فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} وقُرئ بالياء؛ أي لم يرها المشركون.
قال المفسرون: بعث الله تعالى عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرُّعْب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر؛ حتى كان سيَّدُ كل خباء يقول: يا بني فلان هُلُمّ إليّ فإذا اجتمعوا قال لهم: النّجاءَ النّجاءَ؛ لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب.
{وَكَانَ الله بمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا} وقرىء: {يعملون} بالياء على الخبر، وهي قراءة أبي عمرو.
الباقون بالتاء؛ يعني من حفر الخندق والتحرز من العدوّ.
قوله تعالى: {إذْ جَاءُوكُمْ مّن فَوْقكُمْ وَمنْ أَسْفَلَ منكُمْ}.
{إذْ} في موضع نصب بمعنى واذكر وكذا {وَإذْ قَالَتْ طَائفَةٌ منْهُمْ}.
{منْ فَوْقكُمْ} يعني من فوق الوادي، وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عَوْف بن مالك في بني نصر، وعيينة بن حصْن في أهل نجد، وطُليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد.
{وَمنْ أَسْفَلَ منْكُمْ} يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جَحْش على قريش، وجاء أبو الأعور السُّلَمي ومعه حُيَيُّ بن أخطب اليهودي في يهود بني قُريظة مع عامر بن الطُّفَيل من وجه الخندق.
{وَإذْ زَاغَت الأبصار} أي شَخُصت.
وقيل: مالت؛ فلم تلتفت إلا إلى عدوّها دَهَشًا من فرط الهَوْل.
{وَبَلَغَت القلوب الحناجر} أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم، واحدها حنجرة؛ فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت؛ قاله قتادة.
وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد؛ قال:
إذا ما غَضبْنَا غَضْبَةً مُضَريَّة ** هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دَمَا

أي كادت تقطر.
ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلًا؛ ولهذا يقال للجبان: انتفخ سَحْره.
وقيل: إنه مثل مضروب في شدّة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة.
قال معناه عكرمة.
روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: بلغ فزعها.
والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه، أي كأنه لشدّة اضطرابه بلغ الحنجرة.
والحنجرة والحُنجور بزيادة النون حرف الحلق.
{وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} قال الحسن: ظن المنافقون أن المسلمين يُستأصلون، وظن المؤمنون أنهم يُنصرون.
وقيل: هو خطاب للمنافقين؛ أي قلتم هلك محمد وأصحابه.
واختلف القرّاء في قوله تعالى: {الظُّنُونَا} و{الرسولا} و{السبيلا} آخر السورة؛ فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر.
وروي عن أبي عمرو والكسائي تمسكا بخط المصحف، مصحف عثمان، وجميع المصاحف في جميع البلدان.
واختاره أبو عبيد؛ إلا أنه قال: لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن.
قالوا: ولأن العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها؛ قال:
نحن جلبنا القُرّح القوافلاَ ** تستنفر الأواخرُ الأوائلا

وقرأ أبو عمرو والجحدريّ ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معًا.
قالوا: هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى: {ولأَوْضَعُوا خلاَلَكُمْ} [التوبة: 47] فكتبوها كذلك، وغير هذا.
وأما الشعر فموضع ضرورة، بخلاف القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه.
قال ابن الأنباري: ولم يخالف المصحف من قرأ: {الظنون} و{السبيل} و{الرسول} بغير ألف في الحروف الثلاثة، وخطّهن في المصحف بألف لأن الألف التي في {أطعنا} والداخلة في أوّل {الرسول} و{الظنون} و{السبيل} كفى من الألف المتطرفة المتأخرة كما كَفَتْ ألفُ أبي جادٍ من ألف هوّاز.
وفيه حجة أخرى: أن الألف أنزلت منزلة الفتحة وما يُلحق دعامة للحركة التي تسبق والنية فيه السقوط؛ فلما عُمل على هذا كانت الألف مع الفتحة كالشيء الواحد يوجب الوقفُ سقوطَهما ويعمل على أن صورة الألف في الخط لا توجب موضعًا في اللفظ، وأنها كالألف في {ساحران} [طه: 63] وفي {فاطر السموات والأرض} [فاطر: 1] وفي {واعدنا مُوسى} [البقرة: 51] وما يشبههن مما يُحذف من الخط وهو موجود في اللفظ، وهو مسقط من الخط.
