فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال تعالى: {ذَلكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم} فيه لطيفة وهو أن الكلام المعتبر على قسمين أحدهما: كلام يكون عن شيء كان فيقال: والثاني: كلام يقال فيكون كما قيل والأول كلام الصادقين الذين يقولون ما يكون والآخر كلام الصديقين الذين إذا قالوا شيئًا جعله الله كما قالوه وكلاهما صادر عن قلب والكلام الذي يكون بالفم فحسب هو مثل نهيق الحمار أو نباح الكلب، لأن الكلام المعتبر هو الذي يعتمد عليه والذي لا يكون عن قلب وروية لا اعتماد عليه، والله تعالى ما كرم ابن آدم وفضله على سائر الحيوانات ينبغي أن يحترز من التخلق بأخلاقها، فقول القائل: هذا ابن فلان مع أنه ليس ابنه ليس كلامًا فإن الكلام في الفؤاد وهذا في الفم لا غير، واللطيفة هي أن الله تعالى هاهنا قال: {ذَلكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم} وقال في قوله: {وَقَالَت النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} [التوبة: 30] يعني نسبة الشخص إلى غير الأب قول لا حقيقة له ولا يخرج من قلب ولا يدخل أيضًا في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم.
ثم قال تعالى: {والله يَقُولُ الحق} إشارة إلى معنى لطيف وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل أو عن شرع فإذا قال فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو يكون عن شرع بأن يكون ابنه شرعًا وإن لم يعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدًا وكانت الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني فلقيام الفراش ونقول إنه ابنه وفي الدعي لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به لأنه لا يقول إلا الحق وهذا خلاف الحق لأن أباه مشهور ظاهر ووجه آخر فيه وهو أنهم قالوا هذه زوجة الابن فتحرم وقال الله تعالى هي لك حلال، وقولهم لا اعتبار به فإنه بأفواههم كأصوات البهائم، وقول الله حق فيجب اتباعه وقوله: {وَهُوَ يَهْدى السبيل} يؤكد قوله: {والله يَقُولُ الحق} يعني يجب اتباعه لكونه حقًا ولكونه هاديًا وقوله تعالى: {ذَلكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم والله يَقُولُ الحق} فيه لطيفة وهو أن الكلام الذي بالفم فحسب يشبه صوت البهائم الذي يوجد لا عن قلب، ثم إن الكلام الذي بالقلب قد يكون حقًا وقد يكون باطلًا، لأن من يقول شيئًا عن اعتقاد قد يكون مطابقًا فيكون حقًا، وقد لا يكون فيكون باطلًا، فالقول الذي بالقلب وهو المعتبر من أقوالكم قد يكون حقًا وقد يكون باطلًا لأنه يتبع الوجود، وقول الله حق لأنه يتبعه الوجود فإنه يقول عما كان أو يقول فيكون، فإذن قول الله خير من أقوالكم التي عن قلوبكم فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم، فإذن لا يجوز أن تأخذوا بقولكم الكاذب اللاغي وتتركوا قول الله الحق فمن يقول بأن تزوج النبي عليه الصلاة والسلام بزينب لم يكن حسنًا يكون قد ترك قول الله الحق وأخذ بقول خرج عن الفم.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ يَهْدى السبيل} إشارة إلى أن اتباع ما أنزل الله خير من الأخذ بقول الغير.
