فصل: قال الشريف الرضي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها الأحزاب:

.[سورة الأحزاب: آية 26]:

{وَأَنْزَلَ الَّذينَ ظاهَرُوهُمْ منْ أَهْل الْكتاب منْ صَياصيهمْ وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرُّعْبَ فَريقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسرُونَ فَريقًا (26)}.
{وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرُّعْبَ (26)} وهذه استعارة. والمراد بها: أنه تعالى ألقى الرعب في قلوبهم من أثقل جهاته، وعلى أقطع بغتاته. تشبيها بقذفه الحجر إذا صكّت الإنسان على غفلة منه. فإن ذلك يكون أملأ لقلبه، وأشدّ لروعه.

.[سورة الأحزاب: آية 30]:

{يا نساءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضعْفَيْن وكانَ ذلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا (30)}.
وقوله سبحانه: {مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضعْفَيْن (30)} وهذه استعارة على قراءة من قرأ: مُبَيّنَةٍ بكسر الياء، فكأنه تعالى جعل الفاحشة تبيّن حال صاحبها، وتشير إلى ما يستحقه من العقاب عليها. وهذا من أحسن الأعراض، وأنفس جواهر الكلام.

.[سورة الأحزاب: آية 46]:

{وَداعيًا إلَى اللَّه بإذْنه وسراجًا مُنيرًا (46)}.
وقوله سبحانه وتعالى: {وداعيًا إلَى اللَّه بإذْنه وسراجًا مُنيرًا (46)} وهذه استعارة. والمراد بالسراج المنير هاهنا: أنّه عليه السلام يهتدى به في ضلال الكفر، وظلام الغىّ، كما يستصبح بالشهاب في الظلماء، وتستوضح الغرة في الدهماء.

.[سورة الأحزاب: آية 72]:

{إنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماوات والْأَرْض والْجبال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْملْنَها وأَشْفَقْنَ منْها وحَمَلَهَا الْإنْسانُ إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}.
وقوله سبحانه: {إنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماوات والْأَرْض والْجبال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْملْنَها وأَشْفَقْنَ منْها وحَمَلَهَا الْإنْسانُ إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}. وهذه استعارة. وللعلماء في ذلك أقوال نحن نستقصى ذكرها عند البلوغ إليها من الكتاب الكبير بتوفيق اللّه ومشيئته، إلا أننا نشير إلى بعض ذلك هاهنا إشارة تليق بغرض هذا الكتاب في طريقة الاختصار، وخوف الإكثار.
وقال بعضهم: المراد بذلك تفخيم شأن الأمانة وأن منزلتها منزلة ما لو عرض على هذه الأشياء المذكورة مع عظمها، وكانت تعلم ما فيها، لأبت أن تحملها وأشفقت كل الإشفاق منها. إلا أن هذا الكلام خرج مخرج الواقع لأنه أبلغ من المقدر. وقال بعضهم: عرض الشيء على الشيء ومعارضته سواء. والمعارضة، والمقابلة، والمقايسة، والموازنة بمعنى واحد. فأخبر اللّه سبحانه عن عظم أمر الأمانة وثقلها، وأنها إذا قيست بالسماوات والأرض والجبال ووزنت بها رجحت عليها. ولم تطق حملها، ضعفا عنها.
وذلك معنى قوله تعالى: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْملْنَها وأَشْفَقْنَ منْها} ومن كلامهم: فلان يأبى الضيم. إذا كان لا يحتمله. فالإباء هاهنا هو ألّا يقام بحمل الشيء. والإشفاق في هذا الموضع هو الضعف عن الشيء، ولذلك كنى به عن الخوف الذي هو ضعف القلب. فقالوا:
فلان مشفق من كذا. أي خائف منه، يقول سبحانه: فالسموات والأرض والجبال لم تحمل الأمانة ضعفا عنها، وحملها الإنسان، أي تقلّدها وقارف المآثم فيها، للمعروف من كثرة جهله، وظلمه لنفسه. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الأحزاب:
تضمنت سورة الأحزاب خمسة نداءات للنبى عليه الصلاة والسلام بصفته هادى الأمة وقائدها، وبعد كل نداء ذكر المطلوب منه لتنفيذه فيما يخصه وفيما يعنى الأمة كلها.
1- أول هذه النداءات {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا}. والأمر والنهى المتجهان إلى رسول الله هما زيادة تثبيت له كما تقول للمحلق لا تكسل، وللمتفوق لا تتراخ! فهو ما فرط في تقوى، ولا هادن الكفر والنفاق، ولا اتبع إلا الوحى النازل عليه. ومن أسمائه المتوكل؟ فإذا أمر بالتوكل فهو استدامة للحال التي عرف بها بين الناس. على أن هناك شيئا يتصل به ومطلوب منه أن يغيره، هو علاقته بزيد بن حارثة الذي تبناه في الجاهلية على عادة القوم. فلما جاء الإسلام رفض التبتى جملة وتفصيلا، وقال الله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل}.
فماذا نفعل فيما تم من عقود التبنى؟ {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم}.
الأب الطبيعى أحق بابنه، فإذا لم نعرفه قامت أخوة الإسلام مكان العلاقة المفقودة، فنحن نؤاخى اللقيط ونواليه ولا نتركه ضائعا في المجتمع. وقد أساء المسلمون في تطبيق ذلك إساءة يؤاخذهم الله بها!! فافتتح الأجانب ملاجئ تربى فيها اللقطاء على غير الملة. وهذه فضيحة يلحقنا عارها. وبعد تقرير هذا الحكم، جاء تعظيم العلاقة الدينية وتقديمها على وشائج القربى الأخرى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}. فمحمد عليه الصلاة والسلام الوالد الروحى لهذه الأمة، وهو أحرص الناس على هداها ونجاتها، وهو رمز الإسلام الذي أخرجها من الظلمات إلى النور. وعلى أساس ذلك، قال رسول الله: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والاخرة اقرءأوا إن شئتم» النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم «فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته قن كانوا. ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فأنا مولاه»!! وقبل نزول هذه الآية كان النبى عليه الصلاة والسلام يتحرج من الصلاة على المدين إذا مات ولم يترك وفاء لدينه. ثم تغير الحكم بعد ما فتح الله عليه ونزلت هذه الآية، فأمسى يتحمل ديون الموتى الفقراء، ويكفل اليتامى الضائعين.!! وكما اعتبر النبى أبا للمؤمنين اعتبرت زوجاته أمهات للمؤمنين، لهن مكانة الأم في البر والحرمة. وتبعا لذلك، حرم الزواج منهن أبدا. إنهن راويات للوحى ومعلمات للأمة، ومنهن تؤخذ الأسوة الحسنة.
