فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {مّنْ أَقْطَارهَا} الأَقْطار جمع قُطْر بضمّ القاف، وهي الناحيةُ. وفيه لغةٌ: قُتْر وأَقْتار بالتاء. والقُطْر: الجانب أيضًا. ومنه قَطَرْتُه أي: أَلْقَيْتُه على قُطْره فَتَقَطَّر أي: وقع عليه. قال الشاعر:
قد عَلمَتْ سَلْمى وجاراتُها ** ما قَطَّر الفارسَ إلاَّ أنا

وفي المَثَل الانفضاض يقطر الحلب تفسيرُه: أنَّ القومَ إذا انَفَضُّوا أي: فَني زادُهم احتاجوا إلى حَلْب الإبل. وسُمّي القَطْرا قَطْرًا لسقوطه.
قوله: {ثم سُئلوا} قرأ مجاهد {سُوْيلُوا} بواوٍ ساكنة ثم ياءٍ مكسورةٍ كقُوتلوا. حكى أبو زيد هما يَتَساوَلان بالواو. والحسنُ {سُوْلُوا} بواوٍ ساكنةٍ فقط، فاحتملت وجهين:
أحدهما: أَنْ يكونَ أصلُها سُئلوا كالعامَّة ثم خُفّفَت الكسرةُ فسَكَنَتْ، كقولهم في ضَرب بالكسر: ضَرْب بالسكون فَسَكَنت الهمزةُ بعد ضمة فقُلبت واوًا نحو: بُوْس في بُؤْس.
والثاني: أن تكونَ منْ لغة الواو. ونُقل عن أبي عمرو أنه قرأ: {سيْلُوا} بياءٍ ساكنةٍ بعد كسرةٍ نحو: ميْلُوا.
قوله: {لأَتَوْها} قرأ نافعٌ وابن كثير بالقصر بمعنى لَجأْؤُوْها وغَشيُوها. والباقون بالمدّ بمعنى: لأَعْطَوْها. ومفعولُه الثاني محذوفٌ تقديره: لآتَوْها السَّائلين. والمعنى: ولو دَخَلْتَ البيوتَ أو المدينة منْ جميع نواحيها، ثم سُئل أهلُها الفتنةَ لم يمتنعوا من إعطائها. وقراءةُ المَدّ تَسْتَلْزمُ قراءةَ القصر من غير عكسٍ بهذا المعنى الخاص.
قوله: {إلاَّ يَسيرًا} أي: إلاَّ تَلَبُّثًا أو إلاَّ زمانًا يسيرًا. وكذلك قولُه: {إلاَّ قَليلًا} [الأحزاب: 16] أي: إلا تَمَتُّعًا أو إلاَّ زمانًا قليلًا.
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ منْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّه مَسْئُولًا (15)}.
قوله: {لاَ يُوَلُّونَ} جوابٌ لقوله: {عاهَدوا} لأنَّه في معنى أَقْسَموا. وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغَيْبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل: لا يُوَلّي. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لا يُوَلُّون العَدُوَّ الأدبارَ. وقال أبو البقاء: ويُقرأ بتشديد النون وحَذْف الواو على تأكيد جواب القسم. قلت: ولا أظنُّ هذا إلاَّ غلطًا منه، وذلك أنه: إمَّا أَنْ يُقْرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد. الأولُ لا يجوزُ؛ لأنَّ المضارع المنفيَّ بلا لا يؤكَّد بالنون إلاَّ ما نَدَر، ممَّا لا يُقاس عليه. والثاني فاسدُ المعنى.
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ منَ الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَليلًا (16)}.
قوله: {إن فَرَرْتُمْ} جوابُه محذوفٌ لدلالة النفي قبلَه عليه، أو متقدّمٌ عند مَنْ يرى ذلك.
قوله: {وَإذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ} إذن جوابٌ وجزاءٌ. ولمَّا وقعَتْ بعد عاطفٍ جاءَتْ على الأكثر، وهو عدمُ إعمالها، ولم يَشذَّ هنا ما شَذَّ في الإسراء فلم يُقْرأ بالنصب. والعامَّةُ على الخطاب في {تُمَتَّعون}. وقُرئ بالغَيْبة.