قوله تعالى: {ادعوهم لابَائهمْ} أرشد وقال: {هُوَ أَقْسَطُ عندَ الله} أي أعدل فإنه وضع الشيء في موضعه وهو يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون ترك الإضافة للعموم أي أعدل كل كلام كقول القائل الله أكبر وثانيهما: أن يكون ما تقدم منويًا كأنه قال ذلك أقسط من قولكم هو ابن فلان ثم تمم الإرشاد وقال: {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} يعني قولوا لهم إخواننا وأخو فلان فإن كانوا محررين فقولوا مولى فلان، ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَا أَخْطَأْتُمْ به} يعني قول القائل لغيره يا بني بطريق الشفقة، وقول القائل لغيره يا أبي بطريق التعظيم، فإنه مثل الخطأ ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان فكذلك سبق اللسان في قول القائل ابني والسهو في قوله ابني من غير قصد إلى إثبات النسب سواء، وقوله: {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} مبتدأ خبره محذوف يدل عليه ما سبق وهو الجناح يعني ما تعمدت قلوبكم فيه جناح {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحيمًا} يغفر الذنوب ويرحم المذنب وقد ذكرنا كلامًا شافيًا في المغفرة والرحمة في مواضع، ونعيد بعضها هاهنا فنقول المغفرة هو أن يسترد القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته حتى أن العبد إذا ستر عيب سيده مخافة عقابه لا يقال إنه غفر له، والرحمة هو أن يميل إليه بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض فإن من مال إلى إنسان قادر كالسلطان لا يقال رحمه، وكذا من أحسن إلى غيره رجاء في خيره أو عوضًا عما صدر منه آنفًا من الإحسان لا يقال رحمه، إذا علم هذا فالمغفرة إذا ذكرت قبل الرحمة يكون معناها أنه ستر عيبه ثم رآه مفلسًا عاجزًا فرحمه وأعطاه ما كفاه، وإذا ذكرت المغفرة بعد الرحمة وهو قليل يكون معناها أنه مال إليه لعجزه فترك عقابه ولم يقتصر عليه بل ستر ذنوبه. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لرَجُلٍ منْ قَلْبَيْن في جَوْفه}.
رُويَ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ روَايَةٌ: أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ منْ قُرَيْشٍ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْن منْ دَهَائه؛ وَعَنْ مُجَاهدٍ وَقَتَادَةَ مثْلُهُ.
وَعَنْ ابْن عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَانَ الْمُنَافقُونَ يَقُولُونَ: لمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قَلْبَان، فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ رَجُلٌ يَقُولُ: لي نَفْسٌ تَأْمُرُني وَنَفْسٌ تَنْهَاني، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيه هَذَا.
وَرُويَ عَنْ مُجَاهدٍ أَيْضًا: أَنَّ رَجُلًا منْ بَني فهْرٍ قَالَ: في جَوْفي قَلْبَان أَعْقلُ بكُلّ وَاحدٍ منْهُمَا أَفْضَلُ منْ عَقْل مُحَمَّدٍ، فَكَذَّبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاويُّ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ في تَفْسيرهَا غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، قَالَ: وَحَكَى الشَّافعيُّ عَنْ بَعْض أَهْل التَّفْسير ممَّنْ لَمْ يُسَمّه في احْتجَاجه عَلَى مُحَمَّدٍ في نَفْي أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ منْ رَجُلَيْن أَنَّهُ أُريدَ بهَا: مَا جَعَلَ اللَّهُ لرَجُلٍ منْ أَبَوَيْن في الْإسْلَام.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّفْظُ غَيْرُ مُحْتَملٍ لمَا ذُكرَ؛ لأَنَّ الْقَلْبَ لَا يُعَبَّرُ به عَنْ الْأَب لَا مَجَازًا وَلَا حَقيقَةً، وَلَا ذَلكَ اسْمٌ لَهُ في الشَّريعَة، فَتَأْويلُ الْآيَة عَلَى هَذَا الْمَعْنَى خَطَأٌ منْ وُجُوهٍ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعيدٍ الْخُدْريّ عَنْ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى جَاريَةً مُجحًّا فَقَالَ: «لمَنْ هَذه الْجَاريَةُ؟» فَقَالُوا: لفُلَانٍ فَقَالَ: «أَيَطَؤُهَا؟» قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةَ رَجُلٍ يَدْخُلُ مَعَهُ في قَبْره كَيْفَ يُورثُهُ وَهُوَ لَا يَحلُّ لَهُ أَمْ كَيْفَ يَسْتَرقُّهُ وَقَدْ غَذَاهُ في سَمْعه وَبَصَره» فَقَوْلُهُ: «قَدْ غَذَّاهُ في سَمْعه وَبَصَره» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ منْ مَاء رَجُلَيْن.