2- والنداء الثانى في هذه السورة {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا}. إن بيت النبوة غير بيت الملك. إنه بيت يكتفى بأيسر الزاد، ولا مكان فيه للشهوات المطاعة واللذات الميسرة. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم خارجا من سلطان بطنه، ولا مجال في حياته للاستكثار من أطايب الطعام ومرفهات العيش، لكن زوجاته جئن من بيوت سيادة وثراء ولم يألفن في حياتهن الأولى إلا رغد العيش، ولذلك سرعان ما اجتمعن ضده يطلبن نفقة أوسع ومتاعا أرغد!! فجاء الوحى يصادر هذا كله. إن البيت النبوى يقوم على الكفاف، ولو كان رب البيت سيد الجزيرة وإمام الناس! يجب أن يحملن معه أعباء منصبه، ويشتغلن بالصلاة والجهاد وطلب الآخرة. يستحيل أن يحاصر الكفار الأمة الإسلامية، ويحملوها على الهجرة والشظف، ويكون بيت النبى بمنجاة من هذا البلاء. إما الرضا بهذا العيش وإما طلاق الجميع! فاخترن.! {وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما}.
وقد اختارت أمهات المؤمنين عيش الكفاف على ترك بيت النبوة، واستحققن شرف الصحبة الكريمة. ولاشك أن الشغب على حياة الرسول إثم كبير يضاعف عذابه كما أن الرضا بأعباء الصحبة.
الكريمة مرتبة تستحق التقدير المضاعف. إن البيت النبوى يصدر للمجتمع الوحى والتبتل والكفاح، ونساؤه أمهات المؤمنين في هذا المضمار.
3- والنداء الثالث في السورة {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} ليست قبل محمد نبوة عامة للبشركلهم! كان كل نبى يرسل إلى قومه خاصة. أما الشمس التي طلعت على الكون أجمع فهى شمس النبوة الخاتمة. ومن هنا كان القرآن الكريم أساس الرسالة ومعجزتها معا. القرآن خطاب لكل إنسان حتى تقوم الساعة، وطبيعة هذا الخطاب تشهد بأنه من عند الله وحده، فلا أثر لمحمد فيه إلا التلقى والبلاغ والأسوة الحسنة. وإذا كان محمد شاهدا على قومه بأنه أبلغهم، فإن أمته شاهدة على الناس أجمعين بهذا الكتاب المبين!! فهل أدى المسلمون وظيفتهم تلك؟ أما الأوائل، فقد قرعوا بالإسلام سمع الدنيا، وشرحوه بعملهم شرحا حسنا. لكن المسلمين سرعان ما سرت في كيانهم عدوى الأمم البائدة، وهم الآن يختزنون هدايات السماء في بلادهم التي سادتها الفوضى وعاث فيها الإهمال.!! ويمكن القول بأنهم عوائق ضد دينهم وصادون عنه! وتبليغ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم يحتاج اليوم إلى عبقريات علمية تحسن العرض، وبطولات عسكرية تحسن الدفاع. ولا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله.
4- والنداء الرابع في سورة الأحزاب يتضمن الطبقات التي تختار منها أمهات المؤمنين. فليست كل امرأة تصلح أن تكون زوجة لعظيم. الكريم يحتاج إلى كريمة لا تحتاج أن يقول لها. ذرينى فإن الشح يا أم مالك لصالح أخلاق الرجال سروق! أو يقول كما قال حاتم لامرأته: أماوى إن المال غاب ورائح وتبقى من المال الأحاديث والذكر!! يجب أن تعين المرأة زوجها فيما كلف به.
فإذا لم تكن عونا له فلا تكن عبئا عليه!! وقد عانى نوح ولوط من زوجتيهما الكثير. والحق أن أمهات المؤمنين كن عابدات قانتات وكن نعم الصويحبات له في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين}.
والمعروف أن للمسلم أن يتزوج بأربع لا يزيد. وقد أسلم رجل ولديه عشر زوجات، فأمره النبى بإمساك أربع وتسريح الباقيات. قد تقول فلماذا لم يطبق ذلك على نفسه؟ والجواب أنه بعدما اخترنه على أهلهن وآثرن البقاء معه على شظف العيش ما يسوغ ترك إحداهن! ثم ماذا تفعل من يسرحها؟ إن زواجها بغيره مستحيل لحرمة أمهات المؤمنين على سائر الأمة! فالحل أن يبقين، ولو كان من بينهن العجائز! ثم قيل للرسول عقب هذا الوضع {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا}. والتعدد نظام قد يقبل مع شرف الأخلاق وتباين الطبائع والحاجة إلى الذرية، وقد عرف في سير الأنبياء. وأشعر بريبة فيما ذكرته التوراة من أنه كان لسليمان ألف امرأة، وأحسب ذلك من المجازفات.! وليس للحضارة المعاصرة أن تخوض في هذه القضية! فإن التعدد فيها كلأ مباح، وربما استطاع الصعلوك أن ينال أكثر مما نال! سليمان سفاحا لا نكاحا.
5- أما النداء الأخير فهو قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما}. وقد شرحت الآية اللاحقة السبب في هذا التوجيه! كان في المدينة فتيان سوء يتسكعون في الطرقات ابتغاء الريبة فإذا وجدوا امرأة مهملة في حجابها أو متبذلة في ثيابها طمعوا فيها. فأمرت المؤمنات بالاحتشام الكامل وألا يتركن لهبوب الريح أو سرعة السير فرصة لبعد الملابس عن الجسم. وبذلك التصون يصددن الرغبات الجامحة ويحمين أنفسهن من السفلة. ثم قيل لهؤلاء الفاحشين: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا}.
