فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان مجيء الجنود مرهبًا، سبب عنه عوده إلى مظهر العظمة فقال: {فأرسلنا} أي تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم في مقاتلتهم ألهمناكم عمل الخندق ليمنعهم من سهولة الوصول إليكم، ثم لما طال مقامهم أرسلنا بما لنا من العظمة {عليهم} أي خاصة {ريحًا} وهي ربح الصبا، فأطفأت نيرانهم.
وأكفأت قدورهم وجفانهم، وسفت التراب في وجوههم، ورمتهم بالحجارة وهدت خيامهم، وأوهنت ببردها عظامهم، وأجالت خيلهم {وجنودًا لم تروها} يصح أن تكون الرؤية بصرية وقلبية، منها من البشر نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه هداه الله للإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه لم يعلم أحد بإسلامي، فمرني يا رسول الله بأمرك! فقال: «إنما أنت فينا رجل واحد والحرب خدعة، فخذل عنا مهما استطعت» فأخلف بين اليهود وبين العرب بأن قال لليهود وكانوا أصحابه: إن هؤلاء- يعني العرب- إن رأوا فرصة انتهزوها وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين.
وليس حالكم كحالهم، البلد بلدكم وبه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم ليكونوا عندكم حتى تناجزوا الرجل، فإنه ليس لكم بعد طاقة إذا انفرد بكم، فقالوا: أشرت بالرأي، فقال: فاكتموا عني، وقال لقريش: قد علمتم صحبتي لكم وفراقي لمحمد، وقد سمعت أمرًا ما أظن أنكم تتهمونني فيه، فقالوا: ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: إن اليهود قد ندموا على نقض ما بينهم وبين محمد وأرسلوا إليه: إنا قد ندمنا فهل ينفعنا عندك أن نأخذ لك من القوم جماعة من أشرافهم تضرب أعناقهم، ونكون معك على بقيتهم، حتى تفرغ منهم لتكف عنا.
وتعيد لنا الأمان، قال: نعم، فإن أرسلوا إليكم فلا تدفعوا إليهم رجلًا واحدًا، ثم أتى غطفان فقال: إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ، قالوا: صدقت، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش واستكتمهم، فأرسلت إليهم قريظة يطلبون منهم رهنًا فقالوا: صدق نعيم، وأبوا أن يدفعوا إليهم أحدًا، فقالت قريظة: صدق نعيم، فتخاذلوا واختلفت كلمتهم، فانكسرت شوكتهم، وبردت حدتهم، ومنها من الملائكة جبرائيل عليه السلام ومن أراد الله منهم- على جميعهم أفضل الصلاة والسلام، والتحية والإكرام، فكبروا في نواحي عسكرهم، وزلزلوا بهم، وبثوا الرعب في قلوبهم، فماجت خيولهم، واضمحل قالهم وقيلهم، فكان في ذلك رحيلهم، بعد نحو أربعين يومًا أو بضع وعشرين- على ما قيل.
ولما أجمل سبحانه القصة على طولها في بعض هذه الآية، فصلها فقال ذاكرًا الاسم الأعظم إشارة إلى أن ما وقع فيها كان معتنى به اعتناء من بذل جميع الجهد وإن كان الكل عليه سبحانه يسيرًا: {وكان الله} الذي له جميع صفات الكمال والجلال والجمال {بما يعملون} أي الأحزاب من التحزب والتجمع والتألب والمكر والقصد السيىء- على قراءة البصري، وأنتم أيها المسلمون من حفر الخندق وغيره من الصدق في الإيمان وغيره- على قراءة الباقين {بصيرًا} بالغ الإبصار والعلم، فدبر في هذه الحرب ما كان المسلمون به الأعلين ولم ينفع أهل الشرك قوتهم، ولا أغنت عنهم كثرتهم، ولا ضر المؤمنين قلتهم، وجعلنا ذلك سببًا لإغنائهم بأموال بني قريظة ونسائهم وأبنائهم وشفاء لأدواتهم بإراقة دمائهم- كما سيأتي؛ ثم ذكرهم الشدة التي حصلت بتمالئهم فقال مبدلًا من {إذ} الأولى: {إذ جاؤوكم} أي الجنود المذكورون بادئًا بالأقرب إليهم، لأن الأقرب أبصر بالعورة وأخبر بالمضرة.
ولما كان من المعلوم أنهم لم يطبقوا ما علا وما سفل، أدخل أداة التبعيض فقال: {من فوقكم} يعني بني قريظة وأسد وغطفان من ناحية مصب السيول من المشرق، وأضاف الفوق إلى ضميرهم لأن العيال كانوا في الآكام، وهي بين بني قريظة وبين من في الخندق، فصاروا فوق العيال والرجال.
