فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَإذْ قَالَتْ طَائفَةٌ منْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْربَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجعُوا}.
هذه المقالة روي أن بني حارثة قالوها، و{يثرب} قطر محدود، المدينة في طرف منه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وحفص عن عاصم ومحمد اليماني والأعرج {لا مُقام لكم} بضم الميم، والمعنى لا موضع إقامة، وقرأ الباقون {لا مَقام} بفتح الميم بمعنى لا موضع قيام، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وأبي رجاء والحسن وقتادة والنخعي وعبد الله بن مسلم وطلحة، والمعنى في حومة القتال وموضع الممانعة، {فارجعوا} معناه إلى منازلكم وبيوتكم وكان هذا على جهة التخذيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفريق المستأذن روي أن أوس بن قيظي استأذن في ذلك عن اتفاق من عشيرته فقال: {إن بيوتنا عورة} أي منكشفة للعدو، وقيل أراد خالية للسراق، ويقال أعور المنزل إذا انكشف ومنه قول الشاعر:
له الشدة الأولى إذا القرن أعورا

قال ابن عباس الفريق بنو حارثة، وهم كانوا عاهدوا الله إثر أحد لا يولون الأدبار، وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء {عورة} بكسر الواو فيهما وهو اسم فاعل، قال أبو الفتح صحة الواو في هذه شاذة لأنها متحركة قبلها فتحة، وقرأ الجمهور {عوْرة} ساكنة الواو على أنه مصدر وصف به، والبيت المعور هو المنفرد المعرض لمن شاءه بسوء، فأخبر الله تعالى عن بيوتهم أنها ليست كما ذكروه وأن قصدهم الفرار، وأن ما أظهروه من أنهم يريدون حماية بيوتهم وخاصة نفوسهم ليس كذلك، وأنهم إنما يكرهون نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون حربه وأن يغلب {ولو دخلت} المدينة {من أقطارها} واشتد الخوف الحقيقي، {ثم سئلوا الفتنة} والحرب لمحمد وأصحابه لطاروا إليها وأتوها محبين فيها {ولم يتلبثوا} في بيوتهم لحفظها {إلا يسيرًا} قيل قدر ما يأخذون سلاحهم، وقرأ الحسن البصري ثم {سولوا الفتنة} بغير همز وهي من سال يسال كخاف يخاف لغة في سال العين فيها واو.
وحكى أبو زيد هما يتساولان، وروي عن الحسن {سيسلوا الفتنة} وقرأ مجاهد {سويلوا} بالمد، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر {لاتوها} بمعنى فجاؤوها، وقرأ عاصم وأبو عمرو {لآتوها} بمعنى لأعطوها من أنفسهم وهي قراءة حمزة والكسائي فكأنها رد على السؤال ومشبهة له، قال الشعبي: وقرأها النبي عليه السلام بالمد، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد {كانوا عاهدوا} على أن لا يفروا وروي عن يزيد بن رومان أن هذه الإشارة إلى بني حارثة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهم مع بني سلمة كانتا الطائفتين اللتين همتا بالفشل يوم أحد، ثم تابا وعاهدا على أن لا يقع منهم فرار فوقع يوم الخندق من بني حارثة هذا الاستئذان وفي قوله تعالى: {وكان عهد الله مسؤولًا} توعد، والأقطار: النواحي، أحدها قطر وقتر، والضمير في {بها} يحتمل المدينة ويحتمل {الفتنة}.
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ منَ الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَليلًا (16)}.
أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن يخاطبهم بتوبيخ، فأعلمهم بأن الفرار لا ينجيهم من القدر، وأعلمهم أنهم لا يمتعون في تلك الأوطان كثيرًا، بل تنقطع أعمارهم في يسير من المدة، والقليل الذي استثناه هي مدة الآجال قال الربيع بن خثيم، ثم وقفهم على عاصم ن الله يسندون إليه، ثم حكم بأنهم لا يجدون ذلك ولا ولي ولا نصير من الله عز وجل، وقرأت فرقة {يمتعون} بالياء، وقرأت فرقة {تمتعون} بالتاء على المخاطبة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإذ قالت طائفة منهم} يعني من المنافقين.
وفي القائلين لهذا منهم قولان:
أحدهما: عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، قاله السدي.
والثاني: بنو سالم من المنافقين، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {يا أهل يثرب} قال أبو عبيدة: يَثْرب: اسم أرض، ومدينةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في ناحية منها.
قوله تعالى: {لا مَقَامَ لكم} وقرأ حفص عن عاصم {لا مُقَامَ} بضم الميم.
قال الزجاج: من ضمَّ الميم، فالمعنى: لا إقامة لكم؛ ومن فتحها، فالمعنى: لا مكان لكم تُقيمون فيه.
وهؤلاء كانوا يثبّطون المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {فارجعوا} أي: إلى المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالمسلمين حتى عسكروا بسَلْع، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم، فقال المنافقون للناس: ليس لكم هاهنا مُقام، لكثرة العدوّ، وهذا قول الجمهور.
وحكى الماوردي قولَين آخرَين.
أحدهما: لا مُقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب، قاله الحسن.
والثاني: لا مُقام لكم على القتال، فارجعوا إلى طلب الأمان، قاله الكلبي.
قوله تعالى: {ويستأذنُ فريقٌ منهم النَّبيَّ} فيه قولان:
أحدهما: أنهم بنو حارثة، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: بنو حارثة ابن الحارث بن الخزرج.
وقال السدي: إنما استأذنه رجلان من بني حارثة.
والثاني: بنو حارثة، وبنو سلمة بن جشم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {إنَّ بيوتنا عَوْرة} قال ابن قتيبة: أي: خاليةٌ، فقد أمْكَن من أراد دخولَها، وأصل العَوْرة: ما ذهب عنه السّتر والحفظ، فكأنَّ الرجال سترٌ وحفظٌ للبيوت، فإذا ذهبوا أعْوَرت البيوتُ، تقول العرب: أَعْوَرَ منزلي: إذا ذهب ستْرُه، أو سقط جداره، وأعْوَرَ الفارسُ: إذا بان منه موضع خلل للضرب والطعن، يقول الله: {وما هي بعَوْرة} لأنَّ الله يحفظها، ولكن يريدون الفرار.
وقال الحسن، ومجاهد: قالوا: بيوتنا ضائعة نخشى عليها السُّرَّاق.
وقال قتادة: قالوا: بيوتنا ممَّا يلي العدوّ، ولا نأمنَ على أهلنا، فكذَّبهم الله وأعلَم أنَّ قصدهم الفرار.
قوله تعالى: {ولو دُخلَتْ عليهم من أقطارها} يعني المدينة؛ والأقطار: النواحي والجوانب، واحدها: قُطْر، {ثم سُئلوا الفتنة} وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، والضحاك، والزهري، وأبو عمران، وأبو جعفر، وشيبة: {ثم سُيلوا} برفع السين وكسر الياء من غير همز.
وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومجاهد، وأبو الجوزاء: {ثم سوءلوا} برفع السين ومدّ الواو بهمزة مكسورة بعدها.
وقرأ الحسن، وأبو الأشهب: {ثم سُوْلوا} برفع السين وسكون الواو من غير مدٍّ ولا همز.
وقرأ الأعمش، وعاصم الجحدري: {ثم سيْلوا} بكسر السين ساكنة الياء من غير همز ولا واو.
ومعنى: {سُئلوا الفتنة} أي: سُئلوا فعلها؛ والفتنة: الشّرك، {لآتَوْها} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: {لأَتَوَهْا} بالقصر، أي: لقصدوها، ولفعلوها.
وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {لآتَوْها} بالمد، أي لأعطَوها.
قال ابن عباس في معنى الآية: لو أن الأحزاب دخلوا المدينة ثم أمروهم بالشّرك لأشركوا.
قوله تعالى: {وما تَلَبَّثوا بها إلاَّ يسيرًا} فيه قولان:
أحدهما: وما احتَبَسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلًا، قاله قتادة.
والثاني: وما تلبَّثوا بالمدينة بعد الإجابة إلاَّ يسيرًا حتى يعذَّبوا، قاله السدي، وحكى أبو سليمان الدمشقي في الآية قولًا عجيبًا، وهو أن الفتنة هاهنا: الحرب، والمعنى: ولو دُخلت المدينةُ على أهلها من أقطارها، ثم سُئل هؤلاء المنافقون الحرب لأتوها مبادرين، وما تلبْثوا يعني الجيوش الداخلة عليهم بها- إلاَّ قليلًا حتى يُخرجوهم منها؛ وإنَّما منعهم من القتال معك ما قد تداخلهم من الشكّ في دينك؛ قال: وهذا المعنى حَفظتُه من كتاب الواقدي.
قوله تعالى: {ولقد كانوا عاهَدوا اللّهَ منْ قَبْلُ} في وقت معاهدتهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم ناس غابوا عن وقعة بدر، فلمَّا علموا ما اعطى اللّهُ أهل بدر من الكرامة قالوا: لئن شهدنا قتالًا لنقاتلَنّ، قاله قتادة.
والثاني: أنهم أهل العقبة، وهم سبعون رجلًا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طاعة الله ونُصرة رسوله، قاله مقاتل.
والثالث: أنه لمَّا نزل بالمسلمين يوم أُحد ما نزل، عاهد اللّهَ معتّب بن قُشَير وثعلبة بن حاطب: لا نولّي دُبُرًا قطُّ، فلمَّا كان يوم الأحزاب نافقا، قاله الواقدي، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وهو اليَق ممَّا قبله.
وإذا كان الكلام في حق المنافقين، فكيف يُطْلَق القول على أهل العَقَبة كلّهم!.
قوله تعالى: {وكان عهد الله مسؤولًا} أي: يُسأَلون عنه في الآخرة.
ثم أخبر أن الفرار لا يزيد في آجالهم، فقال: {قُلْ لن ينفعَكم الفرار إن فَرَتم من الموت أو القتل وإذًا لا تُمتَّعون} بعد الفرار في الدنيا {إلاَّ قليلًا} وهو باقي آجالكم.
ثم أخبر أن ما قدَّره عليهم لا يُدفَع، بقوله: {من ذا الذي يَعْصمُكم منَ الله} أي: يُجيركم ويمنعكم منه {إن أراد بكم سُوءًا} وهو الإهلاك والهزيمة والبلاء {أو أراد بكم رَحْمة} وهي النصر والعافية والسلامة {ولا يجدون لهم من دُون الله وليًّا ولا نصيرًا} أي: لا يجدون مُواليًا ولا ناصرًا يمنعهم من مُراد الله فيهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإذْ قَالَت طَّآئفَةٌ مّنْهُمْ يا أهل يَثْربَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا}.
الطائفة تقع على الواحد فما فوقه.
وعُني به هنا أوْس بن قَيْظيّ والد عَرَابة بن أوس؛ الذي يقول فيه الشماخ:
إذا ما رايةٌ رُفعت لمَجْد ** تلقّاها عَرابةُ باليمين

و{يَثْرب} هي المدينة؛ وسَمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم طَيْبة وطابة.
وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، والمدينة ناحية منها.
السُّهَيْليّ: وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب ابن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم.
وفي بعض هذه الأسماء اختلاف.
وبنو عميل هم الذين سكنوا الجُحْفَة فأجحفت بهم السيول فيها.
وبها سميت الجحفة.
{لاَ مُقَامَ لَكُمْ} بفتح الميم قراءة العامّة.
وقرأ حفص والسُّلمي والجحدريّ وأبو حَيْوَة: بضم الميم؛ يكون مصدرًا من أقام يقيم، أي لا إقامة، أو موضعًا يقيمون فيه.
ومن فتح فهو اسم مكان؛ أي لا موضع لكم تقيمون فيه.
{فارجعوا} أي إلى منازلكم.
أمروهم بالهروب من عسكر النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: قالت اليهود لعبد الله بن أُبَيّ بن سلول وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون.
قوله تعالى: {وَيَسْتَأْذنُ فَريقٌ مّنْهُمُ النبي} في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة بن الحارث، في قول ابن عباس.
وقال يزيد بن رُومان: قال ذلك أوس بن قَيظيّ عن ملإ من قومه.
{يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي سائبة ضائعة ليست بحصينة، وهي مما يلي العدوّ وقيل: مُمْكنة للسّراق لخلوها من الرجال.
يقال: دارٌ مُعْورة وذات عَوْرة إذا كان يسهل دخولها.
يقال: عَور المكان عَوَرًا فهو عَور.
وبيت عَورة.
وأعْور فهو مُعور.
وقيل: عَورة ذات عَوْرة.
وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عَوْرة؛ قاله الهرَويّ.
وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العُطارديّ: {عَورة} بكسر الواو؛ يعني قصيرة الجدران فيها خلل.
تقول العرب: دار فلانٍ عَورة إذا لم تكن حصينة.
وقد أعور الفارس إذا بَدَا فيه خَلَل للضرب والطعن؛ قال الشاعر:
متى تَلْقَهم لم تَلْقَ في البيت مُعْورًا ** ولا الضيفَ مفجوعًا ولا الجارَ مُرْملاَ

الجوهريّ: والعَوْرة كل خلل يُتَخَوَّف منه في ثَغر أو حرب.
النحاس: يقال أعور المكان إذا تُبُيّنت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تُبُيّن فيه موضع الخلل.
المهدويّ: ومن كسر الواو في {عورة} فهو شاذ؛ ومثله قولهم: رجل عور؛ أي لا شيء له، وكان القياس أن يُعَلَّ فيقال: عارٍ، كيوم راحٍ، ورجلٍ مالٍ؛ أصلهما روح ومول.
ثم قال تعالى: {وَمَا هيَ بعَوْرَةٍ} تكذيبًا لهم وردًا عليهم فيما ذكروه.
{إن يُريدُونَ إلاَّ فرَارًا} أي ما يريدون إلا الهرب.