فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجوز أن يكون أفعل على ما هو الشائع فيه، والمعنى أعدل مما قالوه ويكون جعله ذا عدل مع أنه زور لا عدل فيه أصلًا على سبيل التهكم {فَإن لَّمْ تَعْلَمُوا} أي تعرفوا {ءابَاءهُمُ} فتنسبوهم إليهم {فَإخوَانُكُمْ} أي فهم إخوانكم {فى الدين ومواليكم} أي وأولياؤكم فيه فادعوهم بالأخوة والمولوية بتأويلهما بالأخوة والولاية في الدين، وبهذا المعنى قيل لسام بعد نزول الآية مولى حذيفة وكان قد تبناه قبل، وقيل: {مواليكم} أي بنو أعمامكم، وقيل: معتقوكم ومخروركم وكأن دعاءهم بذلك لتطييب قلوبهم ولذا لم يؤمر بدعائهم بأسمائهم فقط.
{ومواليكم وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثم {فيمَا أَخْطَأْتُمْ به} أي فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل النهي.
{ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي ولكن الجناح والإثم فيما تعمدتموه بعد النهي على أن ما في محل الجر عطفًا على ما من {فيمَا أَخْطَأْتُمْ} وتعقب بأن المعطوف المجرور لا يفصل بينه وبين ما عطف عليه، ولذا قال سيبويه في قولهم ما مثل عبد الله يقول ذلك ولا أخيه: إنه حذف المضاف من جهة المعطوف وأبقى المضاف إليه على إعرابه والأصل ولا مثل أخيه ليكون العطف على المرفوع.
وأجيب بالفرق بين ما هنا والمثال وإن لا فصل فيه لأن المعطوف هو الموصول مع صلته أعني ما تعمدت على مثله أعني ما أخطأتم أو لوكن ما تعمدتم فيه الجناح على أن ما في موضع رفع على الابتداء وخبره جمل مقدرة، ونسبة التعمد إلى القلوب على حد السنبة في قوله تعالى: {فإنه آثم قلبه} [البقرة: 3 28] وكون المراد في الأول قبل النهي وفي الثاني بعده أخرجه الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد، وقيل: كلا الأمرين بعد النهي والخطأ مقابل العمد، والمعنى لا إثم عليكم إذ قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وعدم التعمد كأن سهوتهم أو سبق لسانكم ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: لو دعوت رجلًا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.
وجوز أن يراد بقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الخ العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لست أخاف عليكم الخطأ ولكن أخاف عليكم العمد» وحديث ابن عباس قال: قال عليه الصلاة والسلام «وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده، والجملة على تقديري الخصوص والعموم واردة على سبيل الاعتراض التذييلي تأكيدًا لامتثال ما ندبوا إليه مع ادماج حكم مقصود في نفسه، وجعلها بعضهم عطفًا مؤولًا بجملة طلبية على معنى ادعوهم لآبائهم وهو أقسط لكم ولا تدعوهم لأنفسكم متعمدين فتاثموا على تقدير الخصوص وجملة مستطردة على تقدير العموم وتعقب بأنه تكلف عنه مندوحة، وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، ولعل ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية، وأما إذا لم تكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة يا ابني وكثيرًا ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة.
وفي حواشي الخفاجي على تفسير البيضاوي النبوة وإن صح فيها التأويل كالأخوة لكن نهى عنها بالتشهبية بالكفرة والنهي للتنزيه انتهى، ولعله لم يرد بهذا النهي ما تدل عليه الآية المذكورة فإن ما تدل عليه نهي التحريم عن الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية، والأولى أن يقال في تعليل النهي: سدًا لباب التشبه بالكفرة بالكلية، وهذا الذي ذكره الخفاجي من كراهة قول الشخص لولد غيره يا ابني حكاه لي من ارتضيه عن فتاوي ابن حجر الكبرى، وحكم التبني بقوله: هو ابني إن كان عبدًا للقائل العتق على كل حال ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب وكان بحيث يولد مثله لمثله ولم يقر قبله بنسب من غيره، وعند الشافعي لا عبر بالتنبي فلا يفيد العتق ولا ثبوت النسب، وتحقيق ذلك في موضعه، ثم الظاهر أنه لا فرق إذا لم يعرف الأب بين أن يقال يا أخي وأن يقال يا مولاي في أن كلًا منهما مباح مطلقًا حينئذ لكن صرح بعضهم بحرمة أن يقال للفاسق يا مولاي لخبر في ذلك، وقيل: لما أن فيه تعظيمه وهو حرام، ومقتضاه أن قول يا أخي إذا كان فيه تعظيم بأن كان من جليل الشأن حرام أيضًا، فلعل الدعاء لغير معروف الأب بما ذكر مخصوص بما إذا لم يكن فاسقًا ودليل التخصيص هو دليل حرمة تعظيم الفاسق فتدبر، وكذا الظاهر أنه لا فرق في أمر الدعوة بين كون المدعو ذكرًا وكونه أنثى لكن لم نقف على وقوع النبني لإناث في الجاهلية والله تعالى أعلم {وَكَانَ الله غَفُورًا} فيغفر للعامد إذا تاب {رَّحيمًا} ولذا رفع سبحانه الجناح عن المخطىء، ويعلم من الآية أنه لا يجوز انتساب الشخص إلى غير أبيه، وعد ذلك بعضهم من الكبائر لما أخرج الشيخان.
وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام».
وأخرج الشيخان أيضًا «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله تعالى منه صرفًا ولا عدلًا» وأخرجا أيضًا «ليس منم رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر».
وأخرج الطبراني في الصغير من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديثه حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفر من تبرأ من نسب وأن دق أو ادعى نسبًا لا يعرف» إلى غير ذلك من الأخبار، هذ ومناسبة قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله} [الأحزاب: 4] الخ لما قبله أنه شروع في ذلك شيء من الوحي الذي أمر صلى الله عليه وسلم في اتباعه كذا قيل، وقيل: إنه تعالى لما أمر بالتقوى كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله تعالى فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما الله تعالى وبالآخر غيره سبحانه إلا بصرف القلب عن جهة الله تعالى إلى غيره جل وعلا ولا يليق ذلك بمن يتقي الله تعالى حق تقاته، وعن أبي مسلم أنه متصل بقوله تعالى: {وَلاَ تُطع الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] حيث جيء به للرد عليهم، والمعنى ليس لأحد قلبان يؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر وإنما هو قلب واحد فأما أن يؤمن وإما أن يكفر، وقيل هو متصل بلا تطع وابتع والمعنى أنه لا يمكن الجمع بين اتباعين متضادين اتباع الوحي والقرآن واتباع أهل الكفر والطغيان فكنى عن ذلك بذكر القلبين لأن الاتباع يصدر عن الاعتقاد وهو من أفعال القلوب فكما لا يجمع قلبنان في جوف واحد لا يجمع اعتقادان متضادان في قلب واحد، وقيل: هو متصل بقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكيلًا} [الأحزاب: 3] من حيث أنه مشعر بوحدته عز وجل فكأنه قيل: وتوكل على الله وكفى به تعالى وكيلًا فإنه سبحانه وتعالى وحده المدبر لأمور العالم، ثم أشار سبحاه وتعالى إلى أن أمر الرجل الواحد لا ينتظم ومعه قلبان فكيف تنتظم أمور العالم وله إلهان، وقيل: إن ذاك مسوق للتنفير عن إطاعة الكفرة والمنافقين بحكاية أباطيلهم، وذكر أن قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ} الخ ضرب مثلًا للظهار والتبني أي كما لا يكو لرجل قلبان لا تكون المظاهرة أما والمتبني ابنًا، وجعل المذكورات الثلاث بجملتها مثلًا فيما لا حقيقة له وارتضى ذلك غير واحد، وقال الطيبي: إن هذا أنسب لنظم القرآن لأنه تعالى نسق المنفيات الثلاث عن ترتيب واحد، وجعل سبحانه قوله جل وعلا: {ذلكم} فذلكة لها ثم حكم تعالى بأن ذلك قول لا حقيقة له، ثم ذيل سبحانه وتعالى الكل بقوله تعالى: {والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدى السبيل} [الأحزاب: 4] وتعقبه في الكشف بأن سبب النزول وقوله سبحانه بعد التذييل {ادعوهم لابَائهمْ} الآية شاهدا صدق بأن الأول مضروب للتبني ثم إنهم ما كانوا يجعلون الأزواج أمهات بل كانوا يجعلون اللفظ طلاقًا فإدخاله في قرن مسألة التبني استطرادًا هو الوجه لا أنه قول لا حقيقة له كالأول.
