فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما بين تعالى هؤلاء الذين هتكوا الستر وبينوا ما هم فيه من سفول الأمر أتبعهم آخرين تستروا ببعض الستر متمسكين بأذيال النفاق خوفًا من أهوال الشقاق بقوله تعالى: {ويستأذن} أي: يجدد كل وقت طلب الإذن لأجل الرجوع إلى البيوت والكون مع النساء {فريق منهم} أي: طائفة شأنها الفرقة {النبي} في الرجوع، وقد رأوا ما حواه من علو المقدار بما له من حسن الخلق والخلق وما له من جلالة الشمائل وكرم الخصائل، وهم بنو حارثة وبنو سلمة {يقولون} أي: في كل قليل مؤكدين لعلمهم بكذبهم وتكذيب المؤمنين قولهم: {إن بيوتنا} أتوا بجمع الكثرة إشارة إلى كثرة أصحابهم من المنافقين {عورة} أي: غير حصينة بها خلل كبير يمكن كل من أراد من الأحزاب أن يدخلها يدخلها منه، وقيل قصيرة الجدران فإذا ذهبنا إليها حفظناها منهم وكفينا من يأتي إلينا من مفسديهم حماية للدين وذبًا عن الأهلين، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء والباقون بالكسر، ثم أكذبهم الله تعالى بقوله تعالى: {وما} أي: والحال أنها ما {هي بعورة} في ذلك الوقت الذي قالوا هذا فيه ولا يريدون بذهابهم حمايتها {إن} أي: ما {يريدون} باستئذانهم {إلا فرارًا} من القتال.
ولما كانت عنايتهم مشتدة بملازمة دورهم، فأظهروا اشتداد العناية بحمايتها زورًا بين تعالى ذلك بقوله تعالى: {ولو دخلت} أي: بيوتهم أو المدينة، وأنث الفعل نصًا على المراد وإشارة إلى أن ما ينسب إليهم جدير بالضعف، وأتى بأداة الاستعلاء بقوله تعالى: {عليهم} إشارة إلى أنه دخول غلبة {من أقطارها} أي: جوانبها كلها بحيث لا يكون لهم مكان للهرب، وحذف الفاعل للإيماء بأن دخول هؤلاء الأحزاب ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه {ثم سئلوا} من أي سائل كان {الفتنة} أي: الشرك ومقاتلة المسلمين وقرأ: {لأتوها} نافع وابن كثير بقصر الهمزة لجاؤها أو فعلوها، والباقون بالمد أي: لأعطوها إجابة لسؤال من سألهم {وما تلبثوا بها} أي: ما احتبسوا عن الفتنة {إلا يسيرًا} أي: لأسرعوا إلى الإجابة للشرك طيبة بها نفوسهم، فعلم بذلك أنهم لا يقصدون إلا الفرار لا حفظ البيوت من المضار، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن: المراد بالفتنة الخروج من البيوت سمى بذلك لأن الإنسان لا يخرجه من بيته إلا الموت أو ما هو يقاربه، فكأنه فتنة، وعلى هذا يكون الضمير في بها راجعًا للبيوت أو المدينة أي: ما لبثوا بالبيوت أو بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا يسيرًا حتى هلكوا.
{ولقد كانوا} أي: هؤلاء الذين أسرعوا الإجابة إلى الفرار {عاهدوا الله} الذي لا أَجّلَّ منه {من قبل} أي: من قبل غزوة الخندق {لا يولون الأدبار} أي: لا ينهزمون، وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله تعالى أن لا يعودوا لمثلها، وقال قتادة: هم أناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر فرأوا ما أعطى الله تعالى أهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا: لئن أشهدنا الله قتالًا لنقاتلن، فساق الله تعالى إليهم ذلك، وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلًا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وقالوا: اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا: وإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله قال: لكم النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة قالوا: قد فعلنا، فذلك عهدهم، قال البغوي: وهذا القول، ليس بمرضي لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفرًا ليس فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول، وإنما الآية في قوم عاهدوا الله تعالى أن يقاتلوا ولا يفروا فنقضوا العهد. انتهى.
ولما كان الإنسان قد يتهاون بالعهد لإعراض المعاهد عنه قال تعالى: {وكان عهد الله} المحيط بصفات الكمال {مسؤولًا} أي: عن الوفاء به، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قل} أي: لهم وأكد لظنهم نفع الفرار {لن ينفعكم الفرار} في تأخير آجالكم في وقت من الأوقات الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه {إن فررتم من الموت أو القتل} أي: الذي كتب لكم لأن الأجل إن كان قد حضر لم يتأخر بالفرار، وإلا لم يقصره الثبات كما كان عليّ رضي الله تعالى عنه يقول: دهم الأمر وتوقد الجمر واشتد من الحرب الحر أي: يومي من الموت أفر يوم لا يقدر، أو يوم قدر، وذلك أن أجل الله الذي جعله محيطًا بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلًا {وإذا} أي: إن فررتم {لا تمتعون} في الدنيا بعد فراركم {إلا قليلًا} أي: مدة آجالكم وهي قليل فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئًا كثيرًا.
