فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قيل: من القتل.
وقيل: من الدّين.
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار: بني حارثة وبني سَلمة؛ وهَموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق، وفيهم أنزل الله تعالى: {إذْ هَمَّتْ طَّآئفَتَان منكُمْ أَن تَفْشَلاَ} [آل عمران: 122] الآية.
فلما نزلت هذه الآية قالوا: واللَّه ما ساءنا ما كنا هممنا به؛ إذ اللَّهُ وليُّنَا.
وقال السدي: الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما: أبو عَرابة بن أوس، والآخر أوْس بن قيْظيّ.
قال الضحاك: ورجع ثمانون رجلًا بغير إذنه.
قوله تعالى: {وَلَوْ دُخلَتْ عَلَيْهمْ مّنْ أَقْطَارهَا}.
وهي البيوت أو المدينة؛ أي من نواحيها وجوانبها، الواحد قُطْر، وهو الجانب والناحية.
وكذلك القُتْر لغة في القطر.
{ثُمَّ سُئلُوا الفتنة لآتَوْهَا} أي لجاؤوها؛ هذا على قراءة نافع وابن كثير بالقصر.
وقرأ الباقون بالمدّ؛ أي لأعطوها من أنفسهم، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
وقد جاء في الحديث: أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يعذَّبون في الله ويُسألون الشرك، فكلٌّ أعطى ما سألوه إلا بلالًا.
وفيه دليل على قراءة المدّ، من الإعطاء.
ويدل على قراءة القصر قوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا الله من قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار}؛ فهذا يدل على {لأَتَوْهَا} مقصورًا.
وفي {الفتنة} هنا وجهان: أحدهما سُئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه؛ قاله الضحاك.
الثاني: ثم سئلوا الشرك لأجابوا إليه مسرعين؛ قاله الحسن.
{وَمَا تَلَبَّثُوا بهَآ} أي بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلًا حتى يهلكوا؛ قاله السّدّي والقُتَيبيّ والحسن والفراء.
وقال أكثر المفسرين: أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلًا ولأجابوا بالشرك مسرعين؛ وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم؛ فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا الكفر.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا الله من قَبْلُ} أي من قبل غزوة الخندق وبعد بدر.
قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا لئن أشهدنا الله قتالًا لنقاتلنّ.
وقال يزيد بن رُومان: هم بنو حارثة، هَمُّوا يوم أُحُد أن يفشلوا مع بني سَلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم.
{وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا} أي مسؤولًا عنه.
قال مقاتل والكَلْبي: هم سبعون رجلًا بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك ولربّك ما شئت فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأموالكم وأولادكم» فقالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك يا نبيّ الله؟ قال: «لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة» فذلك قوله تعالى: {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا} أي أن الله ليسألهم عنه يوم القيامة.
قوله تعالى: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَو القتل} أي مَن حضر أجلُه مات أو قُتل؛ فلا ينفع الفرار.
{وَإذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلاَّ قَليلًا} أي في الدنيا بعد الفرار إلى أن تنقضي آجالكم؛ وكل ما هو آتٍ فقريب.
وروى السّاجي عن يعقوب الحضرميّ {وَإذًا لاَ يُمَتَّعُونَ} بياء.
وفي بعض الروايات {وإذا لا تمتعوا} نصب ب إذًا والرفع بمعنى ولا تمتعون.
وإذًا ملغاة، ويجوز إعمالها.
فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو والفاء فإذا كانت مبتدأة نَصَبْت بها فقلت: إذًا أكرمَك.
قوله تعالى: {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصمُكُمْ مّنَ الله} أي يمنعكم منه.
{إنْ أَرَادَ بكُمْ سواءا} أي هلاكًا.
{أَوْ أَرَادَ بكُمْ رَحْمَةً} أي خيرًا ونصرًا وعافية.
{وَلاَ يَجدُونَ لَهُمْ مّن دُون الله وَليًّا وَلاَ نَصيرًا} أي لا قريبًا ينفعهم ولا ناصرًا ينصرهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإذْ قَالَت طَّائفَةٌ مّنْهُمْ} هم أوسُ بنُ قَيظى وأتباعُه وقيل عبدُ اللَّه بنُ أُبيّ وأشياعُه {يا أهل يَثْربَ} هو اسمُ المدينة المُطهَّرة وقيل: اسمُ بقعةٍ وقعت المدينةُ في ناحيةٍ منها وقد نهى النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ تُسمَّى بها كراهةً لها وقال: «هي طَيبةُ» أو «طَابةُ» كأنَّهم ذكروها بذلك الاسم مخالفةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ونداؤُهم إيَّاهم بعنوان أهليَّتهم لها ترشيحٌ لما بعدَه من الأمر بالرُّجوع إليها {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} لا موضعَ إقامةٍ لكُم أو لا إقامةَ لكُم هاهنا يُريدون المعسكرَ. وقُرئ بفتح الميم أي لا قيامَ أو لا موضعَ قيامٍ لكم {فارجعوا} أي إلى منازلكم بالمدينة مرادُهم الأمرُ بالفرار لكنَّهم عبَّروا عنه بالرُّجوع ترويجًا لمقالهم وإيذانًا بأنَّه ليس من قبيل الفرار المذموم وقيل: المَعنى لا قيامَ لكم في دين محمد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فارجعُوا إلى ما كنتُم عليه من الشّرك أو فارجعُوا عمَّا بايعتُموه عليه وأسلمُوه إلى أعدائه أو لا مقامَ لكُم في يثربَ فارجعُوا كفَّارًا ليتسنَّى لكُم المقامُ بها والأولُ هو الأنسبُ لما بعدَه فإنَّ قولَه تعالى: {وَيَسْتَأْذنُ فَريقٌ مّنْهُمُ النبى} معطوفٌ على قالتْ. وصيغةُ المضارع لما مرَّ من استحضار الصُّورة وهم بنُو حارثةَ وبنُو سلمةَ استأذنُوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الرُّجوع ممتثلينَ بأمرهم. وقولُه تعالى: {يَقُولُونَ} بدلٌ من يستأذنُ أو حالٌ من فاعله أو استئنافٌ مبنيُّ على السُّؤال عن كيفيَّة الاستئذان {إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي غيرُ حصينةٍ معرّضةٌ للعدوّ والسُّرَّاق فأذنْ لنا حتَّى نُحصنها ثم نرجع إلى العسكر. والعورةُ في الأصل الخللُ أُطلقت على المُختلّ مبالغةً وقد جُوّز أنْ تكونَ تخفيفَ عوّرةٍ من عوَّرت الدَّارُ إذا اختلَّتْ وقد قُرىء بَها والأولُ هو الأنسبُ بمقام الاعتذار كما يُفصح عنه تصديرُ مقالهم بحرف التَّحقيق {وَمَا هي بعَوْرَةٍ} والحالُ أنَّها ليستْ كذلكَ {إن يُريدُونَ} ما يُريدون بالاستئذان {إلاَّ فرَارًا} من القتال.
{وَلَوْ دُخلَتْ عَلَيْهمْ} أُسند الدُّخولُ إلى بيوتهم وأُوقع عليهم لما أنَّ المرادَ فرضُ دخولها مطلقًا كما هو المفهومُ لو لم يذكر الجارُّ والمجرورُ ولا فرضُ الدُّخول عليهم مطلقًا كما هو المفهومُ لو أُسند إلى الجارُّ والمجرورُ {مّنْ أَقْطَارهَا} أي من جميع جوانبها لا من بعضها دُون بعضٍ فالمعنى لو كانتْ بيوتُهم مختَّلةً بالكُلّية ودخلَها كلُّ مَن أرادَ من أهل الدَّعارة والفساد {ثُمَّ سُئلُوا} من جهة طائفةٍ أُخرى عند تلكَ النازلة والرَّجفة الهائلة {الفتنة} أي الردَّةَ والرَّجعةَ إلى الكفر مكانَ ما سُئلوا الآنَ من الإيمان والطَّاعة {لأَتَوْهَا} لأعطَوها غيرَ مُبالين بما دَهَاهم من الدَّاهية الدَّهياء والغارة الشَّعواء. وقُرئ لأتَوَها بالقصر أي لفعلُوها وجَاؤها {وَمَا تَلَبَّثُوا بهَا} بالفتنة أي ما ألبثُوها وما أخرُّوها {إلاَّ يَسيرًا} ريثما يسعُ السُّؤالُ والجوابُ من الزَّمان فضلًا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها كما فعلُوا الآنَ وقيل: ما لبثُوا بالمدينة بعد الارتداد إلا يسيرًا والأولُ هو اللائقُ بالمقام. هذا وأما تخصيصُ فرض الدُّخول بتلك العساكر المتحزبة فمع منافاته للعموم المستفاد من تجريد الدُّخول عن الفاعل ففيه ضربٌ من فساد الوضع لما عَرَفت من أنَّ مساقَ النَّظم الكريم لبيان أنَّهم إذا دُعوا إلى الحقّ تعللُوا بشيءٍ يسيرٍ وإنْ دُعوا إلى الباطل سارعُوا إليه آثرَ ذي أثيرٍ من غير صارفٍ يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم ففرضُ الدُّخول عليهم من جهة العساكر المذكورة وإسناد سؤال الفتنة والدَّعوة إلى الكفر إلى طائفةٍ أُخرى من مَعَ أنَّ العساكرَ هم المعرُوفون بعداوةٍ الدّين المُباشرون لقتال المؤمنين المُصرُّون على الإعراض عن الحقّ المُجدُّون في الدُّعاء إلى الكُفر والضَّلال بمعزلٍ من التَّقريبَ.
{وَلَقَدْ كَانُوا عاهدوا الله من قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} فإنَّ بني حارثةَ عاهدُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ حينَ فشلُوا أنْ لا يعودُوا لمثله وقيل: هم قُومٌ غابُوا عن وقعة بدرٍ ورَأَوا ما أَعطى الله أهَل بدرٍ من الكرامة والفضيلة فقالُوا لئن أشهدَنا الله قتالًا لنقاتلنَّ {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولًا} مطلوبًا مقتضى حتَّى يوفَّى به وقيل: مسؤولًا عن الوفاء به ومجازي عليه {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَو القتل} فإنَّه لابد لكلّ شخصٍ من حتف أنفٍ أو قيل سيفٍ في وقتٍ معيَّنٍ سبقَ به القضاءُ وجرى عليه القلمُ {وَإذّن لاَّ تُمَتَّعُونَ إلاَّ قَليلًا} أي وإنْ نفعكم الفرارُ مثلًا فمُتعتم بالتَّأخير لم يكُن ذلك التَّمتيعُ إلاَّ تمتيعًا قليلًا أو زمانًا قليلًا {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصمُكُمْ مّنَ الله إنْ أَرَادَ بكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بكُمْ رَحْمَةً} أي أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكُم رحمةً فاختُصر الكلامُ أو حُمل الثَّاني على الأول لما في العصمة من مَعنى المنع {وَلاَ يَجدُونَ لَهُمْ مّن دُون الله وَليًّا} ينفعُهم {وَلاَ نَصيرًا} يدفعُ عنهم الضَّررَ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإذْ قَالَت طَّائفَةٌ مّنْهُمْ}.
قال السدي: هم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه، وقال مقاتل: هم بنو سلمة، وقال أوس بن رومان: هم أوس بن قيظي وأصحابه بنو حارثة وضمير {منْهُمْ} للمنافقين أو للجميع {مّنْهُمْ يا أهل يَثْربَ} هو اسم المدينة المنورة، وقال أبو عبيدة اسم بقعة وقعت المدينة في ناحية منها، وقيل: اسم أرضها وهو عليها ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل أو التأنيث ولا ينبغي تسمية المدينة بذلك أخرج أحمد وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى هي طابة هي طابة هي طابة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لا تدعونها يثرب فإنها طيبة يعني المدينة ومن قال يثرب فليستغفر الله تعالى ثلاث مرات هي طيبة هي طيبة هي طيبة، وفي الحواشي الخفاجية أن تسميتها به مكروها كراهة تنزيهه، وذكر في وجه ذلك أن هذا الاسم يشعر بالتثريب وهو اللوم والتعيير.
وقال الراغب: التثريب التقريع بالذنب والثرب شحمة رقيقة، ويثرب يصح أن يكون أصله من هذا الباب والياء تكون فيه زائدة انتهى، وقيل: يثرب اسم رجل من العمالقة وبه سميت المدينة وكان يقال لها أثرب أيضًا، ونقل الطبرسي عن الشريف المرتضى أن للمدينة أسماء منها يثرب وطيبة وطابة والدار والسكينة وجائزة والمحبورة والمحبة والمحبوبة والعذاء والمرحومة والقاصمة ويندد انتهى، وكأن القائلين اختاروا يثرب من بين الأسماء مخالفة له صلى الله عليه وسلم لما علموا من كراهيته عليه الصلاة والسلام لهذا الاسم من بينها، ونداؤهم أهل المدينة بعنوان أهليتهم لها ترشيح لما بعد من الأمر بالرجوع إليها {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} أي لا مكان إقامة أو لا إقامة لكم أي لا ينبغي أو لا يمكن لكم الإقامة ههنا.
وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو رجاء والحسن وقتادة والنخعي وعبد الله بن مسلم وطلحة وأكثر السبعة {لاَ مُقَامَ} بفتح الميم وهو يحتمل أيضًا المكان أي لا مكان قيام والمصدر أي لا قيام لكم، والمعنى على نحو ما تقدم {فارجعوا} أي إلى منازلكم بالمدينة ليكون ذلك أسلم لكم من القتل أو ليكون لكم عند هذه الأحزاب يد، قيل: ومرادهم أمرهم بالفرار على ما يشعر به ما بعد لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجًا لمقالتهم وأيذانًا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم، وقيل: المعنى لا مقام لكم في دين محمد صلى الله عليه وسلم فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك أو فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه إلى أعدائه عليه الصلاة والسلام، أو لا مقام لكم بعد اليوم في يثرب أو نواحيها لغلبة الأعداء فارجعوا كفارًا ليتسنى لكم المقام فيها لارتفاع العداوة حينئذٍ.
وقيل: يجوز أن يكونوا خافوا من قتل النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بعد غلبته عليه الصلاة والسلام حيث ظهر أنهم منافقون فقالوا: {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} على معنى لا مقام لكم مع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إن غلب قتلكم فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه عليه الصلاة والسلام أن فارجعوا عن الإسلام واتفقوا مع الأحزاب أو ليس لكم محل إقامة في الدنيا أصلًا إن بقيتم على ما أنتم عليه فارجعوا عما بايعتموه عليه عليه الصلاة والسلام إلى آخره، والأول أظهر وأنسب بما بعده، وبعض هذه الأوجه بعيد جدًا كما لا يخفى.
{وَيَسْتَأْذنُ فَريقٌ مّنْهُمُ النبى} عطف على {قَالَتْ} وصيغة المضارع لما مر من استحضار الصورة، والمستأذن على ما روي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله بنو حارثة بن الحرث، قيل: أرسلوا أوس بن قيظى أحدهم للاستئذان، وقال السدي: جاء هو ورجل آخر منهم يدعى أبا عرابة بن أوس، وقيل: المستأذن بنو حارثة وبنو سلمة استأذنوه عليه الصلاة والسلام في الرجوع ممتثلين بأمر أولئك القائلين يا أهل يثرب.
وقوله تعالى: {يَقُولُونَ} بدل من {يستأذن} أو حال من فاعله أو استئناف مبني على السؤال عن كيفية الاستئذان {يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي ذليلة الحيطان يخاف عليها السراق كما نقل عن السدي، وقال الراغب: أي متخرقة ممكنة لمن أرادها، وقال الكلبي: أي خالية من الرجال ضائعة، وقال قتادة: قاصية يخشى عليها العدو؛ وأصلها على ما قيل مصدر بمعنى الخلل ووصف بها مبالغة وتكون صفة للمؤنث والمذكر والمفرد وغيره كما هو شأن المصدر، وجوز أن تكون صفة مشبهة على أنها مخفف عورة بكسر الواو كما قرأ بذلك هنا وفيما بعد ابن عباس وأبو يعمر وقتادة وأبو رجاء وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو طالوت وابن مقسم وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير من عورت الدار إذا اختلت، قال ابن جني: صحة الواو على هذا شاذة والقياس قلبها ألفًا فيقال عارة كما يقال كبش صاف ونعجة صافة ويوم راح ورجل مال والأصل صوف وصوفة وروح ومول.
وتعقب بأن القياس إنما يقتضي القلب إذا وقع القلب في الفعل وعور هنا قد صحت عينه حملًا على أعور المشدد، ورجح كونها مصدرًا وصف به للمبالغة بأنه الأنسب بمقام الاعتذار كما يفصح عنه تصدير مقالتهم بحرف التحقيق، لكن ينبغي أن يقال في قوله تعالى: {وَمَا هي بعَوْرَةٍ} إذا أجرى فيه هذا اللفظ كما أجرى فيما قبله أن المراد المبالغة في النفي على نحو ما قيل قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبيد} [فصلت: 6 4] والواو فيه للحال أي يقولون ذلك والحال أنها ليست كذلك {إن يُريدُونَ} أي ما يريدون بالاستئذان {إلاَّ فرَارًا} أي هربًا من القتال ونصرة المؤمنين قاله جماعة، وقيل: فرارًا من الدين.
{وَلَوْ دُخلَتْ} أي البيوت كما هو الظاهر {عَلَيْهمْ} أي على هؤلاء القائلين، وأسند الدخول إلى بيوتهم وأوقع عليهم لما أن المراد فرض دخولها وهم فيها لا فرض دخولها مطلقًا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور ولا فرض الدخول عليهم مطلقًا كما هو المفهوم لو أسند إلى الجار والمجرور وفاعل الدخول الداخل من أهل الفساد من كان أي لو دخل كل من أراد الدخول من أهل الدعاءة والفساد بيوتهم وهم فيها {مّنْ أَقْطَارهَا} جمع قطر بمعنى الناحية والجانب ويقال قتر بالتاء لغة فيه أي من جميع جوانبها وذلك بأن تكون مختلة بالكلية وهذا داخل في المفروض فلا يخالف قوله تعالى: {وَمَا هي بعَوْرَةٍ} [الأحزاب: 13] {ثُمَّ سُئلُوا} أي طلب منهم من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة والرجفة الهائلة {الْفتنْنَةَ} أي القتال كما قال الضحاك {الفتنة لاَتَوْهَا} أي لأعطوها أولئك السائلين كأنه شبه الفتنة المطلوب اتباعهم فيها بأمر نفيس يطلب منهم بذله ونزل إطاعتهم واتباعهم بمنزلة بذلك ما سئلوه وإعطائه.