فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{مَّا جَعَلَ الله لرَجُلٍ مّن قَلْبَيْن في جَوْفه} شروعٌ في إلقاء الوحي الذي أُمر عليه الصَّلاة والسَّلام اتباعه وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى تمهيدًا لما يعقبُه من قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون منْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} وتنبيهًا على أنَّ كون المُظاهَر منها أُمًّا وكون الدَّاعي ابنًا أي بمنزلة الأمّ والابن في الآثار والأحكام المعهودة فيما بينهم في الاستحالة بمنزلة اجتماع قلبين في جوفٍ واحدٍ وقيل: هو ردٌّ لما كانت العربُ تزعمُ من أنَّ اللَّبيبَ الأريبَ له قلبان ولذلك قيلَ لأبي معمرٍ أو لجميل بن أسيدٍ الفهريّ ذُو القلبين أي ما جمعَ الله تعالى قلبين في رجلٍ. وذكرُ الجوف لزيادة التَّقرير كما في قوله تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ولا زوجيَّةَ ولا أمومةَ في امرأةٍ ولا دعوةَ وبنوَّةَ في شخصٍ لكن لا بمعنى نفي الجمع بين حقيقة الزوجية والأمومة ونفي الجمع بين حقيقة الدَّعوة والبنوّة كما في القلب ولا بمعنى نفي الجمع بين أحكام الزوجية وأحكام الأُمومة ونفي الجمع بين أحكام الدَّعوة وأحكام البنوَّة على الإطلاق، بل بمعنى نفي الجمع بين حقيقة الزَّوجيَّة وأحكام الأُمومة ونفي الجمع بين حقيقة الدَّعوة وأحكام البنوة لإبطال ما كانُوا عليه من إجراء أحكام الأُمومة على المظاهر منها وإجراء أحكام البنوَّة على الدَّعيّ، ومعنى الظّهار أنْ يقولَ لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمّي مأخوذٌ من الظَّهر باعتبار اللَّفظ كالتَّلبية من لبيكَ وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنَّه كان طلاقًا في الجاهلية وهو في الإسلام يقتضي الطَّلاقَ أو الحُرمةَ إلى أداء الكفَّارة كما عُدّي آلَى بها وهو بمعنى حلفَ. وذُكر الظّهارُ للكناية عن البطن الذي هو عمودُه فإنَّ ذكرَه قريبٌ من ذكر الفرج أو للتغليظ في التَّحريم فإنَّهم كانُوا يُحرّمون إتيانَ الزَّوجة وظهرُها إلى السَّماء. وقُرئ اللاء وقُرئ تظاهرونَ بحذف إحدى التَّاءين من تتَظَاهرون وتَظّاهرون بإدغام التَّاء الثَّانية في الظَّاء، وتُظْهرون من أظهرَ بمعنى تظَهَّر وتَظْهَرون من ظَهَر بمعنى ظاهَر كعقدَ بمعنى عاقَد، وتَظْهُرون من ظَهر ظُهورًا. وأدعياءُ جمع دَعيَ وهو الذي يُدعى ولدًا على الشُّذوذ لاختصاص أَفعلاء بفعيلٍ بمعنى فاعلٍ كتقيَ وأتقياء كأنَّه شُبّه به في اللَّفظ فجُمع جمعَه كقُتلاء وأُسراء.
{ذلكم} إشارةٌ إلى ما يُفهم ممَّا ذُكر من الظّهار والادّعاء أو إلى الأخير الذي هو المقصودُ من مساق الكلام أي دعاءُكم بقولكم هذا ابني {قَوْلُكُم بأفواهكم} فقط من غير أن يكونَ له مصداقٌ وحقيقةٌ في الأعيان فإذن هُو بمعزلٍ من استتباع أحكام البنوَّة كما زعمتُم {والله يَقُولُ الحق} المطابقَ للواقع {وَهُوَ يَهْدى السبيل} أي سبيلَ الحقّ لا غيرَ فدعُوا أقوالَكم وخُذوا بقوله عزَّ وجلَّ: {ادعوهم لآبَائهمْ} أي أنسبُوهم إليهم وخُصُّوهم بهم.
