت محض على حضرة الرسول وقلة معرفة بذاته الجليلة ونفسه الطاهرة وجهل بحكمة التشريع المتقدمة التي تضمنتها الآية 37، ألا فليحذر الخائضون في هذا من غضب اللّه ونقمته، على أن اللّه تعالى بسبب تواري حضرة الرسول عن التصريح بما أخبره قد أنبه بهذه الآية، ولهذا قالت السيدة عائشة رضي اللّه عنها: لو أخفى رسول اللّه شيئا من الوحي لأخفى هذه الآية لما فيها من معنى التكدير لحضرته صلّى اللّه عليه وسلم ولكنه أمين اللّه في سمواته وأرضه، فويل للقاسية قلوبهم من عدم تصديقه بما جاء به وأخبر عن ربه عز وجل وبما يتكلم به.
قال تعالى: {ما كانَ عَلَى النَّبيّ منْ حَرَجٍ} جناح وإثم أو مانع ما {فيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} وأحله وأباحه من نكاح زينب وتعدد الزوجات لكون هذا {سُنَّةَ اللَّه في} الأنبياء {الَّذينَ خَلَوْا منْ قَبْلُ} محمد لأنهم كانوا لا يرون بأسا من الإقدام على ما أباحه اللّه لهم ووسعه عليهم من النكاح وغيره، وقد كان لداود عليه السلام مئة امرأة وثلاثمئة سرية ولسليمان ثلاثمئة حرة وسبعمئة سرية ولا شك أن لهذا التعدد في حيته حكما لسنا في معرض إيضاحها {وَكانَ أَمْرُ اللَّه قَدَرًا مَقْدُورًا} (38) بزمان ومكان مثبتا واجب الوقوع فيهما حتما، ثم أثنى اللّه تعالى على الأنبياء الذين خلوا قبل محمد فقال جل قوله: {الَّذينَ يُبَلّغُونَ رسالات اللَّه} بأوامره ونواهيه إلى الأمم كما أمر {وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} وحده ولا يلتفتون إلى تقول الناس ولومهم فيما يفعلون بإذن ربهم {وَكَفى باللَّه حَسيبًا} (39) لخلقه على خلقه ويكفيهم أن يحصروا مخافتهم منه فيه، ثم انه تعالى نفى عن حبيبه مادة التبني بالكلية بصورة أوضح، لأن الآية الأولى عدد 4 المارة عامة فيه وفي غيره على طريقة التخصيص بعد التعميم بقوله: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ منْ رجالكُمْ} أيها الناس لا زيد ولا غيره ليثبت حرمة تزويجه بزوجة زيد {وَلكنْ رَسُولَ اللَّه} الذي يجب عليكم توقيره واحترامه أكثر من آبائكم لأن كل رسول أب عام لأمته ومرب لأرواحها {وَخاتَمَ النَّبيّينَ} ولذلك لم يبق له ولد ليبلغ مبلغ الرجال، لأن الولد إذا لم يكن في درجة أبيه لا فخر له فيه وقد حكم اللّه بأن لا نبي من بعده {وَكانَ اللَّهُ بكُلّ شَيْءٍ عَليمًا} (40) قبل وقوعه لأنه مدون في أزله، وأن عيسى وإن كان ينزل بعده فإنه يعمل بشريعته ويصلي إلى قبلته، وقد تنبّأ قبله فلا يقال إنه جاء بعده.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بيتا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون ويتعجبون له ويقولون هتلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين.
وعن جابر مثله وفيه جئت فختمت الأنبياء.
ورويا عن جبير بن مطعم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو اللّه الكفر بي وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب والعاقب ليس بعده نبي، وقد سماه اللّه رءوفا رحيما.
روى مسلم عن أبي موسى قال: كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم يسمي لنا نفسه بأسماء فقال أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفى أي المولى الذاهب المتبع لمن قبله والآخر وأنا الماحي ونبي التوبة ونبي الرحمة.
قال حسان بن ثابت:
ألم تر أن اللّه أرسل عبده ** ببرهانه واللّه أعلى وأمجد

