فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فآفة العقل البشري أنه لم يقنع بالتعقل للقوة القاهرة الفاعلة، فكان يكفيه أن يتعقل أن وراء هذا الكون قوةً، هذه القوة لها صفات الكمال التي بها أوجدتْ هذا الكون، فإنْ أردنا معرفة ما هي هذه القوة فلابُدَّ أنْ نترك هذا الطارق ليخبرنا عن نفسه، ويفصح عن هدفه وسبب مجيئه، ولا يتم ذلك إلا من خلال رسول يأتي من عند الله يخبرنا عن هذه القوة، عن الله، عن أسمائه وصفاته ومنهجه الذي ارتضاه لخَلْقه، وما أعدَّه الله لمَنْ أطاعه من النعيم، وما أعدَّه لمَنْ عصاه من العذاب.
فإنْ كذَّبنا هذا الرسول، وطلبنا دليلًا على صدْقه في البلاغ أخرج لنا من المعجزات ما يؤيده وما يحملنا على تصديقه؛ لأنه أتى بلونٍ مما ننبغ فيه نحن، وفن من فنوننا، ومع ذلك عجزنا عن الإتيان بمثله.
إذن: فالتعقُّل أول مراحل الإيمان: لذلك فإن أبسط ردٍّ على مَنْ يعبدون غير الله أن نقول لهم: بماذا أمرتكم آلهتكم؟ وعمَّ نهتْكم؟ وماذا أعدَّتْ لمن أطاعها؟ وماذا أعدَّت لمنْ عصاها؟ ما المنهج الذي تستعبدكم به؟
فكان من منطق العقل ساعةَ يأتينا رسول من عند الله أنْ نستشرف له، ونُقبل عليه، ونسأله عن اللغز الذي لا نعرفه من أمور الحياة والكون، كان علينا أن نستمع له، وأن ننصاع لأوامره؛ لأنه ما جاء إلا ليُخرجنا من مأزق فكري، ومن مأزق عقلي لا يستطيع أحد منَّا أنْ يُحلّله، كان على القوم أن يتلهفوا على هذا الرسول، لا أن يعادوه ويعاندوه، لما لهم من سلطة زمنية ظنوها باقية.
وقوله تعالى: {اذكروا نعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 9] ما هو الذكر؟ العقل حين يتلقَّى المعلومات من الحواسّ يقارن بينها ويُغربلها، ثم يحتفظ بها في منطقة منه تمثل خزينة للمعلومات، وما أشبه العقل في تلقي المعلومات بلقطة الفوتوغرافيا التي تلتقط الصورة من مرة واحدة، والناس جميعًا سواء في تلقي المعلومات، المهم أن تصادف المعلومة خُلوّ الذّهْن مما يشغله.
وهذه المنطقة في العقل يسمونها بؤرة الشعور، وهي لا تلتقط إلا جزئية عقلية واحدة، فإذا أردتَ استدعاء معلومة من الحافظة، أو من حاشية الشعور، فالذاكرة هي التي تستدعي لك هذه المعلومة، وتُخرجها من جديد من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور.
ثم هناك ما يُسمَّى بتداعي المعاني، حين يُذكّرك شيء بشيء آخر، وهناك المخيّلة، وهي التي تُلفّق أو تُؤلّف من المعلومات المختزنة شيئًا جديدًا، ونسميه التخيُّل، فالشاعر العربي حين أعجبه الوشم باللون الأخضر على بشرة شابة بيضاء تخيَّلها هكذا.
خَوْدٌ كأنَّ بَنَانَهَا في ** نَقْشه الوَشْم المُزَرَّدْ

سَمَكٌ منَ البللَّوْر في ** شَبَك تكوَّنَ منْ زَبَرْجَدْ

فهذه صورة تخيُّلية خاصة بالشاعر، وإلا فَمْن منَّا رأى سمكًا من البللور في شبك من زبرجد؟ فللشاعر نظرته الخاصة للصور التي يراها، وسبق أنْ ذكرنا الصورة التي رسمها الشاعر للأحدب، فقال:
قَصُرَتْ أَخَادعُه وغَاصَ قَذَالُه ** فَكأنَّهُ مُترّبصٌ أنْ يُصْفَعَا

وكأنَّمَا صُفعَتْ قفَاهُ مرةً ** فَأحسَّ ثانيةً لَهَا فَتَجمَّعا

ومنذ القدَم يعتبر الشعراء محلًا للحب وللمشاعر، لكن يخرج علينا هذا الشاعر بصورة أخرى جديدة من نَسْج خياله، فيقول:
خَطَرَاتُ ذكْركَ تَسْتَثيرُ مَودَّتي ** فَأُحسُّ منْها في الفُؤاد دَبيبا

لاَ عُضْوَ لي إلاَّ وَفيه صَبَابَةٌ ** فَكأنَّ أَعْضَائي خُلقْنَ قُلُوبَا

فمعنى: {اذكروا نعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 9] لا تمروا على النعم بغفلة لرتابتها عندكم، بل تذكروها دائمًا، واجعلوها في بؤرة شعوركم؛ لذلك جعل الله الذكر عبادة، وهو عبادة بلا مشقة، فأنت حين تصلي مثلًا تستغرق وقتًا ومجهودًا للوضوء وللذهاب للمسجد، كذلك حين تزكي تُخرج من مالك، أما الذكْر فلا يُكلّفك شيئًا.