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذي يَعْصمُكُمْ منَ اللَّه إنْ أَرَادَ بكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجدُونَ لَهُمْ منْ دُون اللَّه وَليًّا وَلَا نَصيرًا (17)}.
قوله: {مَن ذَا الذي} قد تقدَّم في البقرة. قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: كيف جُعلَت الرحمةُ قرينةَ السوء في العصْمة، ولا عصْمَةَ إلاَّ من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكم رحمةً، فاختصر الكلامَ وأجري مُجْرى قوله:
مُتَقَلّدًا سَيْفًا ورُمْحًا

أو حُملَ الثاني على الأول، لما في العصْمة من معنى المَنْع. قال الشيخ: أمَّا الوجهُ الأولُ ففيه حَذْفُ جملةٍ لا ضرورةَ تَدْعو إلى حَذْفها، والثاني هو الوجهُ، لاسيما إذا قُدّر مضافٌ محذوفٌ أي: يَمْنَعُكم منْ مراد الله قلت: وأين الثاني من الأول ولو كان معه حَذْفُ جُمَلٍ؟. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإذْ قَالَتْ طَائفَةٌ منْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْربَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجعُوا}.
تواصَوْا فيما بينهم بالفرار عندما سَوَّلَتْ لهم شياطينُهم من وشك ظَفَر الأعداء. قوله: {وَيَسْتَئْذنُ فَريقٌ} يتعلّلون بانكشاف بيوتهم وضياع مُخَلَّفَاتهم، ويكذبون فيما أظهروه عُذْرًا، وهم لم يَحْملْهم على فعلهم غيرُ جُبْنهم وقلَةُ يقينهم.
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ منْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّه مَسْئُولًا (15)}.
ولكن لما عزم الأمر، وظهر الجدّ لم يساعدهم الصدقُ، ولم يذكروا أنهم سَيُسألون عن عهدهم، ويُعاقوبون على ما أسلفوه من ذنبهم.
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ منَ الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَليلًا (16)}.
لأَن الآجالَ لا تأخيرَ لها ولا تقديم عليها، وكما قالوا: إنّ الهاربَ عمّا هو كائن في كفّ الطالب يتقلبُ.
{وَإذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلًا قَليلًا} فإنّ ما يدّخرُه العبدُ عن الله من مالٍ أو جاهٍ أو نَفيسٍ أو قريب لا يُبارَك له فيه، ولا يجدُ به مَنَعَةً، ولا يُرزقُ منة غبطة.
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذي يَعْصمُكُمْ منَ اللَّه إنْ أَرَادَ بكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بكُمْ رَحْمَةً}.
من الذي يحققُ لكم من دونه مَرْجُوًّا؟ ومن الذي يصرف عنكم دونه عَدُوًّا؟. اهـ.