ولما كان المراد الفوقية من جهة علو الأرض، أوضحها بقوله: {ومن أسفل منكم} دون أن يقول: أسفلكم، وأفاد ذلك أيضًا من في أسفل إنما أحاطوا ببعض جهة الرجال فقط، ولم يقل ومن تحتكم لئلا يظن أنه فوق الرءوس وتحت الأرجل، ولم يقل في الأول من أعلى منكم لئلا يكون فيه وصف للكفرة بالعلو، وأسفل الأرض المدينة من ناحية المغرب يعني قريشًا، ومن لافّها من كنانة فإن طريقهم من تلك الجهة.
ولما ذكرهم بالمجيء الذي هو سبب الخوف، ذكرهم بالخوف بذكر ظرفه أيضًا مفخمًا لأمره بالغطف فقال: {وإذ} أي واذكروا حين، وأنث الفعل وما عطف عليه لأن التذكير الذي يدور معناه على القوة والعلو والصلابة ينافي الزيغ فقال: {زاغت الأبصار} أي مالت عن سداد القصد فعل الواله الجزع بما حصل من الغفلة الناشئة عن الدهشة الحاصلة من الرعب، وقطع ذلك عن الإضافة إلى كاف الخطاب إبقاء عليهم وتعليمًا للأدب في المخاطبة، وكذا {وبلغت القلوب} كناية عن شدة الرعب والخفقان، ويجوز- وهو الأقرب- أن يكون ذلك حقيقة بجذب الطحال والرئة لها عند ذلك بانتفاخهما إلى أعلى الصدر، ومنه قولهم للجبان: انتفخ منخره أي رئته {الحناجر} جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه شر ما في الإنسان جبن خالع أي يخلع القلب من مكانه، وجمع الكثرة إشارة إلى أن ذلك عمهم أو كاد.
ولما كانت هذه حالة عرضت، ثم كان من أمرها أنها إما زالت وثبتت إلى انقضاء الأمر، عبر عنها بالماضي لذلك وتحقيقًا لها ولما نشأ عنها تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد فقال: {وتظنون بالله} الذي له صفات الكمال فلا يلم نقص ما بساحة عظمته، ولا يدنو شيء من شين إلى جناب عزته {الظنونا} أي أنواع الظن إما بالنسبة إلى الأشخاص فواضح، وذلك بحسب قوة الإيمان وضعفه، وأما بالنسبة إلى الشخص الواحد فحسب تغير الأحوال، فتارة يظن الهلاك للضعف، وتارة النجاة لأن الله قادر على ذلك، ويظن المنافقون ومن قاربهم من ضعفاء القلوب ما حكى الله عنهم؛ قال الرازي في اللوامع: ويروى أن المسلمين قالوا: بلغت القلوب الحناجر، فهل من شيء نقول؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا» وزيادة الألف في قراءة من أثبتها في الحالين وهم المدنيان وابن عامر وشعبة إشارة إلى اتساع هذه الأفكار، وتشعب تلك الخواطر، وعند من أثبتها في الوقت دون الوصل وهم ابن كثير والكسائي وحفص إشارة إلى اختلاف الحال تارة بالقوة وتارة بالضعف.
ولما كانت الشدة في الحقيقة إنما هي للثابت لأنه ما عنده إلا الهلاك أو النصرة، وأما المنافق فيلقي السلم ويدخل داره الذل بالموافقة على جميع ما يراد منه، ترجم حال المؤمنين قاصرًا الخطاب على الرأس لئلا يدخل في مضمون الخبر إعلامًا بأن منصبه الشريف أجلّ من أن يبتلى فقال تعالى: {هنالك} أي في ذلك الوقت العظيم البعيد الرتبة {ابتلي المؤمنون} أي خولط الراسخون في الإيمان بما شأنه أن يحيل ما خالطه ويميله، وبناه للمجهول لما كان المقصود إنما هو معرفة المخلص من غيره، مع لعلم بأن فاعل ذلك هو الذي له الأمر كله، ولم يؤكد الابتلاء بالشدة لدلالة الافتعال عليها، وصرف الكلام عن الخطاب مع ما تقدم من فوائده، وعبر بالوصف ليخص الراسخين فقال: {وزلزلوا} أي حركوا ودفعوا وأقلقوا وأزعجوا بما يرون من الأهوال بتظافر الأعداء مع الكثرة، وتطاير الأراجيف {زلزالًا شديدًا} فثبتوا بتثبيت الله لهم على عهدهم.
ولما علم بهذا أن الحال المزلزل لهم كان في غاية الهول، أشار إلى أنهم لم يزلزلهم بأن حكى أقوال المزلزلين، ولم يذكر أقوالهم وسيذكرها بعد ليكون الثناء عليهم بالثبات مع عظيم الزلزال مذكورًا مرتين إشارة وعبارة، فقال: {وإذ} وأشار إلى تكريرهم لدليل النفاق بالمضارع فقال: {يقول} أي مرة بعد أخرى {المنافقون} أي الراسخون في النفاق، لأن قلوبهم مريضة ملائ مرضًا {والذين في قلوبهم مرض} أي من أمراض الاعتقاد بحيث أضعفها في الاعتقاد والثبات في مواطن اللقاء وفي كل معنى جليل، فهم بحيث لم يصلوا إلى الجزم بالنفاق ولا الإخلاص في الإيمان، بل هم على حرف فعندهم نوع النفاق، فالآية من الاحتباك: ذكر النفاق أولًا دال عليه ثانيًا، وذكر المرض ثانيًا دليل عليه أولًا، وهذا الذي قلته في القلوب موافق لما ذكره الإمام السهروردي في الباب السادس والخمسين من عوارفه عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهو، فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود منكوس، فذلك قلب الكافر، وقلب مربوط على غلاف، فذلك قلب المنافق، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد، فأيّ المدتين غلبت عليه حكم له بها» وروى هذا الحديث الغزالي في أواخر كتاب قواعد العقائد من الإحياء عن أبي سعيد الخدري، وق الشيخ زين الدين العراقي: أخرجه أحمد.
ولما كان المكذب لهم بتصديق وعد الله- ولله الحمد- كثيرًا، أكدوا قولهم وذكروا الاسم الأعظم وأضافوا الرسول إليه فقالوا: {ما وعدنا الله} الذي ذكر لنا أنه محيط الجلال والجمال {ورسوله} أي الذي قال من قال من قومنا: إنه رسول، استهزاء منهم، وإقامة للدليل في زعمهم لهذا البلاء على بطلان تلك الدعوى {إلا غرورًا} أي باطلًا استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله، والتمكين في البلاد حتى في حفر الخندق، فإنه قال: إنه أبصر بما برق له في ضربه لصخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور وكسرى بالحيرة من أرض فارس، وقصور الشام من أرض الروم، وإن تابعيه سيظهرون على ذلك كله وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك ابن جعشم سوارى كسرى بن هرمز كما هو مذكور مستوفى في دلائل النبوة للبيهقي، وكذبوا في شكهم.
ففاز المصدقون، وخاب الذين هم في ريبهم يترددون. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نعْمَةَ اللَّه عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا}.
تحقيقًا لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك لأن واقعة اجتماع الأحزاب واشتداد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم ونزلوا على المدينة وعمل النبي عليه السلام الخندق، كان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغًا إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمنهم من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبد غير ربه فإنه كاف أمره ولا يأمن مكره فإنه قادر على كل ممكن فكان قادرًا على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم كانوا ضعفاء كما قهر الكافرين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم، وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} إشارة إلى ما فعل الله بهم من إرسال ريح باردة عليهم في ليلة شاتية وإرسال الملائكة وقذف الرعب في قلوبهم حتى كان البعض يلتزق بالبعض من خوف الخيل في جوف الليل والحكاية مشهورة، وقوله: {وَكَانَ الله بمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا} إشارة إلى أن الله علم التجاءكم إليه ورجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداء، وهذا تقرير لوجوب الخوف وعدم جواز الخوف من غير الله فإن قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} أي الله يقضي حاجتكم وأنتم لا ترون، فإن كان لا يظهر لكم وجه الأمن فلا تلتفتوا إلى عدم ظهوره لكم لأنكم لا ترون الأشياء فلا تخافون غير الله والله بصير بما تعملون فلا تقولوا بأنا نفعل شيئًا وهو لا يبصره فإنه بكل شيء بصير وقوله: {إذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقكُمْ وَمنْ أَسْفَلَ منكُمْ} بيان لشدة الأمر وغاية الخوف، وقيل: {مّن فَوْقكُمْ} أي من جانب الشرق {وَمنْ أَسْفَلَ منكُمْ} من جانب الغرب وهم أهل مكة وزاغت الأبصار أي مالت عن سننها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته {وَبَلَغَت القلوب الحناجر} كناية عن غاية الشدة، وذلك لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص فيلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مجرى النفس لا يقدر المرء يتنفس ويموت من الخوف ومثله قوله تعالى: {فلولا إذَا بَلَغَت الحلقوم} [الواقعة: 83] وقوله: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} الألف واللام يمكن أن يكونا بمعنى الاستغراق مبالغة يعني تظنون كل ظن لأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئًا ويمكن أن يكون المراد ظنونهم المعهودة، لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قال عليه السلام: «ظنوا بالله خيرًا» ومن الكافر الظن السوء كما قال تعالى: {ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُوا} [ص: 27] وقوله: {إن يَتَّبعُونَ إلاَّ الظن} [النجم: 23] فإن قال قائل المصدر لا يجمع، فما الفائدة في جمع الظنون؟ فنقول لا شك في أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدرًا كما يقال ضربته سياطًا وأدبته مرارًا فكأنه قال ظننتم ظنًا بعد ظن أي ما ثبتم على ظن فالفائدة هي أن الله تعالى لو قال: تظنون ظنًا، جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال: ظنونًا، تبين أن فيهم من كان ظنه كاذبًا لأن الظنون قد تكذب كلها وقد يكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد مثاله إذا رأى جمع من بعيد جسمًا وظن بعضهم أنه زيد وآخرون أنه عمرو وقال ثالث إنه بكر، ثم ظهر لهم الحق قد يكون الكل مخطئين والمرئي شجر أو حجر.