أغرّ عليه للنبوة خاتم ** من اللّه مشهود يلوح ويشهد

وشق له من اسمه ليجلّه ** فذو العرش محمود وهذا محمد

هذا وما جاء عن الأحمديين بأن خاتم النبيين ليس المراد منه أن لا نبي بعده وإنما هو معنى الكمال قول لا حقيقة له كسائر أقوالهم بحق عيسى عليه السلام وان له خليفة عندهم وأنه سيظهر بدلا منه ويقوم بما يقوم به، وينكرون رفعه إلى السماء ويؤولون الرفع على خلاف ما جاء في القرآن العظيم، وهذا كله بهت وزور وافتراء لا يلتفت إليه إلا من هو على شاكلتهم.
{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذكْرًا كَثيرًا} (41) لا نهاية له حتى الموت لأن كل عبادة لها حد ويعذر أهلها بتركها عند الضرورة إلا الذكر، إذ يجب على العبد ألا يفارقه ما دام في قلبه حركة ولا يمنع منه وجود حدث أو حيض أو نفاس ولا الخوف والمرض بل يتأكد فيها رجاء الفرج والصحة {وَسَبّحُوهُ} نزهوه ووقروه وعظموه مع إدامة ذكره {بُكْرَةً وَأَصيلًا} (42) صباح مساء بصورة مستمرة بحيث لا يغفل قلبكم عنه وهذا هو المطلوب شرعا من العبد لربه لأنه {هُوَ الَّذي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلائكَتُهُ ليُخْرجَكُمْ منَ الظُّلُمات إلَى النُّور وَكانَ بالْمُؤْمنينَ رَحيمًا} (43) أي لعامتهم الأولين والآخرين.
ولا معنى لقول من قال إن هذه الرحمة الذين كانوا زمن حضرة الرسول بل هي عامة لهم ولمن تقدمهم وتأخر عنهم {تَحيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} منه إليهم ومنهم إليه في جنته الكريمة {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَريمًا} (44) فيها لا نظير له، والظلمات هنا بمعنى الكفر والنور بمعنى الإيمان.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبيُّ إنَّا أَرْسَلْناكَ شاهدًا} على الخلق {وَمُبَشّرًا} لمن آمن بك بالجنة {وَنَذيرًا} (45) لمن كذبك بالنار {وَداعيًا إلَى اللَّه} بالتوحيد والطاعة والإيمان {بإذْنه} بأمره ووحيه {وَسراجًا مُنيرًا} (46) يغطي كلمة الشرك ولم يقل شمسا لأنها لا يؤخذ منها شيء عفوا، أما السراج فيؤخذ منه أنوار كثيرة لأنه سهل التناول.
{وَبَشّر الْمُؤْمنينَ بأَنَّ لَهُمْ منَ اللَّه فَضْلًا كَبيرًا} (47) على غيرهم من الأمم لأنهم آمنوا بنبيهم والأنبياء قبله {وَلا تُطع الْكافرينَ وَالْمُنافقينَ وَدَعْ أَذاهُمْ} لا تلق له بالا فإن الأنبياء قبلك أوذوا أكثر منك، وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قسم قسمة بين أصحابه وكان يعطيهم بحسب ما يعلم منهم من قوة الإيمان وضعفه، فقال رجل منافق ما أريد بهذه القسمة وجه اللّه بالنظر لظاهر الأمر، فقال صلّى اللّه عليه وسلم رحم اللّه أخي موسى فقد أوذي بأكثر من هذا.
لأنهم وصموه بكونه آدر كما سيأتي آخر هذه السورة، وقد اتهموه بالزنى كذبا كما مر في الآية 76 من سورة القصص في ج 1 ونسبوا إليه قتل هرون كما سيأتي في الآية 26 من سورة المائدة الآتية، وفي رواية قال له ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ فأعرض عنهم يا رسول {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه} لا تلتفت إليهم {وَكَفى باللَّه وَكيلًا} (48) لك عن كل خلقه.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ منْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهنَّ منْ عدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتّعُوهُنَّ} إذا لم تسموا لهن مهرا كما سبق بيانه في الآية 136 من سورة البقرة {وَسَرّحُوهُنَّ سَراحًا جَميلًا} (49) لا ضرار فيه وفي هذه الآية دلالة على أن الطلاق قبل النكاح لا يقع لأنه مرتب عليه وانه كما ينبغي أن يكون الزواج بالإحسان ينبغي أن يكون الطلاق كذلك لا إكراها، وتشير هذه الآية إلى الإحسان مع الزوجة التي لا مودة بينك وبينها إذ لا تكون قبل الدخول عادة فلأن يكون الإحسان مع التي دخلت بها وخاصة من صار لك منها أولاد من باب أولى، ولهذا نهى الشارع أن يأخذ من المطلقة شيئا في الآية (229) من البقرة المارة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية (21) من سورة النساء الآتية فتكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ} المشار إليها في الآية 23 من سورة الإسراء في ج 1، اخرج أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لهذا البحث صلة في الآية (21) من سورة النساء الآتية فتكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ} المشار إليها في الآية 23 من سورة الإسراء في ج 1، اخرج أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لا طلاق فيما لا تملك ولا عتق فيما لا تملك ولا بيع فيما لا تملك.
وجاء في الخبر لا طلاق في إغلاق أي إكراه أو غضب أو في حالة لا تملك فيها نفسك بحيث لا تعلم نتيجة ما تقول بسبب ما اعتراك من حدة وشبهها، وروى البخاري عن ابن عباس قال جعل اللّه تعالى الطلاق بعد النكاح، وعن جابر لا طلاق قبل النكاح، وما قيل إن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال إنه يقع فغير صحيح، روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال كذبوا على ابن مسعود وإن كان قالها فزلة من عالم، وقول ابن مسعود هنا هو أن الرجل إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فإن كان هذا فهو تعليق يقع به الطلاق ولا تحسب عليه زلة، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية فنصف ما فرضتم الآية 235 من سورة البقرة المارة فغير صحيح لأن تلك مع تسمية المهر وهنا في غير تسمية ولا خلوة، ومعناها إذا عقدتم عليهن وطلقتموهن قبل الدخول والخلوة التي هي في معناه.
وإنما أوجبوا العدة في الخلوة احتياطا لتوهم انشغال الرحم خاصة بالثيب نظرا للتمكن الحقيقي، وظاهر الآية عدم وجوب العدة بالخلوة، لأنها ليست مسيئا، قال الشيخ الأمين بن عابدين دفين دمشق صاحب التآليف المشهورة:
وخلوته كالوطء في غير عشرة ** مطالبة بالوطء إحصان تحليل