وَقَدْ رُويَ عَنْ عَليٍّ وَعُمَرَ إثْبَاتُ نَسَب الْوَلَد منْ رَجُلَيْن، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرهمَا منْ الصَّحَابَة خلَافُهُ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللَّائي تُظَاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهَاتكُمْ}.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانُوا يُظَاهرُونَ منْ نسَائهمْ فَيَقُولُونَ: أَنْت عَلَيَّ كَظَهْر أُمّي، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تَصيرُ بمَنْزلَة أُمّه في التَّحْريم، وَجَعَلَ هَذَا الْقَوْلَ مُنْكَرًا منْ الْقَوْل وَزُورًا بقَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا منْ الْقَوْل وَزُورًا} وَأَلْزَمَهُ بذَلكَ تَحْريمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ وَأَبْطَلَ مَا أَوْجَبَهُ الْمُظَاهرُ منْ جَعْله إيَّاهَا كَالْأُمّ؛ لأَنَّ تَحْريمَهَا تَحْريمٌ مُؤَبَّدٌ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} قيلَ: إنَّهُ نَزَلَ في زَيْد بْن حَارثَةَ وَكَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّاهُ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ؛ وَرُويَ ذَلكَ عَنْ مُجَاهدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرهمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يُوجبُ نَسْخَ السُّنَّة بالْقُرْآن؛ لأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ كَانَ ثَابتًا بغَيْر الْقُرْآن وَنَسَخَهُ بالْقُرْآن وقَوْله تَعَالَى: {ذَلكُمْ قَوْلُكُمْ بأَفْوَاهكُمْ} يَعْني أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ وَإنَّمَا هُوَ قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا حَقيقَةَ.
وقَوْله تَعَالَى: {اُدْعُوهُمْ لآبَائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ في الدّين وَمَوَاليكُمْ} فيه إبَاحَةُ إطْلَاق اسْم الْأُخُوَّة وَحَظْرُ إطْلَاق اسْم الْأُبُوَّة منْ غَيْر جهَة النَّسَب؛ وَلذَلكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فيمَنْ قَالَ لعَبْده: هُوَ أَخي: لَمْ يُعْتَقْ إذَا قَالَ: لَمْ أُردْ به الْأُخُوَّةَ منْ النَّسَب؛ لأَنَّ ذَلكَ يُطْلَقُ في الدّين، وَلَوْ قَالَ: هُوَ ابْني عَتَقَ؛ لأَنَّ إطْلَاقَهُ مَمْنُوعٌ إلَّا منْ جهَة النَّسَب.
وَرُويَ عَنْ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْر أَبيه وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبيه فَالْجَنَّةُ عَلَيْه حَرَامٌ».
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَا أَخْطَأْتُمْ به} رَوَى ابْنُ أَبي نَجيحٍ عَنْ مُجَاهدٍ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَا أَخْطَأْتُمْ به} قَالَ: قيلَ: هَذَا النَّهْيُ في هَذَا أَوْ في غَيْره {وَلَكنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وَالْعَمْدُ مَا آثَرْته بَعْدَ الْبَيَان في النَّهْي في هَذَا أَوْ في غَيْره وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّد بْن إسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبي الرَّبيع الجرجاني قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ في قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَا أَخْطَأْتُمْ به} قَالَ قَتَادَةُ: لَوْ دَعَوْت رَجُلًا لغَيْر أَبيه وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ أَبُوهُ لَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ وَسَمعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفرْ لي خَطَايَايَ، فَقَالَ: اسْتَغْفرْ اللَّهَ في الْعَمْد فَأَمَّا الْخَطَأُ فَقَدْ تَجَوَّزَ عَنْك؛ قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْخَطَأَ وَلَكنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْعَمْدَ، وَمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْمُقَاتَلَةَ وَلَكنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ التَّكَاثُرَ، وَمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَزْدَرُوا أَعْمَالَكُمْ وَلَكنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَكْثرُوهَا. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لرَجُلٍ منْ قَلْبَيْن في جَوْفه} فيهَا أَرْبَعُ مَسَائلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: في سَبَب نُزُولهَا: فيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لزَيْد بْن حَارثَةَ وَللنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَك.
