فصل: قال السايس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السايس:

من سورة الأحزاب:
قال اللّه تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ لرَجُلٍ منْ قَلْبَيْن في جَوْفه وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائي تُظاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهاتكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلكُمْ قَوْلُكُمْ بأَفْواهكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدي السَّبيلَ (4) ادْعُوهُمْ لآبائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإخْوانُكُمْ في الدّين وَمَواليكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فيما أَخْطَأْتُمْ به وَلكنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحيمًا (5)}.
المراد بالقلب هنا: المضغة الصنوبرية في داخل التجويف الصدري، والجعل الخلق، وإذا كان الرجل لم يخلق له قلبان- والرجل أكمل النوع الإنساني حياة- فأولى ألا يكون للأنثى قلبان، وأما الصبيان فمآلهم أن يكونوا رجالا، فالمعنى حينئذ:
ما خلق اللّه لأحد من الناس قلبين في جوفه، وكانت العرب تزعم أنّ كلّ لبيب أريب له قلبان، واشتهر أبو معمر الفهري بين أهل مكة بذي القلبين لقوة حفظه.
{تُظاهرُونَ منْهُنَّ} نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب ظاهر من زوجته أنه قال لها: أنت عليّ كظهر أمّي فهو نظير لبّى إذا قال: لبيك وأفف إذا قال: أف وسبّح إذا قال: سبحان اللّه وكبّر إذا قال: اللّه أكبر. فجاء الشرع فألحق بهذه الصيغة أنت عليّ كظهر أمّي في الحكم كلّ ما يدلّ على تشبيه الرجل زوجته أو جزءا منها بأنثى محرّمة عليه على التأبيد.
وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا لا حلّ بعده برجعة ولا بعقد، لأنهم كانوا يجرون أحكام الأمومة على المظاهر منها، فأبطل اللّه هذه العادة، وجعل للظّهار أحكاما سوف يأتي بيانها في تفسير سورة المجادلة إن شاء اللّه.
{أَدْعياءَكُمْ} الأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنا وليس بابن، وقد كان التبني عادة فاشية في الجاهلية وصدر الإسلام، يتبنّى الرجل ولد غيره، فتجري عليه أحكام البنوّة كلّها. وقد تبنّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زيد بن حارثة، وتبنّى حذيفة سالما مولاه، وتبنّى الخطاب- أبو عمر رضي اللّه عنه- عامر بن أبي ربيعة. وكثير من العرب تبنى ولد غيره، فجاء القرآن الكريم بإبطال هذا العمل وإلغائه.
بيّنت الآية أنّ هذه الأمور الثلاثة باطلة لا حقيقة لها، فكون الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع. وجعل المظاهر منها أمّا أو كالأم في الحرمة المؤبّدة من مخترعات أهل الجاهلية، التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي. وجعل المتبنى ابنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في شرع ظاهر.
ولما كان أظهر هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كون الرجل له قلبان قدّم اللّه جل شأنه قوله: {ما جَعَلَ اللَّهُ لرَجُلٍ منْ قَلْبَيْن في جَوْفه} وضربه مثلا للظهار والتبني، أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهر منها أما ولا المتبنّى ابنا.
وقوله عزّ وجلّ: {ذلكُمْ قَوْلُكُمْ} الإشارة فيه إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من كون الرجل له قلبان، وكون المظاهر منها أما والدعيّ ابنا. وزيادة قوله تعالى: {بأَفْواهكُمْ} للتنبيه على أنه قول صادر من الأفواه فقط، من غير أن يكون له مصداق أو حقيقة في الواقع ونفس الأمر، فلا يستتبع أحكاما كما يزعمون.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدي السَّبيلَ} أي فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عزّ وجلّ.
{ادْعُوهُمْ لآبائهمْ}.
أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّ زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لآبائهمْ} إلخ فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنت زيد بن حارثة بن شراحيل».
وكان من أمره ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس أنّه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيء، فأصيب في نهب من طيء، فقدم به سوق عكاظ، وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوّق بها، فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه، فلما قدم وجد زيدا يباع فيها، فأعجبه ظرفه، فابتاعه، فقدم به عليها، وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا، فإن أعجبك فخذيه، وإلا فدعيه، فإنه قد أعجبني، فلما رأته خديجة أعجبها، فأخذته، فتزوجها الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وهو عندها، فأعجب النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ظرفه، فاستوهبه منها، فقالت: أهبه لك، فإن أردت عتقه فالولاء لي، فأبى عليها الصلاة والسلام، فوهبته له إن شاء أعتق، وإن شاء أمسك، قال: فشب عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ثم إنّه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه، فقام إليه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال: لا. قال: فحرّ أنت أم مملوك؟ قال: بل مملوك، قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد المطلب. فقال له: أعرابي أنت أم أعجمي؟ قال: عربي. قال: ممن أهلك؟ قال: من كلب. قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبدون. قال: ويحك ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل. قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي. قال: ومن أخوالك؟ قال: طيء. قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى. فالتزمه وقال: ابن حارثة! ودعا أباه قال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، ورزقت منه حبّا فلا أصنع إلّا ما شئت، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة، فلقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال له حارثة: يا محمد أنتم أهل حرم اللّه وجيرانه وعند بيته، تفكّون العاني، وتطعمون الأسير، ابني عبدك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه، فإنّك ابن سيد قومه، وإنا سندفع إليك في الفداء ما أحببت.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أعطيكم خيرا من ذلك؟» قالوا: وما هو؟ قال: «أخيره، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكفوا عنه»، فقالوا: جزاك اللّه خيرا فقد أحسنت.
فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: «يا زيد أتعرف هؤلاء»؟ قال: نعم. هذا أبي وعمي وأخي.
فقال عليه الصلاة والسلام: «فهم من قد عرفتهم، فإن اخترتهم فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من تعلم»، فقال زيد: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا، أنت معي بمكان الوالد والعم، قال أبوه وعمه: أيا زيد أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل.
فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حرصه عليه قال: «اشهدوا أنّه حر، وأنّه ابني يرثني وأرثه».
فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لآبائهمْ} فدعي زيد بن حارثة، {هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه} أي دعاؤهم لآبائهم، ونسبتهم إليهم بالغ في العدل والصدق، وزائد فيه في حكم اللّه تعالى وقضائه. فأفعل التفضيل ليس على بابه، بل قصد به الزيادة مطلقا، ويجوز أن يكون على بابه، جاريا على سبيل التهكم بهم.
{فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإخْوانُكُمْ في الدّين أي فهم إخوانكم في الدين ومَواليكُمْ} أي وهم مواليكم في الدين أيضا، فليقل أحدكم: يا أخي أو يا مولاي، يقصد بذلك الأخوة والولاية في الدين.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فيما أَخْطَأْتُمْ به وَلكنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ظاهر السياق أن المراد نفي الجناح عنهم فيما أخطؤوا به من التبني، وإثبات الجناح عليهم فيما تعمدت قلوبهم من التبني أيضا.
والقائلون بهذا الظاهر مختلفون في المراد بالخطأ ما هو؟
فأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنّ المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم الأدعياء أبناء قبل ورود النهي. وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم عليهم هو ما كان من ذلك بعد النهي، فالخطأ هنا معناه الجهل بالحكم.
وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمّدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.
أي فعليك فيه الإثم، فعلى رأي مقاتل يكون المراد بالخطأ مقابل العمد. وكلا الأمرين بعد ورود النهي.
وأجاز بعض المفسرين أن يراد العموم في {فيما أَخْطَأْتُمْ وفي ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ويكون معنى قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ} إلخ نفي الجناح عنهم في الخطأ كله دون العمد، فيتناول ذلك لعمومه خطأ التبني وعمده.
والكلام حينئذ وارد في العفو عن الخطأ، كما في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس.
وكما في حديث عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إني لست أخاف عليكم الخطأ، ولكن أخاف عليكم العمد» أخرجه ابن مردويه.
{وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا} فيغفر لمن تعمّد قلبه الإثم إذا تاب رَحيمًا من رحمته أنّه رفع الإثم عن المخطئ، ولم يؤاخذه على خطئه.
وظاهر الآية يدلّ على أنه يحرم على الإنسان أن يتعمّد دعوة الولد لغير أبيه، وذلك محمول على ما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية. وأمّا إذا لم تكن كذلك، كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة: با بني. وكثيرا ما يقع ذلك، فالظاهر عدم الحرمة.
ولكن أفتى بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه بالكفار. ولا فرق في ذلك بين كون المدعو ذكرا أو كونه أنثى. وإن لم يعلم علم اليقين وقوع التبني للإناث في الجاهلية.
ومثل دعاء الولد لغير أبيه انتساب الشخص إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، وعدّ ذلك كثير من العلماء في الكبائر. وهو محمول أيضا على ما إذا كان الانتساب على الوجه الذي كان في الجاهلية، فقد كان الرجل منهم ينتسب إلى غير أبيه وعشيرته، وقد ورد في هذا الادعاء الوعيد الشديد.
أخرج الشيخان وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
وأخرج الشيخان أيضا: «من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صرفا ولا عدلا».
وأخرجا أيضا: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر».
وأخرج الطبراني في الصغير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «كفر من تبرّأ من نسب وإن دقّ، أو ادعى نسبا لا يعرف».
قال العلماء في معنى كفر هنا أنّه إن كان يعتقد إباحة ذلك فقد كفر وخرج عن الإسلام. وإن لم يعتقد إباحته ففي معنى كفره وجهان:
أحدهما: أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل الجاهلية.