وفيء وإرث رجعة فقد عنّة ** وتحريم بنت عقد بكر وتغسيل

أي أن الخلوة كالوطء في كل شيء عدا هذه العشرة.
واعلم أن هذه الآية ليست ناسخة لآية البقرة 223 إلا أنها عامة في كل المطلقات ينتظم فيها المدخول فيها وغيرها لأن هذه الآية المفيدة اعطت غير المدخول بها حكما آخر خاصا بها فليست بمبطلة لحكمها بتاتا ليقال بالنسخ.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبيُّ إنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} مهورهن راجع الآية 24 من النساء الآتية بما يسمونه متعة بسبب لفظ الأجر مع أنه اطلق في القرآن في مواقع كثيرة على المهر {وَما مَلَكَتْ يَمينُكَ ممَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} من السبي في غنائم الحرب {وَبَنات عَمّكَ وَبَنات عَمَّاتكَ} من قريش {وَبَنات خالكَ وَبَنات خالاتكَ} من بني زهرة {اللَّاتي هاجَرْنَ مَعَكَ} مؤمنات بك وبربك، قالت أم هاني بنت أبي طالب خطبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل اللّه هذه الآية، قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر كنت من الطلقاء.- أخرجه الترمذي- {وَامْرَأَةً مُؤْمنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنَّبيّ} فهي حلال له {إنْ أَرادَ النَّبيُّ أَنْ يَسْتَنْكحَها} وإلا فلا تحل، {خالصَةً} بلا مهر وهذا الحكم خاص {لَكَ} يا سيد الرسل {منْ دُون الْمُؤْمنينَ} لأنهم لا ينعقد النكاح بينهم بالهبة ولا بغير شهود ويشترط لصحته، الولي والمهر والإيجاب والقبول وإذن الولي للصغيرة عند أبي حنيفة، واشترط الشافعي الإذن للكبيرة أيضا راجع الآية 25 من سورة النساء الآتية ويفهم من هذه الآية أن غير المؤمنة لا تحل للرسول إن وهبت نفسها إليه، وهذا على سبيل الفرض والتقدير، إذ لم يكن لديه صلّى اللّه عليه وسلم امرأة إلا بعقد أو ملك يمين، وقيل كان عنده واحدة موهوبة اختلفوا فيها هل أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصاري الهلالية أو أم شريك بنت جابر الأسدية أو خولة بنت حكيم السلمية أو ميمونة بنت الحارث، وأرجح الأقوال بأنها خولة بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن عروة قال كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى اللّه عليه وسلم فقالت عائشة أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل؟! وهذا من كمال غيرتها، وإلا فمن ترى السعادة في الدارين في هبة نفسها لمثل رسول اللّه لم لا تفعل، وإنا نرى الآن كرائم النساء يسعين ويتوسطن بتقديم أنفسهن لمن يرون فيه المروءة والشهامة والسعادة الدنيوية، فكيف ممن تكون بمرافقته سعادة الدنيا والآخرة {قَدْ عَلمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهمْ في أَزْواجهمْ} المؤمنين سيأتي بيان هذا في الآية 22 من سورة النساء وغيرها {وَ} علمنا ما فرضنا عليهم في {ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} من الإماء اللاتي أصلهن من السبي {لكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ} أيها النبي {حَرَجٌ} فيما تريد من ذلك {وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحيمًا} (50) بعباده يوسع عليهم فيما لابد لهم منه.
ولما وقعت الغيرة بين نساء النبي صلّى اللّه عليه وسلم وكان يقسم بينهن أنزل اللّه تعالى: {تُرْجي} تبعد وتؤخر {مَنْ تَشاءُ منْهُنَّ وَتُؤْوي} تدني وتقرب وتضم {إلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَن ابْتَغَيْتَ ممَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} ولا حرج أيضا وهذا كله من خصائصه صلّى اللّه عليه وسلم دون المؤمنين كافة {ذلكَ} الذي أبحناه لك وخيرناك فيه مما لم يكن لغيرك بشأن النساء {أَدْنى} أقرب وأهون {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} فيرضين بما يرونه منك مهما كان وتطيب أنفسهن {وَلا يَحْزَنَّ} على ما يزعمنه منك من موالاة بعضهن وترجيحهن على غيرهن لأنه من اللّه لا منك {وَيَرْضَيْنَ بما آتَيْتَهُنَّ} من تقريب وإبعاد وإرجاء وإقصاء وعزل وإيواء {كُلُّهُنَّ} لأنه حكم عام لا يختص بواحدة دون الأخرى وتفويض مطلق لك من نسائك.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في قُلُوبكُمْ} من الميل إلى بعضهن {وَكانَ اللَّهُ} ولم يزل {عَليمًا} بأن في هذا إصلاح لحال أزواجك معك {حَليمًا} (51) بما خصك به دون سائر خلقه لأنه قاطع لكلامهن.