وانتصر الخفاجي للجماعة فقال: لو كان مثلًا للتبني فقط لم يفصل منه، وكون القلبين لرجل وجعل المتبني ابنًا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في نفس الأمر ولا في شرع ظاهر، وكذا جعل الأزواج كالأمهات في الحرمة المؤبدة مطلقًا من مخترعاتهم التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي فلا حقيقة له أيضًا فما ادعاه غير وارد عليهم لاسيما مع مخالفته لما روى عنهم انتهى، ويد الله تعالى مع الجماعة، وبين الطيبي نظم الآيات من مفتتح السورة إلى هنا فقال: إن الاستهلال بقوله تعالى: {يا أيها النبى اتق الله} [الأحزاب: 1] دال على أن الخطاب مشتمل على التبنية على أمر معتنى بشأنه لائح فيه معنى التعييج والإلهاب، ومن ثم عطف عليه {وَلاَ تُطع} كما يعطف الخاص على العام وأردف النهي بالأمر على نحو قولك لا تطع من يخذلك وابتع ناصرك، ولا يبعد أن يسمى بالطرد والعكس، ثم أمر بالتوكل تشجيعًا على مخالفة أعداء الدين والالتجاء إلى حريم جلال الله تعالى ليكفيه شرورهم، ثم عقب سبحانه كلا من تلك الأوامر على سبيل التتميم والتذييل بما يطابقه، وعلل قوله تعالى: {وَلاَ تُطع الكافرين والمنافقين} بقوله سبحانه وتعالى: {إنَّ الله كَانَ عَليمًا حَكيمًا} [الأحزاب: 1] تتميمًا للارتداع أي اتق الله فيما تأتي وتذر في سرك وعلانيتك لأنه تعالى عليم بالأحوال كلها يجب أن يحذر من سخطه حكيم لا يحب متابعة حبيبه أعداءه، وعلل قوله تعالى: {واتبع مَا يوحى إلَيْكَ من رَبّكَ} [الأحزاب: 2] بقوله تعالى: {إنَّ الله كَانَ بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرًا} [الأحزاب: 2] تتميمًا أيضًا أي اتبع الحق ولا تتبع أهواءهم الباطلة وآراءهم الرائغة لأن الله تعالى يعلم عملك وعملهم فيكافىء كلامًا يستحقه، وذيل سبحانه وتعالى قوله تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} بقوله تعالى: {وكفى بالله وَكيلًا} [الأحزاب: 3] تقريرًا وتوكيدًا على منوال فلان ينطق والحق أبلج يعني من حق من يكون كافيًا لكل الأمور أن تفوض الأمور إليه وتوكل عليه، وفصل قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لرَجُلٍ مّن قَلْبَيْن في جَوْفه} [الأحزاب: 4] على سبيل الاستئناف تنبيهًا على بعض من أباطيلهم وتمحلاتهم، وقوله تعالى: {ذَلكُمْ قَوْلُكُم} الخ فذلكة لتلك الأقوال آذنت بأنها جديرة بأن يحكم عليها بالبطلان وحقيق بأن يذم قائلها فضلًا عن أن يطاع، ثم وصل تعالى: {والله يَقُولُ الحق} [الأحزاب: 4] الخ على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في {وَلاَ تُطع} وفضل قوله تعالى: {السبيل ادعوهم لابَائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عندَ الله} وقوله تعالى: {النبى} الخ وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلًا لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم انتهى فتأمل ولا تغفل. اهـ.

.قال القاسمي:

{مَّا جَعَلَ اللَّهُ لرَجُلٍ مّن قَلْبَيْن في جَوْفه وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائي تُظَاهرُونَ منْهُنَّ أُمَّهَاتكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} قال الزمخشري: أي: ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوّة ودعوة في رجل. والمعنى: إن الله سبحانه، كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين؛ لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها- وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدًا كارهًا، عالمًا ظانًا، موقنًا شاكًا، في حالة واحدة- لم ير أيضًا أن تكون المرأة الواحدة أُمًّا لرجل زوجًا له؛ لأن الأم مخدومة، مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره، كالمملوكة. وهما حالتان متنافيتان.
وأن يكون الرجل الواحد دعيًّا لرجل، وابنًا له؛ لأن البنوة أصالة النسب، وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلًا غير أصيل، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة، وهو رجل من كَلْبٍ سبي صغيرًا، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهبته له، وطلبه أبوه وعمه فخُيّر، فاختار رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد. فأنزل الله هذه الآية، وقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ منْ رجَالكُمْ} [الأحزاب: 40].
والتنكير في: رجل، وإدخال من، الاستغراقية على قلبين، تأكيدان لما قصد من المعنى كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال، ولا لواحد منهم، قلبين البتة في جوفه.
وفائدة ذكر الجوف، كالفائدة في قوله: {الْقُلُوبُ الَّتي في الصُّدُور} [الحج: 46]، وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر والتجلي للمدلول عليه؛ لأنه إذا سمع به، صوّر لنفسه جوفًا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار. ومعنى: ظاهر من امرأته، قال لها: أنت عليّ كظهر أمي. وكان الظهار طلاقًا عند أهل الجاهلية، فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها، كما يتجنبون المطلقة، وهو في الإسلام يقتضي الطلاق والحرمة إلى أداء الكفارة.
قال الأزهري: وخصوا الظَّهر؛ لأنه محل الركوب. والمرأة تركب إذا غشيت، فهو كناية تلويحية، انتقل من الظَّهر إلى المركوب، ومنه إلى المغشيّ. والمعنى: أنت محرمة عليّ لا تركبين كما لا تركب الأم. كذا في الكشف.
وقوله تعالى: {ذَلكُمْ} إشارة إلى كل ما ذكر؛ أي: من كونه ليس لأحد قلبان، وليست الأزواج أمهات، ولا الأدعياء أبناء، أو إلى الأخير فقط وهو الدعوة: {قَوْلُكُم بأَفْوَاهكُمْ} أي: لا حقيقة له فلا يقتضي دعواكم ذلك، أن يكون ابنًا حقيقيًا؛ فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فلا يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون لبشر واحد قلبان: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} أي: الثابت المحقق في نفس الأمر: {وَهُوَ يَهْدي السَّبيلَ} أي: سبيل الحق.
{ادْعُوهُمْ لآبَائهمْ} أي: انسبوهم إليهم، وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة: {هُوَ أَقْسَطُ عندَ اللَّه} أي: أعدل وأحكم. قال ابن كثير: هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى بردّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر. روى البخاري عن ابن عمر قال: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لآبَائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عندَ اللَّه}. وأخرجه مسلم وغيره.
وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها: يا رسول الله! إنا ندعوا سالمًا ابنًا، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل عليّ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا. فقال صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه تحرمي عليه» الحديث. ولهذا لما نسخ هذا الحكم، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعيّ، وتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال عز وجل: {لكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمنينَ حَرَجٌ في أَزْوَاج أَدْعيَائهمْ إذَا قَضَوْا منْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] وقال تبارك وتعالى في آية التحريم: {وَحَلائلُ أَبْنَائكُمُ الَّذينَ منْ أَصْلابكُمْ} [النساء: 23]، احترازًا عن زوجة الدعيّ، فإنه ليس من الصلب. فأما الابن من الرضاعة، فمُنزّل منزلة ابن الصلب شرعًا، بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: «حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب».
فأما دعوة الغير ابنًا، على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهى عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه الامام أحمد وأهل السنن، إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قدّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أغليمةَ بني عبد المطلب على جمرات لنا من جَمْع فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: «أُبَيْنيّ! لاترموا الجمرة حتى تطلع الشمس». قال أبو عبيدة وغيره: أُبَيْنيّ، تصغير ابني. وهذا ظاهرالدلالة؛ فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر.
وفي مسلم عن أنس قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يابنيّ». رواه أبو داود والترمذي. انتهى كلام ابن كثير.
وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخٌ نظرٌ؛ لأن الناسخ لابد أن يرفع خطابًا متقدمًا، وأما ما لاخطاب فيه سابقًا، بل ورد حكمًا مبتدأ رفع البراءة الأصلية، فلا يسمّى نسخًا اصطلاحًا. فاحفظه؛ فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع.
ولما أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى آبائهم، إن عرفوا، أشار إلى دعوتهم بالإخوة والمولوية إن لم يعرفوا، بقوله سبحانه: {فَإن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ} أي: فتنسبوهم إليهم: {فَإخْوَانُكُمْ} أي: فهم إخوانكم: {في الدّين وَمَوَاليكُمْ} أي: أولياؤكم فيه؛ أي: فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي ويا مولاي: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثم: {فيمَا أَخْطَأْتُم به} أي: فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة، مخطئين بالسهو أو النسيان، أو سبق اللسان؛ لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه: {وَلَكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: ففيه الجناح؛ لأن من تعمد الباطل كان آثمًا: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحيمًا} أي: لعفوه عن المخطىء. اهـ.