والثاني: أنّه كافر نعمة اللّه والإسلام عليه.
وكذلك قوله في الحديث الآخر «فليس منا» أي إن اعتقد جوازه خرج عن الإسلام، وإن لم يعتقد جوازه فالمعنى: أنّه لم يتخلّق بأخلاقنا.
وليس الاستلحاق الذي أباحه الإسلام من التبني المنهي عنه في شيء، فإن من شرط الحل في الاستلحاق الشرعي أن يعلم المستلحق- بكسر الحاء- أن المستلحق- بفتحها- ابنه، أو يظن ذلك ظنا قويا، وحينئذ شرع له الإسلام استلحاقه، وأحلّه له، وأثبت نسبه منه بشروط مبيّنة في كتب الفروع.
أما التبنّي المنهي عنه، فهو دعوى الولد مع القطع بأنّه ليس ابنه، وأين هذا من ذاك؟
وظاهر الآية أيضا أنّه يباح أن يقال في دعاء من لم يعرف أبوه: يا أخي، أو يا مولاي، إذا قصد الأخوة في الدين، والولاية فيه، لكنّ بعض العلماء خصّ ذلك بما إذا لم يكن المدعو فاسقا، وكان دعاؤه بيا أخي أو يا مولاي تعظيما له، فإنه يكون حراما، لأننا نهينا عن تعظيم الفاسق، فمثل هذا يدعى باسمه، أو بيا عبد اللّه، أو يا هذا. مثلا.
قال اللّه تعالى: {النَّبيُّ أَوْلى بالْمُؤْمنينَ منْ أَنْفُسهمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحام بَعْضُهُمْ أَوْلى ببَعْضٍ في كتاب اللَّه منَ الْمُؤْمنينَ وَالْمُهاجرينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلى أَوْليائكُمْ مَعْرُوفًا كانَ ذلكَ في الْكتاب مَسْطُورًا (6)} لعلّك ترى زيدا قد تصيبه وحشة من أنّه صار لا يدعى بعد الآن زيد بن محمد، خصوصا بعد أن كان من أمر أبيه وعمه في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، لأنّه قد يرى في تخلّي النبي عن أبوته حطّا من قدره بين الناس، وقد كان هو يعتز بهذه الدعوة، لأنها تكسبه جاها عريضا ينفعه في الدنيا والآخرة، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تسلية لزيد، ولبيان أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن تخلى عن أبوة زيد فإلى الولاية العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا لا تفريق بين ابن الصلب وغيره، فهو يرعاهم حق الرعاية، ويهديهم طريقا إن اتبعوه لن يضلوا بعده أبدا. وما كانت أبوته لزيد أو لأحد غيره بزائدة في ذلك شيئا، ولن ينقص زيد بتخلّي النبي عن أبوته شيئا فالرسول أولى وأحق بكل المؤمنين من أنفسهم، فهو الآمر الناهي بما يحقّق للناس سعادتهم في الدنيا والآخرة، والحفيظ على مصالحهم، لا يضيّع شيئا، وقد تأمر النفس بالسوء؟ أما الرسول فهو الذي يوحى إليه، لا ينطق عن هوى، ولا يهدي إلا إلى الخير.
ولم يذكر في الآية ما تكون فيه الأولوية، بل أطلقت إطلاقا ليفيد ذلك أولويته في جميع الأمور، ثم إنّه ما دام أولى من النفس، فهو ولى من جميع الناس بطريق الأولى.
وقد روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم النَّبيُّ أَوْلى بالْمُؤْمنينَ منْ أَنْفُسهمْ فأيّما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني، فأنا مولاه».
وقوله تعالى: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} أي منزلات منزلة الأمهات في تحريم نكاحهن، واستحقاق تعظيمهن، وأما في غير ذلك، فهنّ أجنبيات، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين، ولا يحرمن على المؤمنين.
ومن أجل هذا قالت السيدة عائشة لمن قالت لها يا أمه: أنا أمّ رجالكم لا أم نسائكم.
ثم الظاهر، أنّ المراد من أزواجه كل من وقع عليها اسم الزوج، سواء من طلّقها ومن لم يطلقها، فيثبت الحكم للجميع، فلا يحل نكاح أحد منهنّ حتى المطلقة، وقيل لا يثبت هذا الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة، كالمستعيذة، وصحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط.
وقد روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي اللّه عنه فهم برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف عنه. وفي رواية أنّه همّ برجمها، فقالت: ولم هذا؟ وما ضرب عليّ حجاب، ولا سميت للمسلمين أمّا، فكفّ عنها.
وأما التي اختارت الدنيا منهنّ حين نزلت آية التخيير الآتية فقد ذكر بعض العلماء أنّ الخلاف الذي سمعت يجري فيها كذلك.
واختار الرازي والغزالي القطع بالحل.