.تفسير الآيات (18- 20):

قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقينَ منْكُمْ وَالْقَائلينَ لإخْوَانهمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَليلًا (18) أَشحَّةً عَلَيْكُمْ فَإذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذي يُغْشَى عَلَيْه منَ الْمَوْت فَإذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بأَلْسنَةٍ حدَادٍ أَشحَّةً عَلَى الْخَيْر أُولَئكَ لَمْ يُؤْمنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإنْ يَأْت الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ في الْأَعْرَاب يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائكُمْ وَلَوْ كَانُوا فيكُمْ مَا قَاتَلُوا إلَّا قَليلًا (20)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبرهم سبحانه بما علم مما أوقعوه من أسرارهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بوعظهم، حذرهم بدوام علمه لمن يخون منهم، فقال محققًا مقربًا من الماضي ومؤذنًا بدوام هذا الوصف له: {قد يعلم} ولعله عبر بقد التي ربما أفهمت في هذه العبارة التقليل، إشارة إلى أنه يكفي من له أدنى عقل في الخوف من سطوة المتهدد احتمال علمه، وعبر بالاسم الأعظم فقال: {الله} إشارة إلى إحاطة الجلال والجمال {المعوقين} أي المثبطين تثبيط تكرية وعقوق، يسرعون فيه إسراع الواقع بغير اختياره {منكم} أي أيها الذين أقروا بالإيمان للناس قاطبة عن إتيان حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم {والقائلين لإخوانهم هلم} أي ائتوا وأقبلوا {إلينا} موهمين أن ناحيتهم مما يقام فيه القتال، ويواظب على صالح الأعمال {ولا} أي والحال أنهم لا {يأتون البأس} أي الحرب أو مكانها {إلا قليلًا} للرياء والسمعة بقدر ما يراهم المخلصون، فإذا اشتغلوا بالمعاركة وكفى كل منهم ما إليه تسللوا عنهم لواذًا، وعاذوا بمن لا ينفعهم من الخلق عياذًا.
ولما كانوا يوجهون لكل من أفعالهم هذه وجهًا صالحًا، بين فساد قصدهم بقوله ذامًا غاية الذم بالتعبير الشح الذي هو التناهي في البخل، فهو بخل بما في اليد وأمر للغيب بالبخل فهو بخل إلى بخل خبيث قذر متمادى فيه مسارع إليه {أشحة} أي يفعلون ما تقدم والحال أن كلًا منهم شحيح {عليكم} أي بحصول نفع منهم أو من غيرهم بنفس أو مال.
ولما كان التقدير: في حال الأمن، أتبعه بيان حالهم في الخوف فقال: {فإذا جاء الخوف} أي لمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها {رأيتهم} أي أيها المخاطب {وينظرون} وبين بعدهم حسًا ومعنى بحرف الغاية فقال: {إليك} أي حال كونهم {تدور} يمينًا وشمالًا بإدارة الطرف {أعينهم} أي زائغة رعبًا وخورًا، تم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح فقال: {كالذي} أي كدوران عين الذي، وبين شدة العناية بتصوير ذلك بجعل المفعول عمدة ببناء الفعل له فقال: {يغشى عليه} مبتدئًا غشيانه {من الموت} سنة الله في أن كل من عامل الناس بالخداع، كان قليل الثبات عند القراع؛ ثم ذكر خاصة أخرى لبيان جبنهم فقال: {فإذا ذهب الخوف} أي بذهاب أسبابه {سلقوكم} أي تناولوكم تناولًا صعبًا جرأة ووقاحة، ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور {بألسنة حداد} ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه، وهذا لطلب العرض الفاني من الغنيمة أو غيرها؛ ثم بين المراد بقوله: {أشحة} أي شحًا مستعليًا {على الخير} أي المال الذي عندهم، وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره، شحًا لا يريدون أن يصل شيء منه إليكم ولا يفوتهم شيء منه، وهذه سنة أخرى في أن من كان صلبًا في الرخاء كان رخوًا حال الشدة وعند اللقاء، وإنما فسرت الشح بهذا لأن مادته بترتيبها تدور على الجمع الذي انتهى فأشرف على الفساد، من الحشيش والمحشة، وهي الدبر، فهو جمع يتبعه في الأغلب نكد وأذى، ومن لوازم مطلق الجمع القوة فتتبعها الصلابة، فربما نشأت القساوة، وربما نشأت عن الجمع الفرقة فلزمها الرخاوة، فمن الجمع النكد الشح وهو البخل والحرص، وشح النفس حرصها على ما ملكت، قال القزاز: وجمع الشحيح في أقل العدد أشحة، ولم أسمع غيره، وحكى أبو يوسف: أشحاء- بالمد في الكثير، والرجلان يتشاحان عن الأمر- إذا كان كل منهما يريد أن لا يفوته، وزند شحاح: لا يورى، وماء شحاح: نكد غير غمر- لأنه اشتد اجتماعه في مكانه، واشتدت أرضه باجتماع أجزائها فصلبت جدًا فضنت به.