.مطلب منع النبي من الزواج والطلاق ورؤية المخطوبة وجواز الرؤية للمرأة في تسع مواضع وما أحدث في زماننا:

قال تعالى: {لا يَحلُّ لَكَ النّساءُ منْ بَعْدُ} هؤلاء اللاتي عندك حال نزول هذه الآية وكن تسعا وهو النصاب بالنسبة له صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال الشيعة بجواز التسعة لسائر المؤمنين.
وسيأتي بحث هذا في الآية الثانية من سورة النساء إن شاء اللّه {وَلا} يحل لك أيها الرسول أيضا {أَنْ تَبَدَّلَ بهنَّ منْ أَزْواجٍ} بأن تطلقهن أو بعضهن وتأخذ غيرهن أبدا، وهذا إكرام لهن من اللّه تعالى لأنهن اخترن اللّه ورسوله كما تقدم في الآية 29 فشكر اللّه لهن ذلك وكافأهن بالبقاء عند رسوله، ثم أكد على حبيبه التمسك بهن وعدم الزواج عليهن بقوله جل قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} وذلك أن الرسول أراد أن يخطب أسماء بنت عميس بعد استشهاد زوجها جعفر بن أبي طالب فنهي عن ذلك {إلَّا ما مَلَكَتْ يَمينُكَ} لعلمه أنه سيأخذ مارية القبطية التي يهديها له المقوقس عظيم القبط في مصر، ولذلك عددناها مع جملة نسائه آنفا {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ رَقيبًا} (52) ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بالآية قبلها وهي {يا أَيُّهَا النَّبيُّ إنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ} إلخ، وان النبي لم يمت حتى أحل له أن يتزوج من يشاء، لأن المقدم لا ينسخ المؤخر باتفاق علماء هذا الفن، وما احتج به القائل من أن ترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف صحيح لكن لا قائل بأن آية {يا أَيُّهَا النَّبيُّ إنَّا أَحْلَلْنا لَكَ} إلخ نزلت بعد هذه الآية التي نحن بصددها، ولأن سياق التنزيل ينافيه وسياق النظم يأباه، كما أن ما احتج به من أن هذه الآية الأخيرة نسخت بالسنّة لا وجه له لأن السنة لا تنسخ القرآن قطعا، ولا يوجد ما يسمى سنة في هذا الشأن إذ لم يرد حديث صحيح فيه، ولو ورد وكان متواترا فلا يكون ناسخا، كما قدمنا توضيح هذا في الآية 107 من البقرة فراجعها.