وفيه حجة ثالثة هي أنه كتب على لغة من يقول لقيت الرجلا.
وقرىء على لغة من يقول: لقيت الرجل، بغير ألف.
أخبرنا أحمد بن يحيى عن جماعة من أهل اللغة أنهم رووا عن العرب قام الرّجلُو، بواو، ومررت بالرجلي، بياء، في الوصل والوقف.
ولقيت الرجلا؛ بألف في الحالتين كلتيهما.
قال الشاعر:
أسائلةٌ عُميرةُ عن أبيها ** خلالَ الجيش تَعْتَرف الرّكابا

فأثبت الألف في الركاب بناء على هذه اللغة.
وقال الآخر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ** ظننت بآل فاطمة الظنونا

وعلى هذه اللغة بنى نافع وغيره.
وقرأ ابن كثير وابن محيْصن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل.
قال ابن الأنباريّ: ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الألف احتاج إليها عند السكت حرصًا على بقاء الفتحة، وأن الألف تدعمها وتقوّيها.
{هُنَالكَ ابْتُليَ الْمُؤْمنُونَ وَزُلْزلُوا زلْزَالًا شَديدًا (11)}.
هنا للقريب من المكان و{هنالك} للبعيد و{هناك} للوسط ويشار به إلى الوقت؛ أي عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص من المنافق.
وكان هذا الابتلاء بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال.
{وَزُلْزلُوا زلْزَالًا شَديدًا} أي حرّكوا تحريكًا.
قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح؛ نحو قلقلته قلقالا وقَلقالًا، وزلزلوا زلزالًا وزَلزالًا.
والكسر أجود؛ لأن غير المضاعف على الكسر نحو دحرجته دحراجًا.
وقراءة العامة بكسر الزاي.
وقرأ عاصم والجحدريّ {زَلزالا} بفتح الزاي.
قال ابن سلام: أي حرّكوا بالخوف تحريكًا شديدًا.
وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق.
وقيل: إنه اضطرابهم عما كانوا عليه؛ فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه.
و{هنالك} يجوز أن يكون العامل فيه {ابْتُليَ} فلا يوقف على {هنالك}.
ويجوز أن يكون {وَتَظُنُّونَ باللَّه الظُّنُّونَا} فيوقف على {هنالك}.
قوله تعالى: {وَإذْ يَقُولُ المنافقون والذين في قُلُوبهم مَّرَضٌ} أي شك ونفاق.
{مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} أي باطلًا من القول.
وذلك أن طُعْمة بن أُبَيْرق ومُعَتّب بن قُشير وجماعة نحو من سبعين رجلًا قالوا يوم الخندق: كيف يَعدُنا كنوزَ كسْرى وقَيْصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرّز؟ وإنما قالوا ذلك لمّا فَشَا في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من قوله عند ضرب الصخرة، على ما تقدم في حديث النسائيّ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُوا اذكروا نعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ}.