الثَّاني: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَجُلٌ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إلَّا وَعَاهُ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا يَعي هَذَا إلَّا لأَنَّ لَهُ قَلْبَيْن، فَسُمّيَ ذَا الْقَلْبَيْن؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لرَجُلٍ منْ قَلْبَيْن في جَوْفه} فَكَانَ مَا قَالَ.
الثَّالثُ: قَالَ مُجَاهدٌ: إنَّ رَجُلًا منْ بَني فهْرٍ قَالَ: إنَّ في جَوْفي قَلْبَيْن، أَعْمَلُ بكُلّ وَاحدٍ منْهُمَا عَمَلًا أَفْضَلَ منْ عَمَل مُحَمَّدٍ.
الرَّابعُ: قيلَ لابْن عَبَّاسٍ: أَرَأَيْت قَوْلَ اللَّه تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لرَجُلٍ منْ قَلْبَيْن في جَوْفه} مَا عَنَى بذَلكَ؟ قَالَ: قَامَ نَبيُّ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَخَطَرَ خَطْرَةً، فَقَالَ الْمُنَافقُونَ الَّذينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ: أَلَا تَرَوْنَ لَهُ قَلْبَيْن: قَلْبًا مَعَكُمْ، وَقَلْبًا مَعَهُمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {منْ قَلْبَيْن} الْقَلْبُ: بضْعَةٌ صَغيرَةُ الْجُرْم عَلَى هَيْئَة الصَّنَوْبَرَة، خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى في الْآدَميّ وَجَعَلَهَا مَحَلًّا للْعلْم، وَالرُّوح أَيْضًا، في قَوْلٍ، يُحْصي به الْعَبْدُ منْ الْعُلُوم مَا لَا يَسَعُ في أَسْفَارٍ، يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ فيه بالْخَطّ الْإلَهيّ، وَيَضْبُطُهُ فيه بالْحفْظ الرَّبَّانيّ حَتَّى يُحْصيَهُ وَلَا يَنْسَى منْهُ شَيْئًا.
وَهُوَ بَيْنَ لَمَّتَيْن: لَمَّةٌ منْ الْمَلَك، وَلَمَّةٌ منْ الشَّيْطَان، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في الْحَديث.
وَهُوَ مَحَلُّ الْخَطرَات وَالْوَسَاوس، وَمَكَانُ الْكُفْر وَالْإيمَان، وَمَوْضعُ الْإصْرَار وَالْإنَابَة، وَمَجْرَى الانْزعَاج وَالطُّمَأْنينَة.
وَالْمَعْنَى في الْآيَة أَنَّهُ لَا يَجْتَمعُ في الْقَلْب الْكُفْرُ وَالْإيمَانُ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ، وَالْإنَابَةُ وَالْإصْرَارُ، وَهَذَا نَفْيٌ لكُلّ مَا تَوَهَّمَهُ أَحَدٌ في ذَلكَ منْ حَقيقَةٍ أَوْ مَجَازٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالثَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللَّائي تُظَاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهَاتكُمْ} نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أُمًّا بقَوْل الرَّجُل: هيَ عَلَيَّ كَظَهْر أُمّي.
وَلَكنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْه، وَجَعَلَ تَحْريمَ الْقَوْل يَمْتَدُّ إلَى غَايَةٍ، وَهيَ الْكَفَّارَةُ، عَلَى مَا يَأْتي بَيَانُهُ في سُورَة الْمُجَادَلَة.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} كَانَ الرَّجُلُ يَدْعُو الرَّجُلَ ابْنًا إذَا رَبَّيْه، كَأَنَّهُ تَبَنَّاهُ أَيْ يُقيمُهُ مَقَامَ الابْن؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهمْ قَوْلَهُمْ؛ لأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا به إلَى أَنْ قَالُوا: الْمَسيحُ ابْنُ اللَّه: وَإلَى أَنْ يَقُولُوا: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَمَسَخَ اللَّهُ هَذه الذَّريعَةَ، وَبَتَّ حَبْلَهَا، وَقَطَعَ وَصْلَهَا بمَا أَخْبَرَ منْ إبْطَال ذَلكَ.