وقولُه تعالى: {هُوَ أَقْسَطُ عندَ الله} تعليلٌ له والضَّميرُ لمصدر ادعُوا كما في قوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} وأقسطُ أفعلُ تفضيلٍ قُصد به الزيادةَ مطلقًا من القسط بمعنى العدل أي الدُّعاء لآبائهم بالغٌ في العدل والصّدق في حُكم الله تعالى وقضائه {فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُم} فتنسبُوهم إليهم {فَإخوَانُكُمْ} فهم إخوانُكم {فى الدين ومواليكم} وأولياؤكم فيه أي فادعُوهم بالأخوَّة الدّينية والمولوية {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثمٌ {فيمَا أَخْطَأْتُمْ به} أي فيما فعلتمُوه من ذلك مخطئينَ بالسَّهو أو النّسيان أو سبق اللّسان {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي ولكن الجناحُ فيما تعمَّدت قلوبُكم بعد النَّهي أو ما تعمَّدت قلوبُكم فيه الجناحَ {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحيمًا} لعفوه عن المخطيء وحكمُ التبنّي بقوله هو ابني إذا كان عبدًا لقائل العتق على كلّ حالٍ ولا يثبُت نسبُه منه إلاَّ إذا كان مجهولَ النَّسب وكان بحيثُ يُولد مثلُه لمثل المتبنّي ولم يُقرَّ قبله بنسبه من غيره. اهـ.

.قال الألوسي:

{مَّا جَعَلَ الله لرَجُلٍ مّن قَلْبَيْن في جَوْفه}.
أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبًا معكم وقلبًا معهم فنزلت، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فأكثروا فقالوا: إن له قلبين ألم تسمعوا إلى قوله وكلامه في الصلاة إن له قلبًا معكم وقلبًا مع أصحابه فنزلت، وقال مقاتل في تفسيره وإسماعيل بن أبي زياد الشامي وغيرهما: نزلت في أبي معمر الفهري كان أهل مكة يقولون: له قلبان من قوة حفظه وكانت العرب تزعم أن كل لبيب أريب له قلبان حقيقة، وأبو معمر هذا أشتهر بين أهل مكة بذي القلبين وهو على ما في الإصابة جميل بن أسيد مصغر الأسد، وقيل: ابن أسد مكبرًا وسماه ابن دريد عبد الله بن وهب، وقيل: إن ذا القلبين هو جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة ابن جمح الجمحي وهو المعنى بقوله: وكيف ثوائى البيت وقد تقدم في تفسير سورة لقمان، والمعول على ما في الإصابة، وحكى أنه كان يقول: إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد صلى الله عليه وسلم فروي أنه انهزم يوم بدر فمر بأبي سفيان وهو معلق احدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له أبو سفيان: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله وقولهم.
وعن الحسن أنه كان جماعة يقول الواحد منهم: نفس تأمرني ونفس تنهاني فنزلت، والجعل بمعنى الخلق ومن سيف خطيب، والمراد ما خلق سبحانه لأحد أو لذي قلب من الحيوان مطلقًا قلبين فخصوص الرجل ليس بمقصود وتخصيصه بالذكر لكمال لزوم الحياة فيه فإذا لم يكن ذلك له فكيف بغيره من الإناث، وأما الصبيان فمآلهم إلى الرجولية، وقوله سبحانه: {فى جَوْفه} للتأكيد والتصوير كالقلوب في قوله تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46] وذكر في بيان عدم جعله تعالى قلبين في جوف بناء على ما هو الظاهر من أن المراد بالقلب المضغة الصنوبرية أن النفس الناطقة وكذا الحيوانية لابد لها من متعلق ومتعلقها هو الروح وهو جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية لأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة عما وراء موضع الشد مما لا يلي جهة الدماغ والشد لا يمنع إلا نفوذ الأجسام، والتجارب الطبية أيضًا شاهدة بذلك، وحيث أن النفس واحدة فلابد من عضو واحد يكون تعلقها به أو لإثم بسائر الأعضاء بواسطته.
وقد ذكر غير واحد أن أول عضو يخلق هو القلب فإنه المجمع للروح فيجب أن يكون التعلق أولًا به ثم بواسطته بالدماغ والكبد وبسائر الأعضاء فمنبع القوى بأسرها منه وذلك يمنع التعدد إذ لو تعدد بأن كان هناك قلبان لزم أن يكون كل منهما أصلًا للقوى وغير أصل لها أو توارد علتين على معلول واحد، ولا يخفى على من له قلب أن هذا مع ابتنائه على مقدمات لا تكاد تثبت عند أكثر الإسلامين من السلف الصالح والخفل المتأخرين ولو بشق الأنفس أمر اقناعي لا برهان قطعي، على أن للفلسفي أيضًا له فيه مقالًا، وقد يفسر القلب بالنفس بناء على أن سبب النزول ما روى عن الحسن إطلاقًا للمعلق على المتعلق وقد بينوا وحدة النفس وأنه لا يجوز أن تتعلق نفسان فأكثر ببدن بما يطول ذكره، وللبحث فيه مجال فليراجع، ثم إن هذا التفسير بناء على أن سبب النزول ما ذكر غير متعين بل يجوز تفسير القلب عليه بما هو الظاهر المتبادر أيضًا، وحيث أن القلب متعلق النفس يكون نفي جعل القلبين دالًا على نفي النفسين فتدبر.
{وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون منْهُنَّ أمهاتكم} إبطال لما كان في الجاهلية من أجزاء أحكام الأمومة على المظاهر منها، والظاهر لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر ويستعمل في معان مختلفة راجعة إليه معنى ولفظًا بحسب اختلاف الأغراض فيقال ظاهرته إذا قابلت ظهرك بظهره حقيقة وكذا إذا غايظته باعتبا رأن المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهرته إذا نصرته باعتبار أنه يقال: قوى ظهره إذا نصره وظاهرت بين ثوبين إذا لبست أحدهما فوق الآخر على اعتبار جعل ما يلي بك كل منهما الآخر ظهرًا للثوب، ويقال: ظاهر من زوجته إذ قال لها أنت علي كظهر أمي نظير لبي إذ قال لبيك وأفف إذ قال أف، وكون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازًا لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازًا أيضًا والمراد منه هنا المعنى الأخير، وكان ذلك طلاقًا منهم.
وإنما عدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التباعد ونحوه مما فيه معنى المجانبة ويتعدى بمن، والظهر في ذلك مجاز على ما قيل عن البطن لأنه إنما يركب البطن فقوله: كظهر أمي بمعنى كبطنها بعلاقة المجاورة ولأنه عموده، قال ابن الهمام: لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات، وقال الأزهري معناه: خصوا الظهر لأنه محل الركوب والمرأة تركب إذا غشيت فهو كناية تلويحية انتقل من الظهر إلى المركوب ومنه إلى المغشي، والمعنى أنت محرمة على لا تركبين كما لا يركب ظهر الأم وقيل: خص الظهر لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حرامًا عندهم فإتيان أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ، وقيل: كنوا بالظهر عن البطن لأنهم يستقبحون ذكر الفرج وما يقرب منه سيما في الأم وما شبه بها، وليس بذاك، وهو في الشرع تشبيه الزوجة أو جزء منها شائع أو معبر به عن الكل بما لا يحل النظر إليه من المحرمة على التأبيد ولو برضاع أو صهرية وزاد في النهاية قيد الاتفاق ليخرج التشبيه بما لا يحل النظر إليه ممن اختلف في تحريمها كالبنت من الزنا وتحقيق الحق في ذلك في فتح القدير، وخص باسم الظهار تغليبًا للظهر لأنه كان الأصل في استعمالهم وشرطه في المرأة كونها زوجة وفي الرجل كونه من أهل الكفارة، وركنه اللفظ المشتمل على ذلك التشبيه، وحكمه حرمة الوطء ودواعيه إلى وجود الكفارة، وتمام الكلام فيه في كتب الفروع، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ذلك في محله.
وقرأ قالون وقنبل هنا وفي المجادلة والطلاق {اللاء} بالهمز من غير ياء، وورش بياء مختلسة الكسرة، والبزي وأبو عمرو {اللاي} بياء ساكنة بدلًا من الهمزة وهو بدل مسموع لا مقيس وهي لغة قريش، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم {ديارهم تظاهرون} بفتح التاء وتخفيف الظاء وأصله تتظاهرون فحذفت إحدى التاءين.
وقرأ ابن عامر {تظاهرون} بفتح التاء وتشديد الظاء وأصله كما تقدم إلا أنه أدغمت التاء الثانية في الظاء.
وقرأ الحسن {تُظْهرُونَ} بضم التاء وفتح الظاء المخففة وشد الهاء المكسورة مضارع ظهر بتشديد الهاء بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد، وقرأ ابن وثاب فيما نقل ابن عطية {تُظْهرُونَ} بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء مضارع أظهر، وقرأ هرون عن أبي عمرو و{تُظْهرُونَ} بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع ظهر بتخفيف الهاء، وفي مصحف أبي {تتظهرون} بتاءين ومعنى الكل واحد.
{أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} إبطال لما كان في الجاهلية أيضًا وصدر من الإسلام من أنه إذا تبنى الرجل ولد غيره أجريت أحكام البنوة عليه، وقد تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة والخطاب عامر بن ربيعة وأبو حذيفة مولاه سالمًا إلى غير ذلك، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد أن قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ} الخ، نزلت في زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.