إنْ جُعل النّعمةَ مصدرًَا، فالجارُّ متعلّقٌ بها وإلا فهو متعلّق بمحذوفٍ هو حالٌ منها أي كائنةً عليكُم {إذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} ظرفٌ لنفس النّعمة أو لثبوتها لهم، وقيل: منصوبٌ باذكروا على أنَّه بدلُ اشتمالٍ من نعمة الله، والمرادُ بالجنود الأحزابُ وهُم قريشٌ وغَطَفانُ ويهودُ قريظةَ والنَّضير وكانُوا زُهاءَ اثني عشرَ ألفًا فلمَّا سمعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضربَ الخندقَ على المدينة بإشارة سلمانَ الفارسيّ ثمَّ خرجَ في ثلاثة آلافٍ من المُسلمينَ فضربَ معسكَرهُ والخندقُ بينَهُ وبينَ القوم وأمرَ بالذَّرارى والنّساء فَرفعوا في الآطام واشتدَّ الخوفُ وظنَّ المؤمنونَ كلَّ ظنَ ونجمَ النّفاقُ في المنافقينَ حتَّى قال معتّبُ بنُ قُشيرٍ: كان محمدٌ يَعدنا كنوزَ كسرى وقيصرَ ولا نقدرُ أنْ نذهبَ إلى الغائط ومضَى على الفريقين قريبٌ من شهرٍ لا حربَ بينهم إلا أنَّ فوارسَ من قريشٍ منهم عمروُ بنُ عبدوُدّ وعكرمةُ بنُ أبي جهلٍ وهُبيرةُ بن أبي وهبٍ ونوفلُ بنُ عبد اللَّه وضرارُ بنُ الخطَّاب ومرداسُ أخُو بني محاربٍ قد ركبُوا خيولَهم وتيَّممُوا من الخندق مكانًا مضيقًا فضربُوا خيولَهم فاقتحمُوا فجالتْ بهم في السَّبخة بين الخندق وسلعٍ فخرج عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه في نفرٍ من المسلمين حتَّى أخذَ عليهم الثَّغرة التي اقتحمُوا منها فأقبلت الفرسانُ نحوَهم وكان عمروٌ معلمًا ليُرى مكانُه فقال له عليٌّ رضي الله عنه: يا عمرُو إنّي أدعُوك إلى الله ورسوله والإسلام قال: لا حاجةَ لي إليه قال: فإنيّ أدعُوك إلى النّزال قال: يا ابنَ أخي والله إنّي لا أحبُّ أنْ أقتلَك قال عليٌّ لكنّي والله أحبُّ أنْ أقتلَك فحمي عمروٌ عند ذلكَ وكان غيُورًا مشهُورًا بالشَّجاعة واقتحمَ عن فرسه فعقَره أو ضربَ وجهَه ثم أقبلَ عَلَى عليَ فتناولاَ وتجاولاَ فضرَبه عليٌّ رضي الله عنه ضربةً ذهبتْ فيها نفسُه فلما قتلَه انهزمتْ خيلُه حتى اقتحمتْ من الخندق هاربةً وقتل مع عمروٍ رجلان منبّه بنُ عثمانَ بن عبد الدَّار ونوفلُ بنُ عبد اللَّه بن المُغيرة المخزومّي قتلَه أيضًا عليٌّ رضي الله عنه وقيل: لم يكُن بينهم إلا التَّرامي بالنَّبل والحجارة.
حتَّى أنزل الله تعالى النَّصرَ وذلكَ قولُه تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا} عطفٌ على جاءتْكُم مسوقٌ لبيان النّعمة إجمالًا وسيأتي بقيَّتُها في آخر القصَّة {وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكةُ عليهم السَّلامُ، وكانُوا ألفًا بعثَ الله عليهم صَبًا باردةً في ليلةٍ شاتيةٍ فأخصرتْهمُ وسفت التُّرابَ في وجوههم وأمرَ الملائكةَ فقلعت الأوتادَ وقطَّعت الأطنابَ وأطفأت النّيرانَ وأكفأت القُدورَ وماجت الخيلُ بعضُها في بعضٍ وقُذفَ في قلوبهم الرُّعبُ وكبَّرت الملائكةُ في جوانب عسكرهم فقال طليحةُ بنُ خوُيلد الأسديُّ: أما محمدٌ فقد بدأكم بالسّحر فالنَّجاءَ النَّجاءَ فانهزمُوا من غير قتالٍ {وَكَانَ الله بمَا تَعْمَلُونَ} من حفر الخندق وترتيب مبادىء الحرب وقيل: من التجائكم إليه ورجائكم من فضله. وقُرئ بالياء أي بما يعملُه الكفَّارُ أي من التَّحرز والمحاربة أو من الكفر والمعاصي. {بَصيرًا} ولذلكَ فعلَ ما فعلَ من نصركم عليهم، والجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لما قبله.