ولما كان ربما يقولون بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم ومن ثبت فاصطلم، أمره الله تعالى بالجواب عن هذا بقوله تعالى: {قل} أي: لهم منكرًا عليهم {من ذا الذي يعصمكم} أي: يجيركم ويمنعكم {من الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا في حال الفرار وقبله وبعده {إن أراد بكم سوءًا} أي: هلاكًا أو هزيمة فيرد ذلك عنكم {أو} يصيبكم بسوء إن {أراد} أي: الله {بكم رحمة} أي: خيرًا أسماه بها لأنه أثرها، والمعنى: هل احترزتم في جميع أعماركم عن سوء أراده فنفعكم الاحتراز أو اجتهد غيره في منعكم رحمة منه، فتم له أمره أو أوقع الله بكم شيئًا من ذلك فقدر أحد مع بذل الجهد على كشفه بدون إذنه، ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك ذكر السوء أولًا دليلًا على حذف ضده ثانيًا. وذكر الرحمة ثانيًا دليلًا على حذف ضدها أولًا. وهذا بيان لقوله تعالى: {لن ينفعكم الفرار} وقوله تعالى: {ولا يجدون لهم} أي: في وقت من الأوقات {من دون الله} أي: غيره {وليًا} أي: يواليهم فينفعهم بنوع نفع {ولا نصيرًا} أي: ينصرهم من أمره فيرد ما أراده بهم من السوء عنهم تقرير لقوله تعالى: {من ذا الذي يعصمكم} من الله الآية. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ}.
العامل في الظرف محذوف، أي واذكر، كأنه قال: يا أيها النبي اتق الله، واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين.
قال قتادة: أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصًا أن يصدق بعضهم بعضًا، ويتبع بعضهم بعضًا.
وقال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادة الله، وأن يصدق بعضهم بعضًا، وأن ينصحوا لقومهم.
والميثاق هو اليمين، وقيل: هو: الإقرار بالله، والأوّل أولى، وقد سبق تحقيقه.
ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم، فقال: {وَمنْكَ وَمن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعيسَى ابن مَرْيَمَ} ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل؛ لكونهم من أصحاب الشرائع المشهورة ومن أولي العزم من الرسل، وتقديم ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم مع تأخر زمانه فيه من التشريف له والتعظيم ما لا يخفى.
قال الزجاج: وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذرّ.
ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ فقال: {وَأَخَذْنَا منْهُمْ ميثاقا غَليظًا} أي عهدًا شديدًا على الوفاء بما حملوا وما أخذه الله عليهم، ويجوز: أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرّتين، فأخذ عليهم في المرّة الأولى مجرّد الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد.
ثم أخذه عليهم ثانيًا مغلظًا مشدّدًا، ومثل هذه الآية قوله: {وَإذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءَاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمنُنَّ به وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].
واللام في قوله: {لّيَسْأَلَ الصادقين عَن صدْقهمْ} يجوز أن تكون لام كي، أي لكي يسأل الصادقين من النبيين عن صدقهم في تبليغ الرسالة إلى قومهم، وفي هذا وعيد لغيرهم؛ لأنهم إذا كانوا يسألون عن ذلك فكيف غيرهم؟ وقيل: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم كما في قوله: {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسلَ إلَيْهمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6] ويجوز أن تتعلق بمحذوف، أي فعل ذلك ليسأل {وَأَعَدَّ للكافرين عَذَابًا أَليمًا} معطوف على ما دل عليه {لّيَسْأَلَ الصادقين} إذ التقدير: أثاب الصادقين وأعدّ للكافرين، ويجوز أن يكون معطوفًا على {أخذنا} لأن المعنى: أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه ليثيب المؤمنين وأعدّ للكافرين.
وقيل: إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأوّل، ومن الأوّل ما أثبت مقابله في الثاني، والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم، ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم وأعدّ لهم عذابًا أليمًا.
وقيل: إنه معطوف على المقدّر عاملًا في ليسأل كما ذكرنا، ويجوز أن يكون الكلام قد تمّ عند قوله: {لّيَسْأَلَ الصادقين عَن صدْقهمْ} وتكون جملة: {وَأَعَدَّ} مستأنفة لبيان ما أعدّه للكفا.
{يا أيها الذين ءَامَنُوا اذكروا نعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} هذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معها خوف من أحد وقوله: {عليكم} متعلق بالنعمة إن كانت مصدرًا أو بمحذوف هو حال، أي كائنة عليكم، ومعنى: {إذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} حين جاءتكم جنود، وهو ظرف للنعمة، أو للمقدّر عاملًا في {عليكم} أو لمحذوف هو اذكر، والمراد بالجنود: جنود الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزوه إلى المدينة، وهي الغزوة المسماة غزوة الخندق وهم: أبو سفيان بن حرب بقريش ومن معهم من الألفاف، وعيينة بن حصن الفزاري ومن معه من قومه غطفان وبنو قريظة والنضير، فضايقوا المسلمين مضايقة شديدة كما وصف الله سبحانه في هذه الآيات، وكانت هذه الغزوة في شوّال سنة خمس من الهجرة، قاله ابن إسحاق.
وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك: كانت في سنة أربع.
وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا} معطوف على {جاءتكم}.
قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم، ويدلّ على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» والمراد بقوله: {وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} الملائكة.
قال المفسرون: بعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيد كل قوم يقول لقومه: يا بني فلان هلمّ إليّ، فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء {وَكَانَ الله بمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا} قرأ الجمهور: {تعملون} بالفوقية، أي بما تعملون أيها المسلمون من ترتيب الحرب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه، وقرأ أبو عمرو بالتحتية أي بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله، والتحزب على المسلمين واجتماعهم عليهم من كل جهة.
{إذْ جَاؤوكُمْ مّن فَوْقكُمْ} إذ هذه وما بعدها بدل من إذ الأولى، والعامل في هذه هو العامل في تلك.
وقيل: منصوبة بمحذوف هو: اذكر، ومعنى {مّن فَوْقكُمْ} من أعلى الوادي، وهو من جهة المشرق، والذين جاؤوا من هذه الجهة هم غطفان وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد، وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضمّ إليهم عوف بن مالك وبني النضير، ومعنى {وَمنْ أَسْفَلَ منكُمْ} من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حييّ بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق، ومعهم عامر بن الطفيل، وجملة: {وَإذْ زَاغَت الأبصار} معطوفة على ما قبلها، أي مالت عن كل شيء، فلم تنظر إلا إلى عدوّها مقبلًا من كل جانب.
وقيل: شخصت دهشًا من فرط الهول والحيرة {وَبَلَغَت القلوب الحناجر} جمع حنجرة، وهي جوف الحلقوم، أي ارتفعت القلوب عن مكانها، ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها، وهو الذي نهايته الحنجرة، لخرجت، كذا قال قتادة.
وقيل: هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب، وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك المكان ولا خرجت عن موضعها ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها.
قال الفراء: والمعنى: أنهم جبنوا وجزع أكثرهم، وسبيل الجبان إذا اشتدّ خوفه أن تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره.
{وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} أي الظنون المختلفة، فبعضهم ظنّ النصر ورجا الظفر، وبعضهم ظنّ خلاف ذلك.
وقال الحسن: ظنّ المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه، وظنّ المؤمنون أنه ينصر.
وقيل: الآية خطاب للمنافقين، والأولى ما قاله الحسن.
فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الإطلاق أعمّ من أن يكون مؤمنًا في الواقع أو منافقًا واختلف القراء في هذه الألف في {الظنونا} فأثبتها وصلًا ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي، وتمسكوا بخط المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان فإن الألف فيها كلها ثابتة، واختار هذه القراءة أبو عبيد إلا أنه قال: لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهنّ بل يقف عليهنّ، وتمسكوا أيضًا بما في أشعار العرب من مثل هذا.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معًا، وقالوا: هي من زيادات الخط، فكتبت كذلك، ولا ينبغي النطق بها.
وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره.
وقرأ ابن كثير والكسائي وابن محيصن بإثباتها وقفًا، وحذفها وصلًا، وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله: {الرسولا} {والسبيلا} كما سيأتي آخر هذه السورة.
{هُنَالكَ ابتلي المؤمنون} الظرف منتصب بالفعل الذي بعده.
وقيل: ب {تظنون} واستضعفه ابن عطية، وهو ظرف مكان، يقال: للمكان البعيد هنالك، كما يقال: للمكان القريب: هنا، وللمتوسط هناك.
وقد يكون ظرف زمان، أي: عند ذلك الوقت ابتلي المؤمنون، ومنه قول الشاعر:
وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت ** فهناك يعترفون أين المفزع

أي في ذلك الوقت، والمعنى: أن في ذلك المكان، أو الزمان اختبر المؤمنون بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال؛ ليتبيّن المؤمن من المنافق {وَزُلْزلُوا زلْزَالًا شَديدًا} قرأ الجمهور: {زلزلوا} بضم الزاي الأولى وكسر الثانية على ما هو الأصل في المبنيّ للمفعول، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بكسر الأولى، وروى الزمخشري عنه أنه قرأ بإشمامها كسرًا، وقرأ الجمهور: {زلزالًا} بكسر الزاي الأولى، وقرأ عاصم والجحدري وعيسى بن عمر بفتحها.
قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح.
نحو: قلقلته قلقالًا، وزلزلوا زلزالًا، والكسر أجود.
قال ابن سلام: معنى {زلزلوا} حرّكوا بالخوف تحريكًا شديدًا.
وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق.
وقيل: المعنى: أنهم اضطربوا اضطرابًا مختلفًا، فمنهم من اضطرب في نفسه، ومنهم من اضطرب في دينه.
{وَإذْ يَقُولُ المنافقون والذين في قُلُوبهم مَّرَضٌ} معطوف على {إذ زاغت الأبصار} والمرض في القلوب هو: الشك والريبة، والمراد ب {المنافقون} عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وب {الذين في قلوبهم مرض} أهل الشك، والاضطراب.