و{أدعياء} جمع دعى وهو الذي يدعى ابنًا فهو فعيل بمعنى مفعول وقياسه أن يجمع على فعلي كجريح وجرحى لا على أفعلاء فإن الجمع عليه قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل كتقي وأتقياء فكأنه شبه به في اللفظ فحمل عليه وجمع جمعه كما قالوا في أسير وقتيل أسراء وقتلاء، وقيل: إن هذا الجمع مقيس في المعتل مطلقًا، وفيه نظر.
{الآخر ذلكم} قيل: إشارة إلى ما يفهم من الجمل الثلاثة من أنه قد يكون قلبان في جوف والظهار والإدعاء.
وقيل: إلى ما يفهم من الأخيرتين، وقيل: إلى ما يفهم من الأخيرة {قَوْلُكُم بأفواهكم} فقط من غير أن يكون له مصداق وحقيقة في الواقع ونفس الأمر فإذن هو بمعزل عن القبول أو استتباع الأحكام كما زعمتم.
{والله يَقُولُ الحق} الثابت المحقق في نفس الأمر {وَهُوَ يَهْدى السبيل} أي سبيل الحق فدعو قولكم وخذوا بقوله عز وجل.
وقرأ قتادة على ما في البحر {يَهْدى} بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال، وفي الكشاف أنه قرأ: {وَهُوَ الذي يَهْدى السبيل}.
{ادعوهم لآبائهمْ} أي انسبوهم إليهم وخصوهم بهم، أخرج الشيخان، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لابَائهمْ} الخ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل، وكان من أمره رضي الله تعالى عنه على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طي فأصيب في نهب من طي فقدم به سوق عكاظ وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها فأوصته عمته خديجة أو يبتاع لها غلامًا ظريفًا عربيًا إن قدر عليه فلما قدم وجد زيدًا يباع فيها فأعجبه ظرفه فابتاعه فقدم به عليها وقال لها: إني قد ابتعت لك غلامًا ظريفًا عربيًا فإن أعجبك فخذيه وإلا فدعيه فإنه قد أعجبني فلما رأته خديجة فأخذته فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندها فأعجب النبي عليه الصلاة والسلام ظرفه فاستوهبه منها.
فقالت أهبه لك فإن أردت عتقه فالولاء لي فأبى عليهما عليه الصلاة والسلام فأوهبته له إن شاء أعتق وإن شاء أملك قال: فشب عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام فمر بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة قال: من أنفسهم؟ قال: لا قال: فحر أنت أم مملوك قال: بل مملوك قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال له: أعرابي أنت أم عجمي؟ قال: عربي قال: ممن أصلك؟ قال: من كلب قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ود قال: ويحك ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل قال: وأيت أصبت؟ قال: في أخوالي قال: ومن أخوالك؟ قال طي قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى فالتزمه وقال: ابن حارثة ودعا أباه فقال: يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له حارثة: يا محمد أنتم أهل حرم الله تعالى وجيرانه وعند بيته تفكون العاني وتطعمون الأسير ابني عندك فأمنن علينا وأحسنت إلينا في فدائه فإنك ابن سيد قومه وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيكم خيرًا من ذلك قالوا: وما هو؟ قال أخيره فإن اختاركم فخذوه بغير فداء وإن اختارني فكفوا عنه فقال: جزاك الله تعالى خيرًا فقد أحسنت فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا زيد أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم هذا أبي وعمي وأخي فقال عليه الصلاة والسلام: فهم من قد عرفتهم فإن اخترتهم فاذهب معهم وإن اخترتني فأنا من تعلم قال له زيد: ما أنا بمختار عليك أحدًا أبدًا أنت معي بمكان الوالد والعم قال أبوه وعمه: أيا زيد أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه عليه قال: اشهدوا أنه حر وأنه ابني يرثني وأرثه فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامته عليه الصلاة والسلام فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لابَائهمْ} فدعى زيد بن حارثة، وفي بعض الروايات أن أباه سمع أنه بمكة فأتاه هو وعمه وأخوه فكان ما كان {هُوَ أَقْسَطُ عندَ الله} تعليل للأمر والضمير لمصدر ادعوا كما في قوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8]، و{أَقْسَطُ} أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقًا من القسط بمعنى العدل والمراد به البالغ في الصدق فاندفع ما يتوهم من أن المقام يقتضي ذلك الصدق لا العدل أي دعاؤكم إياهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق وزائد فيه في حكم الله تعالى وقضائه عز وجل.