لذلك في سورة الجمعة حينما يستدعي الحق سبحانه عباده للصلاة، يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذَا نُوديَ للصَّلاَة من يَوْم الجمعة فاسعوا إلى ذكْر الله وَذَرُوا البيع} [الجمعة: 9] فهنا حركتان: حركة إيجاب بالسعي إلى الصلاة، وحركة سَلْب بترْك البيع والشراء، وكلّ ما يشغلك عن الصلاة.
ثم يقول تعالى: {فَإذَا قُضيَت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فَضْل الله واذكروا الله كَثيرًا} [الجمعة: 10].
وفي موضع آخر قال: {وَلَذكْرُ الله أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] فإياك أن تظن أن الله يريد أنْ تذكره ساعة الصلاة فحسب، إنما اذكره دائمًا وأبدًا، وإنْ كانت الصلاة لها ظرف تُؤدّي فيه، فذكْر الله لا وقتَ له؛ لذلك جعله الله يسيرًا سهلًا، لا مشقة فيه، لا بالوقت ولا بالجهد، فيكفي في ذكْر الله أنْ تتأمل المرائي التي تمر بها ويقع عليها نظرك لترى فيها قَدرة الله.
والحق سبحانه يُذكّرنا بنعمه؛ لأن النعمة بتواليها على النفس البشرية تتعوَّد عليها النفس، ويحدث لها رتابة، فلا تلتفت إليها، فأنت مثلًا ترى الشمس كل صباح، لكن قلَّما تتذكر أنها آية من آيات الخالق- عز وجل- ونعمة من نعمه؛ لأنك تعوَّدت على رؤيتها، وأصبحت رتيبة بالنسبة لك.
كذلك يلفتنا الحق سبحانه إلى نعمه حين يسلبها من الآخرين، فحين ترى السقيم تذكَّر نعمة العافية، وحين ترى الأعمى تذكَّر نعمة البصر. الخ وساعتها ينبغي عليك أنْ تشكر المنعم الذي عافاك مما ابتلى به غيرك، إذن: فهذه الشواذ جعلها الله وسائل للإيضاح وتذكيرًا للخلق بنعَم الخالق.
والنعمة وردتْ هنا مفردة، وكذلك في قوله تعالى: {وَإن تَعُدُّوا نعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وقد وقف أعداء الإسلام من المستشرقين أمام هذه الآية يعترضون على أن النعمة فيها مفردة، يقولون: فكيف تُعَدُّ؟ وهذا الاعتراض منهم ناشئ عن عدم فَهْم لمعاني وأساليب القرآن.
ونقول: الذي تروْنه نعمة واحدة، لو تأملتُم فيها لوجدتم بداخلها نعَمًا متعددة تفوق العَدَّ؛ لذلك استخدم القرآن هنا أنْ الدالة على الشك؛ لأن نعَم الله ليست مظنَّة العَدّ والإحصاء كرمال الصحراء، هل تعرَّض أحد لعدّها؟ لأنك لا تقبل على عَدّ شيء إلا إذا كان مظنَّةَ العَدّ، وإحصاء المعدود.
لذلك، فالحق سبحانه يوضح لنا: إنْ حاولتم إحصاء نعَم الله- وهذا لن يحدث- فلن تستطيعوا عدَّها، مع أن الإحصاء أصبح علْمًا مستقلًا، له جامعات وكليات تبحث فيه وتدرسه.
ولك أنْ تأخذ نعمة واحدة من نعَم الله عليك، ثم تتأمل فيها وفي عناصرها ومُكوّناتها وفوائدها وصفاتها، وسوف تجد في طيَّات النعمة الواحدة نعَمًا شتَّى، فالتفاحة مثلًا في ظاهرها نعمة واحدة، لكن في ألوانها ومذاقها وعناصر مكوناتها ورائحتها واختلاف وتنوُّع هذا كله نعَم كثيرة.
والحق سبحانه جعل نعَمه عامة للمؤمن وللكافر؛ لأنه سبحانه جعل لها أسبابًا، مَنْ أحسَنَ هذه الأسباب أعطتْه، حتى لو كان كافرًا.
ثم نلاحظ في قوله تعالى: {وَإن تَعُدُّوا نعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أنها وردتْ في القرآن مرتين، ولكل منهما تذييل مختلف، فمرَّة يقول تعالى: {وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإن تَعُدُّوا نعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، ومرة يقول: {وَإن تَعُدُّوا نعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحيمٌ} [النحل: 18].
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لو عامل المنعَم عليهم من الخَلْق بما يقتضيه إيمانهم، وما يقتضيه كفرهم، لأعطى المؤمن وسلَبَ الكافر، لكنه سبحانه غفور رحيم بخَلْقه، فبهاتين الصفتين يُنعم سبحانه على الجميع، وما ترفلون فيه من نعَم الله عليكم أثر من آثار الغفران والرحمة، فغفر لكم معايبكم أولًا، والغفر: أنْ تستر الشيء القبيح عَمَّن هو دونك.
ثم الرحمة، وهي أنْ تمتدَّ يدك بالإحسان إلى مَنْ دونك، وسبق أنْ أوضحنا أن المغفرةَ تسبق الرحمةَ، وهذه هي القاعدة العامة، لكن قد تسبق الرحمةُ المغفرةَ؛ ذلك لأن السَّلب للشيء المذموم ينبغي أن يسبق النعمة، أو: أنْ دَفْع الضرر مُقدَّم على جَلْب المنفعة.
وقد مثَّلْنا لذلك باللصّ تجده في دارك، فتستر عليه أولًا حين لا تسلمه للبوليس، ثم يرقّ له قلبك، فتمتد يدُك إليه بالإحسان، وهنا تسبق المغفرة الرحمةَ، وقد تتصرف معه بطريقة أخرى، بحيث تقدَّم فيها الرحمةَ على المغفرة، والمغفرة لا تكون إلا من الأعلى للأدنى، فتستر على القبيح قُبْحه، وأنت أعلى منه، فلا يقال مثلًا للخادم: إنه ستر على سيده.
ثم يرسل لنا الحق- سبحانه وتعالى- هذه البرقية الدالَّة على تأييده سبحانه لعبادة المؤمنين: {إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا} [الأحزاب: 9].
فالجنود تُؤذن بالحرب، وجاءت نكرة مُبْهمة، ثم جاءت نهاية هذه المعركة في هاتين الجملتين القصيرتين {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] ولم يذكر ما هية هؤلاء الجنود، إلا أنهم من عند الله، جاءوا لردّ هؤلاء الكفار وإبطال كيدهم.
ثم يأتي بمذكرة تفسيرية توضح مَنْ هم هؤلاء الجنود: {إذْ جَاءُوكُمْ مّن فَوْقكُمْ}.
هذا وَصف لما جرى في غزوة الأحزاب التي جمعتْ فُلول أعداء رسول الله، فقد سبق أنْ حاربهم مُتفرّقين، والآن يجتمعون لحربه صلى الله عليه وسلم، فجاءت قريش ومَنْ تبعها من غطفان وأسد وبني فزارة وغيرهم، وجاء اليهود من بني النضير وبني قريظة، وعجيب أنْ يجتمع كل هؤلاء لحرب الإسلام على ما كان بينهم من العداوة والخلاف.
وقلنا: إن أهل الكتاب كانوا يستفتحون برسول الله على كفار مكة، ثم جاءت الآيات لتجعل من أهل الكتاب شهداء على صدْق رسول الله، فقال تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كفى بالله شَهيدًا بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عندَهُ علْمُ الكتاب} [الرعد: 43].
ولو قدَّر أهل الكتاب هذه الشهادة التي قرنها الحق سبحانه بشهادته، لَكَان عليهم أنْ يؤمنوا بصدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمعنى {إذْ جَاءُوكُمْ} [الأحزاب: 10] أي: اذكر يا محمد وتخيَّل وتصوَّر إذ جاءكم الأحزاب، وتجمَّعوا لحربك {مّن فَوْقكُمْ} [الأحزاب: 10] أي: من ناحية الشرق، وهُمْ: غطفان، وبنو قريظة، وبنو النضير {وَمنْ أَسْفَلَ منكُمْ} [الأحزاب: 10] أي: من ناحية الغرب وهم قريش، ومَنْ تبعهم من الفزاريين والأسديين وغيرهم {وَإذْ زَاغَت الأبصار} [الأحزاب: 10] أي: اذكر إذ زاغت الأبصار، ومعنى زاغ البصر أي: مال، ومنه قوله تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النجم: 17].
ف {زاغت الأبصار} يعني: مالتْ عن سَمْتها وسنمها، وقد خلق الله العين على هيئة خاصة، بحيث تتحرك إلى أعلى، وإلى أسفل، وإلى اليمين، وإلى الشمال، ولكل اتجاه منها اسم في اللغة، فيقولون: رأى أي: بجُمْع عَيْنه، ولمح بمؤخَّر مُوقه، ورمق أي: من ناحية أنفه. إلخ.