{إذْ جَاءُوكُم} بدلٌ من إذْ جاءتْكُم {مّن فَوْقكُمْ} من أعلى الوادي من جهة المشرق وهم بنُو غطَفَان ومَن تابعَهم من أهل نحدٍ قائدُهم عيينةُ بن حصْنٍ وعامرُ بنُ الطُّفيل في هوازنَ وضامتهم اليهودُ من قريظةَ والنَّضير {وَمنْ أَسْفَلَ منكُمْ} أي من أسفل الوادي من قبل المغرب وهم قُريشٌ ومن شايعهم من الأحابيش وبني كنانةَ وأهل تهامةَ وقائدُهم أبوُ سفيانَ وكانُوا عشرةَ آلافٍ. {وَإذْ زَاغَت الأبصار} عطفٌ على ما قبلَه داخلٌ معه في حُكم التَّذكير أي حين مالتْ عن سَننها وانحرفتْ عن مُستوى نظرها حيرةً وشُخوصًا وقيل: عدلتْ عن كلّ شيءٍ فلم تلتفتْ إلاَّ إلى عدوّها لشدَّة الرَّوع {وَبَلَغَت القلوب الحناجر} لأنَّ الرئةَ تنتفخ من شدَّة الفزع فيرتفعُ القلبُ بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهي مُنتهى الحُلقوم وقيل: هو مثلٌ في اضطراب القلوب ووجيبها وإنْ لم تبلغْ الحناجرَ حقيقة والخطابُ في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} لمن يُظهر الإيمانَ على الإطلاق أي تظنُّون بالله تعالى أنواعَ الظُّنون المختلفة حيثُ ظنَّ المُخلصون الثُّبتُ القلوب أنَّ الله تعالى يُنجز وعدَهُ في إعلاءٍ دينه كما يُعرب عنه ما سيُحكى عنهم من قولهم: {هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} الآيةَ أو يمتحنهم فخافُوا الزَّللَ وضعفَ الاحتمال. والضّعافُ القلوب والمنافقون ما حُكي عنهم ممَّا لا خيرَ فيه والجملُة معطوفةٌ على زاغت وصيغةُ المضارع لاستحضار الصُّورة والدّلالة على الاستمرار. وقُرى الظُّنونَ بغير ألفٍ وهو القياسُ وزيادتُها لمراعاة الفواصل كما تُزاد في القوافي.
{هُنَالكَ} ظرفُ زمانٍ أو ظرفُ مكانٍ لما بعدَه أي في ذلك الزّمان الهائل أو المكان الدَّحض. {ابتلى المؤمنون} أي عُوملوا معاملةَ مَن يُختبر فظهرَ المُخلص من المنافق والرَّاسخُ من المتزلزل. {وَزُلْزلُوا زلْزَالًا شَديدًا} من الهَول والفزع وقُرئ بفتح الزَّاي {وَإذْ يَقُولُ المنافقون} عطفٌ على إذْ زاغت. وصيغةُ المضارع لما مرَّ من الدّلالة على استمرار القول واستحضار صورته {والذين في قُلُوبهم مَّرَضٌ} أي ضعفُ اعتقادٍ {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من إعلاء الدّين والظَّفر {إلاَّ غُرُورًا} أي وعدَ غرورٍ وقيل: قولًا باطلًا والقائلُ مُعتبُ بنُ قُشيرٍ وأضرابُه راضون به قال يَعدنا محمدٌ بفتح كنوز كسرى وقيصرَ وأحدُنا لا يقدرُ أنْ يتبرزَ فَرَقًا ما هذا إلا وعدُ غرورٍ. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُوا اذكروا نعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ}.
شروع في ذكر قصة الأحزاب وهي وقعة الخندق، وكانت على ما قال ابن إسحاق في شوال سنة خمس، وقال مالك: سنة أربع.
والنعمة إن كانت مصدرًا بمعنى الإنعام فالجار متعلق بها وإلا فهو متعلق بمحذوف وقع حالًا منها أي كائنة عليكم، وقوله تعالى: {إذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} ظرف لنفس النعمة أو لثبوتها لهم، وقيل: منصوب باذكر على أنه بدل اشتمال من {نعْمَتَ} والمراد بالجنود الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النضير رؤساؤهم حيي بن أخطب وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنبذه بسعي حيي، وكان مجموعهم عشرة آلاف في قول وخمسة عشر ألفًا في آخر، وقيل: زهاء اثني عشر ألفًا، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم حفر خندقًا قريبًا من المدينة محيطًا بها بإشارة سلمان الفارسي أعطى كل أربعين ذراعًا لعشرة، ثم خرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فدفعوا في الآطام، واشتد الخوف وظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق كما قص الله تعالى، ومضى قريب من شهر على الفريقين لا حرب بينهم سوى الرمي بالنبل والحجارة من وراء الخندق إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وكان يعد بألف فارس وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله قد ركبوا خيولهم وتيمموا من الخندق مكانًا ضيقًا فضربوا بخيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع فخرج علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه في نفر من المسلمين رضي الله تعالى عنهم حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها فأقبلت الفرسان معهم وقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرًا في قصة مشهورة فانهزمت خيله حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو منبه بن عثمان بن عبد الدار ونوفل بن عبد العزى، وقيل: وجد نوفل في جوف الخندق فجعل المسلمون يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضهكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام.