فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتلبُّث: اللبث، أي: الاستقرار في المكان وهو هنا مستعار للإبطاء، أي ما أبطأوا بالسعي في الفتنة ولا خافوا أن تؤخذ بيوتهم.
والمعنى: لو دَخلت جيوش الأحزاب المدينة وبقي جيش المسلمين خارجها أي مثلًا لأن الكلام على الفرض والتقدير وسأل الجيشُ الداخلُ الفريقَ المستأذنين أن يُلقوا الفتنة في المسلمين بالتفريق والتخذيل لخرجوا لذلك القصد مُسرعين ولم يثبطهم الخوف على بيوتهم أن يدخلها اللصوص أو ينهبها الجيش: إما لأنهم آمنون من أن يلقَوا سوءًا من الجيش الداخل لأنهم أولياء له ومعاونون، فهم منهم وإليهم، وإما لأن كراهتهم الإسلام تجعلهم لا يكترثون بنهب بيوتهم.
والاستثناء في قوله: {إلا يسيرًا} يظهر أنه تهكم بهم فيكون المقصود تأكيد النفي بصورة الاستثناء.
ويحتمل أنه على ظاهره، أي إلا ريثما يتأملون فلا يطيلون التأمل فيكون المقصود من ذكره تأكيد قلة التلبّث، فهذا هو التفسير المنسجم مع نظم القرآن أحسن انسجام.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر {لأتوها} بهمزة تليها مثناة فوقية، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {لآتوها} بألف بعد الهمزة على معنى: لأعطوها، أي: لأعطوا الفتنة سائليها، فإطلاق فعل {أتوها} مشاكلة لفعل {سُئلوا}.
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ منْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّه مَسْئُولًا (15)}.
هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سَلمة وهم الذين قال فريق منهم {إن بيوتنا عورة} [الأحزاب: 13] واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أي كانوا يوم أُحُد جبُنوا ثم تابوا وعاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يُولُّون الأدبار في غزوة بعدها، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {إذ همَّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} [آل عمران: 122]؛ فطَرأ على نفر من بني حارثة نفاق وضعف في الإيمان فذكَّرهم الله بذلك وأراهم أن منهم فريقًا قُلَّبًا لا يرعى عهدًا ولا يستقر لهم اعتقاد وأن ذلك لضعف يقينهم وغلبة الجبن عليهم حتى يدعوهم إلى نبذ عهد الله.
وهذا تنبيه للقبيلين ليزجروا مَنْ نكث منهم.
وتأكيد هذا الخبر بلام القسم وحرف التحقيق وفعل كان، مع أن الكلام موجه إلى المؤمنين تنزيلًا للسامعين منزلة من يتردد في أنهم عاهدوا الله على الثبات.
وزيادة {من قبل} للإشارة إلى أن ذلك العهد قديم مستقر وهو عهد يوم أحد.
وجملة {لا يولون الأدبار} بيان لجملة {عاهدوا}.
والتولية: التوجه بالشيء وهي مشتقة من الوَلْي وهو القرب، قال تعالى: {فوَلّ وجهَك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144].
و{الأدبار} الظهور.
وتولية الأدبار: كناية عن الفرار فإن الذي استأذنوا لأجله في غزوة الخندق أرادوا منه الفرار ألا ترى قوله: {إن يريدون إلا فرارًا} [الأحزاب: 13]، والفرار مما عاهدوا الله على تركه.
وجملة {وكان عهد الله مسؤولا} تذييل لجملة {ولقد كانوا عاهدوا}. إلخ.
والمراد بعهد الله: كل عهد يوثقه الإنسان مع ربه.
والمسؤول: كناية عن المحاسب عليه كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وكلكم مسؤول عن رعيته» وكما تقدم آنفًا عند قوله تعالى: {ليسأل الصادقين عن صدقهم} [الأحزاب: 8] وهذا تهديد.
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ منَ الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَليلًا (16)}.
جواب عن قولهم: {إن بيوتنا عورة} [الأحزاب: 13] ولذلك فصّلت لأنها جرت على أسلوب التقاول والتجاوب، وما بين الجملتين من قوله: {ولو دُخلت عليهم إلى قوله مسؤولًا} [الأحزاب: 14 15] اعتراض كما تقدم.
وهذا يرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم بالرجوع إلى المدينة وأنه ردّ عليهم بما أمره الله أن يقوله لهم، أي: قد علم الله أنكم ما أردتم إلا الفرار جبنًا والفرار لا يدفع عنكم الموت أو القتل، فمعنى نفي نفعه: نفيُ ما يقصد منه لأن نفع الشيء هو أن يحصل منه ما يقصد له.
فقوله: {من الموت} يتعلق ب {الفرار وفررتم} وليس متعلقًا ب {ينفعكم} لأن متعلق {ينفعكم} غير مذكور لظهوره من السياق، فالفائدة مستغنية عن المتعلق، أي: لن ينفعكم بالنجاة.
ومعنى نفي نفع الفرار وإن كان فيه تعاطي سبب النجاة، هذا السبب غير مأذون فيه لوجوب الثبات في وجه العدوّ مع النبي صلى الله عليه وسلم فيتمحض في هذا الفرار مراعاةُ جانب الحقيقة وهو ما قُدر للإنسان من الله إذ لا معارض له، فلو كان الفرار مأذونًا فيه لجاز مراعاة ما فيه من أسباب النجاة؛ فقد كان المسلمون مأمورين بثبات الواحد للعشرة من العدوّ فكان حينئذ الفرار من وجه عشرة أضعافف المسلمين غير مأذون فيه وأذن فيما زاد على ذلك، ولما نسخ الله ذلك بأن يثبت المسلمون لضعف عددهم من العدوّ فالفرار فيما زاد على ذلك مأذون فيه، وكذلك إذا كان المسلمون زحفًا فإن الفرار حرام ساعتئذ.
وأحسب أن الأمر في غزوة الخندق كان قبل النسخ فلذلك وبّخ الله الذين أضمروا الفرار فإن عدد جيش الأحزاب يومئذ كان بمقدار أربعة أمثال جيش المسلمين ولم يكن المسلمون يومئذ زحفًا فإن الحالة حالة حصار.
ويجوز أن يكون المعنى أيضًا: أنكم إن فررتم فنجوتم من القتل لا ينفعكم الفرار من الموت بالأجل وعسى أن تكون آجالكم قريبة.
والموت أريد به: الموت الزُؤام وهو الموت حتف أنفه لأنه قوبل بالقتل.
والمعنى: أن الفرار لا يدفع الموت الذي علم الله أنه يقع بالفار في الوقت الذي علم أن الفار يموت فيه ويقتل فإذا خُيّل إلى الفارّ أن الفرار قد دفع عنه خطرًا فإنما ذلك في الأحوال التي علم الله أنها لا يصيب الفارَّ فيها أذى ولابد له من موت حتف أنفه أو قتل في الإبان الذي علم الله أنه يموت فيه أو يُقتل.
ولهذا عقب بجملة: {وإذًا لا تمتعون إلا قليلًا} جوابًا عن كلام مقدر دل عليه المذكور، أي إن خيل إليكم أن الفرار نفع الذي فرّ في وقت ما فما هو إلاّ نفع زهيد لأنه تأخير في أجل الحياة وهو متاع قليل، أي: إعطاء الحياة مدة منتهية، فإن {إذن} قد تكون جوابًا لمحذوف دل عليه الكلام المذكور، كقول العنبري:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبان

إذنْ لقام بنصري معشر خشن ** عند الحفيظة إنْ ذو لَوْثَة لاَنا

فإن قوله: إذن لقام بنصري، جواب وجزاء عن مقدر دل عليه: لم تستبح إبلي.
والتقدير: فإن استباحوا إبلي إذَنْ لقام بنصري معشر، وهو الذي أشعر كلام المرزوقي باختياره خلافًا لما في مغني اللبيب.
والأكثر أن {إذن} إن وقعت بعد الواو والفاء العاطفتين أن لا ينصب المضارع بعدها، وورد نصبه نادرًا.
والمقصود من الآية تخليق المسلمين بخُلق استضعاف الحياة الدنيا وصرف هممهم إلى السعي نحو الكمال الذي به السعادة الأبدية سيرًا وراء تعاليم الدين التي تقود النفوس إلى أوج الملَكية.
{قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصمُكُمْ مّنَ الله إنْ أَرَادَ بكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بكُمْ رحمةً}.
يظهر أن هذه الجملة واقعة موقع التعليل لجملة {لن ينفعكم الفرار إن فررتم} الآية [الأحزاب: 16]، فكأنه قيل: فمن ذا الذي يعصمكم من الله، أي: فلا عاصم لكم من نفوذ مراده فيكم.
وإعادة فعل {قل} تكرير لأجل الاهتمام بمضمون الجملة.
والمعنى: لأن قدرة الله وإرادته محيطة بالمخلوقات فمتى شاء عطّل تأثير الأسباب أو عرقلها بالموانع فإن يشأ شرًّا حرم الانتفاع بالأسباب أو الاتقاء بالموانع فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، ومتى شاء خيرًا خاصًا بأحد لطف له بتمهيد الأسباب وتيسيرها حتى يلاقي من التيسير ما لم يكن مترقبًا، ومتى لم تتعلق مشيئته بخصوص أرْسَل الأحوال في مهيعها وخلّى بين الناس وبين ما سَببه في أحوال الكائنات فنال كل أحد نصيبًا على حسب فطْنته ومقدرته واهتدائه، فإن الله أودع في النفوس مراتب التفكير والتقدير؛ فأنتم إذا عصيتم الله ورسوله وخذلتم المؤمنين تتعرضون لإرادته بكم السوء فلا عاصم لكم من مراده، فالاستفهام إنكاري في معنى النفي لاعتقادهم أن الحيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعهم وأن الفرار يعصمهم من الموت إن كان قتال.
وجملة {من ذا الذي يعصمكم} الخ جواب الشرط في قوله: {إن أراد بكم سوءًا} الخ، أو دليل الجواب عند نحاة البصرة.
والعصمة: الوقاية والمنع مما يكرهه المعصوم.
وقوبل السوء بالرحمة لأن المراد سوءٌ خاص وهو السوء المجعول عذابًا لهم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سوء النقمة فهو سوء خاص مقدّر من الله لأجل تعذيبهم إن أراده، فيجري على خلاف القوانين المعتادة.
وعطف {أو أراد بكم رحمة} على {أراد بكم} المجعول شرطًا يقتضي كلامًا مقدرًا في الجواب المتقدم، فإن إرادته الرحمة تناسب فعل {يعصمكم} لأن الرحمة مرغوبة.
فالتقدير: أو يحرمكم منه إن أراد بكم رحمة، فهو من دلالة الاقتضاء إيجازًا للكلام، كقول الراعي:
إذا ما الغانيات برزنَ يومًا ** وزجَّجْن الحواجب والعيونا

تقديره: وكحّلن العيون، لأن العيون لا تزجج ولكنها تكحل حين تزجج الحواجبُ وذلك من التزّين.
{وَلاَ يَجدُونَ لَهُمْ مّن دُون الله وَليًّا نَصيرًا}.
عطف على جملة {قل من ذا الذي يعصمكم} أو هي معترضة بين أجزاء القول، والتقديران متقاربان لأن الواو الاعتراضية ترجع إلى العاطفة.
والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو من قبيل الالتفات.
والمقصود لازم الخبر وهو إعلام النبي عليه الصلاة والسلام ببطلان تحيلاتهم وأنهم لا يجدون نصيرًا غير الله وقد حرمهم الله النصر لأنهم لم يعقدوا ضمائرهم على نصر دينه ورسوله.
والمراد بالولي: الذي يتولى نفعهم، وبالنصير: النصير في الحرب فهو أخص. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإذْ قَالَتْ طَائفَةٌ منْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْربَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجعُوا}.
{وَإذْ} [الأحزاب: 13] هنا أيضًا بمعنى: واذكر {وَإذْ قَالَت طَّآئفَةٌ مّنْهُمْ يا أهل يَثْربَ} [الأحزاب: 13] يثرب: اسم للبقعة التي تقع فيها المدينة، وقد غيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها إلى طَيْبة.
ومعنى: {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13] أي: في الحرب {فارجعوا} [الأحزاب: 13] يعني: اتركوا محمدًا وأتباعه في أرض المعركة واذهبوا، أو {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13] أي: على هذا الدين الذي تنكرونه بقلوبكم، وتساندونه بقوالبكم.
ثم يكشف القرآن حيلة فريق آخر يريد الفرار {وَيَسْتَأْذنُ فَريقٌ مّنْهُمُ النبي} [الأحزاب: 13] أي: في عدم الخروج للقتال {يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] أي: ليست مُحصّنة، ولا تمنع مَنْ أرادها بسوء. يقال: بيت عورة إذا كان غير مُحْرز، أو غير محكم ضد مَنْ يطرقه يريد به الشر، كأن يكون منخفضًا أو مُتهدّم الجدران يسهل تسلُّقه، أو أبوابه غير محكمة. إلخ.
كما نقول في العامية مَنَطٌّ، لكن الحق سبحانه يثبت كذبهم، ويبطل حجتهم، فيقول: {وَمَا هيَ بعَوْرَةٍ} [الأحزاب: 13] إنما العلة في ذلك {إن يُريدُونَ إلاَّ فرَارًا} [الأحزاب: 13] أي: من المعركة إشفاقًا من نتائجها ومخافةَ القتل.
ثم يقول سبحانه: {وَلَوْ دُخلَتْ عَلَيْهمْ}.
{دُخلَتْ عَلَيْهمْ} [الأحزاب: 14] أي: البيوت: {منْ أَقْطَارهَا} [الأحزاب: 14] من نواحيها {ثُمَّ سُئلُوا الفتنة} [الأحزاب: 14] أي: طُلب منهم الكفر {لآتَوْهَا} [الأحزاب: 14] يعني: لكفروا. {وَمَا تَلَبَّثُوا بهَآ إلاَّ يَسيرًا} [الأحزاب: 14] يعني: ما يجعل الله لهم لُبْثًا وإقامة إلا يسيرًا، ثم ينتقم الله منهم.
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ منْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّه مَسْئُولًا (15)}.
{عَاهَدُوا الله} [الأحزاب: 15] أخذ الله عليهم العهد وقَبلوه، وهو ما حدث في بيعة العقبة حين عاهدوا رسول الله على النُّصْرة والمؤازرة. أو: يكون الكلام لقوم فاتتهم بدر وفاتتْهم أُحُد، فقالواك والله لئن وقفنا في حرب أخرى لنبلونّ فيها بلاءً حسنًا.
وعَهْد الله هو الشيء الذي تعاهد الله عليه، وأول عهد لك مع الله تعالى هو الإيمان به، وما دُمْتَ قد آمنتَ بالله فانظر إلى ما طلبه منك وما كلَّفك به، وإياك أنْ تُخلَّ بأمر من أموره، لأن الاختلال في أي أمر تكليفي من الله يُعَد نقصًا في إيمانك بالله، فلا يليق بك أنْ تنقض ما أكَّدته من الأيْمان، بل يلزمك أن توفي به؛ لأنك إنْ وفَّيْتَ بها وُفّي لك بها أيضًا، فلا تأخذ الأمر من جانبك وحدك، ولكن انظر إلى المقابل.
واعلم أن الله مُطلع عليك، يعلم خفايا الضمائر وما تُكنّه الصدور، فاحذر حينما تعطي العهد أنْ تعطيه وأنت تنوي أنْ تخالفه، إياك أنْ تعطي العهد خداعًا، فربك- سبحانه وتعالى- يعلم ما تفعل.
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ منَ الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَليلًا (16)}.
قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُل} [الأحزاب: 16] أي: لهؤلاء الذين يريدون الفرار من المعركة {لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَو القتل} [الأحزاب: 16] والقرآن هنا يحتاط لمسألة إزهاق الروح، وسبق أن تحدثنا عن الفرق بين الموت والقتل؛ لذلك يقول تعالى عن نبيه محمد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْله الرسل أَفإنْ مَّاتَ أَوْ قُتلَ انقلبتم على أَعْقَابكُمْ} [آل عمران: 144].
فالموت لا يقدر عليه إلا واهب الحياة سبحانه، ويكون بنقض الروح أولًا بأمر خالقها، ثم يتبعه نَقْض البنية، أما القتل فيقدر عليه الخَلْق، ويتم أولًا بنقض البنية الذي يترتب عليه إزهاق الروح؛ لأن البنية لم تَعُدْ صالحة لاستمرار الروح فيها، بعد أنْ فقدتْ المواصفات المطلوبة لبقاء الروح.
والفرار لن يُجدي في هذه المسألة؛ لأن لها أجلًا محددًا، سواء أكان بالله واهب الحياة، أو كان بفعل واحد من الخَلْق عصى أمر الله، فهدم البنية التي بناها الله، وما جدوى الفرار من المعركة، وقد رأينا مَنْ شهد المعارك كلها، ثم يموت على فراشه، كخالد بن الوليد الذي يقول: لقد شهدتُ مائة زَحْف أو زهاءها، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برُمْح، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامتْ أعين الجبناء.
ثم يناقشهم القرآن: هَبُوا أنكم فررتُم من الموت أو القتل، أتدوم لكم هذه السلامة؟ أتخلدون في هذه الحياة؟ {وَإذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلاَّ قَليلًا} [الأحزاب: 16] وسرعان ما تنتهي الحياة، وتواجهون الموت الذي لا مَفَرَّ منه، وكلنا ذاهب إلى هذا المصير.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصمُكُمْ}.
المعنى: قل لهم يا محمد مَن الذي {يَعْصمُكُمْ} [الأحزاب: 17] أي: يمنعكم {مّنَ الله إنْ أَرَادَ بكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17] كما قال في موضع آخر: {لاَ عَاصمَ اليوم منْ أَمْر الله إلاَّ مَن رَّحمَ} [هود: 43].
فإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا عاصمَ لهم؛ لأنه لا يمتنع أحد مع الله؛ لأنه لا يوجد معه سبحانه إله آخر يدفع السوء عن هؤلاء.
والإشكال الذي يحتاج إلى توضيح هنا قوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ بكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17] فكيف تكون العصمة من الرحمة؟ قالوا: يعصم هنا بمعنى يمنع والمعنى: لا يمنع أحد من أعدائكم رحمة الله إنْ أراد الله بكم رحمة.
ونلحظ على سياق الآية أنها جاءت بأسلوب الاستفهام ولم تأْت على صورة الخبر فلم يَقُلْ القرآن لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لا يُعصَم أحد من الله إنْ أرادكم بسوء لأن الجملة الخبرية محتملة للصدق وللكذب إنما شاء الله أن يجعلها جملة إنشائية استفهامية؛ ليقرروا هم بأنفسهم هذه الحقيقة كأنه تعالى يقول لهم: لقد ارتضيتُ حكمكم أنتم ولو لم يكُنْ الحق سبحانه واثقًا من أن الجواب لن يأتي إلا: لا أحدَ لَمَا جاء بالأسلوب في صورة استفهام إذن: فالاستفهام هنا آكد في تقرير صدْق هذه الجملة.
كذلك أنت تلجأ إلى هذا الأسلوب في الردّ على مَنْ ينكر جميلك فتقول: ألم أُحْسن إليك يوم كذا وكذا؟ فلا يملك عندها إلا الإقرار.
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ يَجدُونَ لَهُمْ مّن دُون الله وَليًّا وَلاَ نَصيرًا} [الأحزاب: 17] الولي: هو القريب منك، وأنت لا تُقرّب منك إلا مَنْ ترجو نفعه، هو الذي يليك أو يُواليك، فحبُّه يسبق الحدث، فإذا ما جاء الحدث حمله حبُّه لك على أنْ يدافع عنك.
والنصير: قريب من معنى الولي، ويدافع أيضًا عنك، لكن يأتي دفاعه بعد الحدث، وقد يكون ممَّنْ لا قرابةَ بينك وبينهم.
والمعنى: حين يريد الله أحدًا بسوء فلن يجد أحدًا يمنعه من الله، لا الولّي ولا النصير. اهـ.