وقد يكون أحدهم مصيبًا ولا يمكن أن يكونوا كلهم مصيبين فقوله: {الظنونا} أفاد أن فيهم من أخطأ الظن، ولو قال تظنون بالله ظنًا ما كان يفيد هذا.
{هُنَالكَ ابْتُليَ الْمُؤْمنُونَ وَزُلْزلُوا زلْزَالًا شَديدًا (11)} أي عند ذلك امتحن الله المؤمنين فتميز الصادق عن المنافق، والامتحان من الله ليس لاستبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد إظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء، كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة وعزم على معاقبته على مخالفته وعنده غيره من العبيد وغيرهم فيأمره بأمر عالمًا بأنه يخالفه فيبين الأمر عند الغير فتقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنها بظلم أو من قلة حلم وقوله: {وَزُلْزلُوا} أي أزعجوا وحركوا فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وبذكر الله تطمئن مرة أخرى، وهم المؤمنون حقًا.
{وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافقُونَ وَالَّذينَ في قُلُوبهمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا (12)}.
فسر الظنون وبينها، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زورًا ووعدهما كان غرورًا حيث قطعوا بأن الغلبة واقعة. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نعْمَةَ اللَّه عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا}.
فيهَا أَحْكَامٌ وَسيَرٌ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مَالكٌ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا، وَهيَ مُتَضَمّنَةٌ غَزْوَةَ الْخَنْدَق، وَالْأَحْزَاب، وَبَني قُرَيْظَةَ، وَكَانَتْ حَالَ شدَّةٍ، مُعَقَّبَةٌ بنعْمَةٍ، وَرَخَاءٍ وَغبْطَةٍ، وَذَلكَ مَذْكُورٌ في تسْعَ عَشْرَةَ آيَةً، وَيَقْتَضي مَسَائلَ ثَلَاثًا: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمعْت مَالكًا يَقُولُ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ بالْقتَال منْ الْمَدينَة وَذَلكَ قَوْلُهُ: {إذْ جَاءُوكُمْ منْ فَوْقكُمْ وَمنْ أَسْفَلَ منْكُمْ وَإذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجرَ} قَالَ: ذَلكَ يَوْمُ الْخَنْدَق، جَاءَتْ قُرَيْشٌ منْ هَاهُنَا، وَالْيَهُودُ منْ هَاهُنَا، وَالنَّجْديَّةُ منْ هَاهُنَا، يُريدُ مَالكٌ أَنَّ الَّذينَ جَاءُوا منْ فَوْقهمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَمنْ أَسْفَلَ منْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسم: كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَق سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَهيَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ في يَوْمٍ وَاحدٍ، وَبَيْنَ بَني قُرَيْظَةَ وَالنَّضير أَرْبَعُ سنينَ.
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَق سَنَةَ خَمْسٍ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالكٌ: بَلَغَني أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ قَالَ لسَعْد بْن مُعَاذٍ في بَني قُرَيْظَةَ حينَ نَزَلَتْ عَلَى حُكْم سَعْدٍ، وَجَاءَ ليَحْكُمَ فيهمْ، وَهُوَ عَلَى أَتَانٍ، فَمَرَّ به حَتَّى لَقيَهُ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ الْمُنَافقُ قَالَ: أَنْشَدْتُك اللَّهَ يَا سَعْدُ في إخْوَاني وَأَنْصَاري، ثَلَاثُمائَة فَارسٍ وَستُّمائَة رَاجلٍ، فَإنَّهُمْ جَنَاحي، وَهُمْ مَوَاليك وَحُلَفَاؤُك فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ آنَ لسَعْدٍ أَلَّا تَأْخُذَهُ في اللَّه لَوْمَةُ لَائمٍ، فَحَكَمَ فيهمْ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَاريُّهُمْ وَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَقَدْ حَكَمَ فيهمْ سَعْدٌ بحُكْم الْمَلك».