قَوْله تَعَالَى: {اُدْعُوهُمْ لآبَائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ في الدّين وَمَوَاليكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَا أَخْطَأْتُمْ به وَلَكنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحيمًا} فيهَا خَمْسُ مَسَائلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {اُدْعُوهُمْ لآبَائهمْ} رَوَى الْأَئمَّةُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ إلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَتْ: {اُدْعُوهُمْ لآبَائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه}.
وَكَانَ منْ قصَّة زَيْد بْن حَارثَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ جَبَلَةُ في الْحَيّ، فَقَالُوا: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ زَيْدٌ؟ فَقَالَ: زَيْدٌ أَكْبَرُ منّي، وَأَنَا وُلدْت قَبْلَهُ، وَسَأُخْبرُكُمْ عَنْ ذَلكَ: كَانَتْ أُمُّنَا امْرَأَةً منْ طَيّئٍ، فَمَاتَ أَبُونَا، وَبَقينَا في حجْر جَدّي، فَجَاءَ عَمَّايَ، فَقَالَا لجَدّي: نَحْنُ أَحَقُّ بابْن أَخينَا منْك.
فَقَالَ: مَا عنْدَنَا خَيْرٌ لَهُمَا، فَأَبَيَا.
فَقَالَ: خُذَا جَبَلَةَ وَدَعَا زَيْدًا.
فَانْطَلَقَا بي، فَجَاءَتْ خَيْلٌ منْ تهَامَةَ، فَأَصَابَتْ زَيْدًا، فَتَرَاقَى به الْأَمْرُ إلَى خَديجَةَ، فَوَهَبَتْهُ خَديجَةَ للنَّبيّ عَلَيْه السَّلَامُ.
وَكَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَغْزُ وَغَزَا زَيْدٌ أَعْطَاهُ سلَاحَهُ.
وَأُهْديَ للنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يَوْمًا مرْجَلَان، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَأَعْطَى عَليًّا الْآخَرَ.
وَقَدْ رُويَ أَنَّ حَكيمَ بْنَ حزَامٍ ابْتَاعَهُ، وَكَانَ مَسْبيًّا منْ الشَّام، فَوَهَبَهُ لعَمَّته خَديجَةَ، فَوَهَبَتْهُ للنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَتَبَنَّاهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُوهُ يَدُورُ بالشَّام وَيَقُولُ: بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْر مَا فَعَلٌ أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ فَوَاَللَّه مَا أَدْري وَإنّي لَسَائلٌ أَغَالَك بَعْدي السَّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ فَيَا لَيْتَ شعْري هَلْ لَك الدَّهْرُ أَوْبَةً فَحَسْبي منْ الدُّنْيَا رُجُوعُك لي أَمَلْ تُذَكّرُنيه الشَّمْسُ عنْدَ طُلُوعهَا وَتُعْرضُ ذكْرَاهُ إذَا غَرْبُهَا أَفَلْ فَإنْ هَبَّتْ الْأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذكْرَهُ فَيَا طُولُ مَا حُزْني عَلَيْه وَيَا وَجَلْ سَأُعْملُ نَصَّ الْعيس في الْأَرْض جَاهدًا وَلَا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإبلْ حَيَاتي أَوْ تَأْتي عَلَيَّ مَنيَّتي فَكُلُّ امْرئٍ فَانٍ وَإنْ غَرَّهُ الْأَمَلْ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بمَكَّةَ، فَجَاءَ إلَيْه، فَهَلَكَ عنْدَهُ.
وَرُويَ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْه، فَخَيَّرَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فَاخْتَارَ الْمَقَامَ عنْدَ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لسَعَادَته، وَتَبَنَّاهُ وَرَبَّاهُ، وَدُعيَ لَهُ عَلَى رَسْم الْعَرَب، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلكُمْ قَوْلُكُمْ بأَفْوَاهكُمْ وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدي السَّبيلَ اُدْعُوهُمْ لآبَائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ في الدّين وَمَوَاليكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَا أَخْطَأْتُمْ به وَلَكنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحيمًا النَّبيُّ أَوْلَى بالْمُؤْمنينَ منْ أَنْفُسهمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَام بَعْضُهُمْ أَوْلَى ببَعْضٍ في كتَاب اللَّه منْ الْمُؤْمنينَ وَالْمُهَاجرينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْليَائكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلكَ في الْكتَاب مَسْطُورًا}.
فَدَعَاهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لحَارثَةَ، وَعَرَفَتْ كَلْبٌ نَسَبَهُ، فَأَقَرُّوا به، وَأَثْبَتُوا نسْبَتَهُ.
وَهُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه؛ أَيْ أَعْدَلُ عنْدَ اللَّه قَوْلًا وَحُكْمًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ في الدّين وَمَوَاليكُمْ} دَليلٌ قَويٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ منْ وَلَدٍ دُعيَ أَوْ لعَانٍ لَا يَنْتَسبُ إلَى أُمّه، وَلَكنَّهُ يُقَالُ أَخُو مُعْتقه وَوَلَدُهُ إنْ كَانَ حُرًّا، أَوْ عَبْدُهُ إنْ كَانَ رقًّا.
فَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَة إنْ كَانَ حُرًّا فَإنَّهُ يُدْعَى إلَى أُمّه، فَيُقَالُ: فُلَانٌ ابْنُ فُلَانَةَ، لأَنَّ أَسْبَابَهُ في انْتسَابه مُنْقَطعَةٌ، فَرَجَعَتْ إلَى أُمّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالثَةُ: فيه إطْلَاقُ اسْم الْأُخُوَّة دُونَ إطْلَاق اسْم الْأُبُوَّة؛ لأَنَّ الْمُؤْمنينَ إخْوَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمنُونَ إخْوَةٌ}.
وَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَددْت أَنّي رَأَيْت إخْوَانَنَا»، قَالُوا: أَلَسْنَا بإخْوَانك قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابي وَإخْوَانُنَا الَّذينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَوَاليكُمْ} يَجُوزُ إطْلَاقُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُنْعَم عَلَيْه بالْعتْق، وَعَلَى الْمُعْتق بلَفْظٍ وَاحدٍ، وَالْمَعْنَى مُخْتَلفٌ، وَيَرْجعُ ذَلكَ إلَى الْولَايَة، وَهيَ الْقُرْبُ، كَمَا تَرْجعُ الْأُخُوَّةُ إلَى أَصْلٍ هُوَ مَقَامُ الْأُبُوَّة منْ الدّين وَالصَّدَاقَة.
وَللْمَوْلَى ثَمَانيَةُ مَعَانٍ، منْهَا مَا يَجْتَمعُ أَكْثَرُهَا في الشَّيْء الْوَاحد، وَمنْهَا مَا يَكُونُ فيه منْ مُعَايَنَة اثْنَيْن بحَسَب مَا يُعَضّدُهُ الاشْتقَاقُ، وَيَقْتَضيه الْحَالُ وَتَوْجيهُ الْأَحْكَام.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامسَةُ: قَالَ جَمَاعَةٌ: هَذَا نَاسخٌ لمَا كَانُوا عَلَيْه في الْجَاهليَّة منْ التَّبَنّي وَالتَّوَارُث، وَيَكُونُ نَسْخًا للسُّنَّة بالْقُرْآن وَقَدْ بَيَّنَّا في الْقسْم الثَّاني أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا؛ لعَدَم شُرُوط النَّسْخ فيه؛ وَلأَنَّ مَا جَاءَ منْ الشَّريعَة لَا يُقَالُ إنَّهُ نَسْخٌ لبَاطل الْخَلْق، وَمَا كَانُوا عَلَيْه منْ الْمُحَال وَالضَّلَال، وَقَبيح الْأَفْعَال، وَمُسْتَرْسَل الْأَعْمَال، إلَّا أَنْ يُريدَ بذَلكَ نَسْخَ الاشْتقَاق، بمَعْنَى الرَّفْع الْمُطْلَق، وَالْإزَالَة الْمُبْهَمَة. اهـ.