فسَمْت العين وسَنمها أنْ تتحرك في هذه الاتجاهات، فإذا فزعتْ من شيء أخذ البصر، مال عن سَمْته من التحول، لذلك يقول تعالى: {فَإذَا هيَ شَاخصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُوا} [الأنبياء: 97].
وقال: {إنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ ليَوْمٍ تَشْخَصُ فيه الأبصار} [إبراهيم: 42] وشخوص البصر أنْ يرتفع الجَفْن الأعلى، وتثبت العين على شيء، لا تتحرَّك إلى غيره.
وفي موضع آخر قال تعالى عن المنافقين والمعوّقين: {أَشحَّةً عَلَيْكُمْ فَإذَا جَاءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْه منَ الموت فَإذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بأَلْسنَةٍ حدَادٍ} [الأحزاب: 19].
لأن الهول ساعة يستولي الأعين، فمرة تشخص العين على ما ترى لا تتعداه إلى غيره من شدة الهول، ومرة تدور هنا وهناك تبحث عن مفرٍّ أو مخرجٍ مما هي فيه، فهذه حالات يتعرَّض لها الخائف المفزَّع.
وقوله تعالى: {وَبَلَغَت القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10] معلوم أن الحنجرة أعلى القصبة الهوائية في هذا التجويف المعروف، فكيف تبلغ القلوبُ الحناجرَ؟ هذا أثر آخر من آثار الهول والفزع، فحين يفزع الإنسان يضطرب في ذاته، وتزداد دقَّات قلبه، وتنشط حركة التنفس، حتى ليُخيَّل للإنسان من شدة ضربات قلبه أن قلبه سينخلع من مكانه، ويقولون فعلًا في العامية: قلبي هينط مني.
وقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10].
أي: ظنونًا مختلفة تأخذهم وتستولي عليهم، فكلٌّ له ظنٌّ يخدم غرضه، فالمؤمنون يظنون أن الله لن يُسلمهم، ولن يتخلى عنهم، والكافرون يظنون أنهم سينتصرون وسيستأصلون المؤمنين، بحيث لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك.
ونلحظ في هذه الآية أن الحق سبحانه لا يكتفي بأنْ يحكي له ما حدث، إنما يجعله صلى الله عليه وسلم يستحضر الصورة نفسه، فيقول له: اذكُرْ إذ حدث كذا وكذا.
ثم يقول الحق سبحانه: {هُنَالكَ ابتلي المؤمنون}.
{هُنَالكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] أي: اختُبروا وامْتُحنوا، فقَويُّ الإيمان قال: لن يُسلمنا الله. والمنافق قال: هي نهاية الإسلام والمسلمين {وَزُلْزلُوا} [الأحزاب: 11] الزلزلة هي الهزة العنيفة التي ينشأ عن قوتها تَخْلخل الأشياء، لكن لا تقتلعها، والمراد أنهم تعرَّضوا لكرب شديد زلزل كيانهم، وميَّز مؤمنهم من منافقهم؛ لذلك يقول تعالى بعدها: {وَإذْ يَقُولُ المنافقون والذين}.
المنافقون هم أنفسهم الذين في قلوبهم مرض، فهما شيء واحد، وهذا العطف يُسمُّونه عطف البيان.
والغرور أنْ تخدع إنسانًا بشيء مُفْرح في ظاهره، محزن في باطنه، تقول: ما غرَّك بالشيء الفلاني كأن في ظاهره شيئًا يخدعك ويغرّك، فإذا ما جئتَ لتختبره لم تجده كذلك. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نعْمَةَ اللَّه عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا (9)}.
أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طرق عن حذيفة قال لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة، ولا أشد ريحًا منها، أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحد منا اصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون {إن بيوتنا عورة وما هي بعورة} فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، يتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا رجلًا حتى مر علي، وما علي جنة من العدو، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال: من هذا؟ قلت: حذيفة فتقاصرت إلى الأرض فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم فقال: قم. فقمت فقال: إنه كان في القوم خبر، فأتني بخبر القوم قال: وأنا من أشد الناس فزعًا، وأشدهم قرًا، فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته، قال: فو الله ما خلق الله فزعًا ولا قرًا في جوف إلا خرج من جوفي، فما أجد منه شيئًا، فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئًا حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، واذا برجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل. الرحيل. ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون: الرحيل. الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم، وإذا الرحيل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرًا فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم، ومن بينهم الريح يضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارسًا متعممين، فقالوا: اخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حز به أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون. فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود}.