والحق أن المدنية الحديثة يسرت الفتن للقريب والبعيد والراغب والعازف. والمحور الذي تدور عليه حياكة الملابس هو الإغراء الحرام ولا مكان هنالك لتقوى القلوب. ومع النداءات الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم وجهت ستة نداءات للمؤمنين. يتناول أولها الموقف عند هجوم الأحزاب على المدينة. كان موقفا شديد الحرج فإن جموع الكفار أقبلت من أطراف الجزيرة يبغون اقتحامها وساعدتهم فلول المنافقين واليهود داخلها ووقع المسلمون بين شقى الرحى يكافحون للنجاة وهم في هذا البحر الطامى كالمشرف على الغرق {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}. وتساند المسلمون وراء الخندق الذي حفروه وهم يجرون يمينا أو يسارا لسد الثغرات وإعانة المواقع المهددة. ولولا صدق الصلة بالله لعجز المدافعون عن الصمود. إنهم لم يرتاعوا ويفقدوا رباطتهم بل كانوا كما قال الله: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}. إن منطق أصحاب العقائد غير منطق طلاب المنافع. والحق أن المدافعين عن المدينة حرسوا حدودها وأحكموا الذود عنها فلم تلح ثغرة لراصد!! أما المهاجمون فقد خامرهم اليأس وهم يدورون حول المدينة لا يجدون منفذا ثم هبت عليهم رياح نكباء أطارت خيامهم وأكفأت قدورهم وأيأستهم من المقام فقرروا الرحيل {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا}. وكان تعقيب النبى صلى الله عليه وسلم على ما حدث «الحمد لله وحده صدق وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده». وشعر المشركون بعد معركة الأحزاب أن المدينة لا تنال!! فلم يفكروا في غزوها واكتفوا من الغنيمة بالإياب. والنداء الثانى للمؤمنين في هذه السورة {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا}.
وأرى أن هذا النداء للجماعة قبل أن يكون للأفراد. فالأمة الإسلامية صاحبة رسالة عالمية يجب أن تنتصب حارسة لها ومدافعة عنها. وهذه الرسالة تقوم على الانتماء إلى الله وإعلاء شعائره واليقين بلقائه. وهذه معان لاتعرف الآن في أمة من الأمم فالقاسم المشترك لأنشطتها جميعا: رفع مستوى المعيشة وتجميل هذه الحياة الدنيا أما الكلام عن الآخرة فلغو أو هزل! وقد فشلت الأديان القديمة دنى تعريف الناس بالله والإعداد للقائه. وشملت الدنيا عبادة التراب!! وعندما ترفع أمتنا راية عبادة الله تكون أهلا لقوله بعدئذ {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما}. إن صلاة الله وملائكته إنما تكون لأمة تذكر الله وتذكر به وتجعل ذلك وظيفتها. وقد ارتفع المسلمون إلى هذا المستوى قرونا كانوا فيها الأمة الأولى في العالم ثم نسوا الله فأنساهم أنفسهم فهم الآن في مواطئ الأقدام. والنداء الثالث حكم فقهى فرعى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}. وأصول الأحكام وفروعها سواء في وجوب الطاعة مادام النص بها قائما. أما النداء الرابع فهو لتنظيم الدخول في البيت النبوى. إن سواد المؤمنين يحبون رسول الله أكثر مما يحبون أنفسهم وقد يحملهم ذلك على التكاثر عنده. ثم هناك من لديه فراغ يحار كيف يقضيه! ومن يحبون التسلية أو مقاربة العظماء. وقد استدعى ذلك هذا الإرشاد الحكيم: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث}. وهذا تنظيم مأنوس في بيوت الكبار وقد تكون ذات أجنحة شتى! أما بيوت النبى فهى غرف محدودة الطول والعرض ملحقة بالمسجد!! فما بد من تنظيم زيارتها. والمؤسف أن من ذوى اللكاعة من رأى إحدى أمهات المؤمنين فقال إذا مات محمد تزوجتها!! أفلا يحمى البيت الكريم من مسالك هؤلاء الرعاع؟ لذلك شرع نظام الحجاب.
{وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما}.
إن المرأة داخل بيتها تتخقف من ثيابها ولاتتكلف في زيا معينا فلا يجوز لأحد أن يقتحم عليها حصنها ولا للأعين أن تسترق النظرإليها. ولإيذاء الرسول صور شتى يألفها المنافقون ومرضى القلوب ولعل أخطر هذه الصور ماحدث عند حصار المدينة. {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد}. ومن هؤلاء متتبعو العورات في شوارع المدينة ومبتغو الريبة في الناس. وقد قال الله لرسوله في شأن هؤلاء {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله}. وقال في الحكم عليهم {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}. ولما كان السيل حربا للمكان العالى ولما كان أشراف الناس غرضا للسفهاء فقد حذر المؤمنون من هذه المسالك. وجاء النداء الخامس يحمى أعراض الأنبياء وسيرتهم من تطاول الرعاع {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها}. وتأكد ذلك في النداء السادس {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم}. وخلال السرد لما يتعرض له النبى الكريم من صنوف الأذى جاءت هذه البشرى العالية تسوق له العزاء والتأييد والرفعة والتسديد: إنه في كلاءة الله وحمايته {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}. ثم ختمت سورة الأحزاب بخلاصة وجيزة عن عمل البشر على ظهر الأرض.
إنهم تميزوا على غيرهم بحرية الإرادة وبالتكليف الذي يميز الأخيار والأشرار. إنهم ليسوا دواب محكومة بغرائزها الدنيا ولا أرواحا محكومة بخصائصها العليا. إنهم جنس خاص يستطيع التسامى والإسفاف يستطيع أن يتجه يمينا إلى الجنة أو يسارا إلى النار. وأمانة التكليف حملها الإنسان وهو يستطيع الوفاء بحقوق الله وحقوق الناس كما يستطيع خيانتها والعبث بها.
وهذا ما أشارت إليه الآية: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}. والآية تمثيل لما عرض على البشر من تكاليف ترجح بها موازين وتطيش أخرى. اهـ.