وأرض شحاح: صلبة، قال القزاز: وبه شبه الزند، والشحشاح: الحاد والسيىء الخلق والماضي في كلام أو سير، والمواظب على الشيء، لأن ذلك من لوازم الحدة الناشئة عن القوة الناشئة عن الجمع، ومن هنا قيل للخطيب البليغ والشجاع والغيور: شحشح وشحشاح، والشحشح من الغربان: الكثير الصوت، ومن الحمير: الخفيف، ومن القطا: السريعة، والشحشاح: الطويل- كأنه جمع طولين، وشحشح البعير في الهدير- إذا لم يخلصه، كأنه جمع إلى الهدير ما ليس بهدير، والشحشحة: صوت الصرد- لكثرة اتصالها، فهي ترجع إلى الحدة التي ترجع إلى القوة الناشئة عن الجمع، وترديد البعير في الهدير والطيران السريع والحذر، فإنه يدل على اجتماع القلب وثقوب الذهن، وامرأة شحشاح- كأنه رجل في قوتها، والمشحشح- كالمسلسل: القليل الخير، وإبل شحائح: قليلة الدر، وذلك من الجمع والصلابة الناشئة عن القساوة والنكد، والشحيح من الأرض ما يسيل من أدنى مطر، لصلابتها وشدة اجتماع بعضها إلى بعض، والشحشح أيضًا من الأرض ما لا يسيل إلا من مطر كثير ضد الأول، وذلك ناظر إلى جمعها للنظر لغوره فيها لما في أجزائها من التفرق الذي تقدم أنه من لوازم الجمع، ومن مطلق الجمع: الفلاة الواسعة- لأنها جامعة لما يراد جمعه، والشحاح: شعاب صغار تدفع الماء إلى الوادي، فهي بمدها جامعة، وبكونها صغارًا نكدة ومجتمعة في نفسها، ومن الجمع: الحشيش، وهو اليابس من العشب، وأصله ما جمع منه.
والمحش: الموضع الكثير الحشيش والخير، لأن الجمع ربما نشأ عنه رفق، وكثرة الحشيش يلزمها الرفق بعلفه للدواب، ويكون أرضه طيبة، ومن حش الحشيش: قطعه، وفلانًا: أصلح من حاله، والمال: كثره، وزيدًا بعيرًا أو ببعير: أعطاه إياه، والحش- بالفتح: المخرج، والمحشة: الدبر، والحش: البستان ذو النخل المجتمع، سمى الخلاء به لأن العرب كانت تقضي الحاجة فيه، وحش طلحة وحش كوكب: موضعان بالمدينة، وحش الولد في البطن: يبس، وأحشت المرأة فهي محش- إذا يبس الولد في جوفها، والحش- بالضم: الولد الهالك في البطن، وحششت الفرس: جمعت له الحشيش، وأحششت الرجل: أعنته على جمع الحشيش، والحشاش: الجوالق فيه الحشيش، وأحش الكلأ: أمكن لأن يُحَش، والمستحشة من النوق التي دقت أوظفتها، أي ما فوق رسغها إلى ساقها، وذلك من من عظمها وكثرة شحمها، واستحش الغصن: طال- كأنه جمع طولين، أو صار بحيث يجمع ورقًا كثيرًا، الشيء بالشيء، وحش الودي من النخل: يبس، ومن الجمع: حش الصيد: جمعه من جانبيه، والفرس: ألقى له حشيشًا، قال القزاز: وهو يبس الكلأ، وأصله ما جمع، ومنه: أحشك وتروثني- يضرب لمن أساء إلى من أحسن إليه، ومرت الإبل تحش الأرض.
أي تجمع الحشيش، وقيل: هو من سرعة مرها، وفيه مع كثرة الجمع للخطى بتقاربها معنى الحدة، ومنه حش الفرس: أسرع، ومن الإشراف على الفساد: الحش- بالفتح وهو النخل الناقص القصير ليس بمسقي ولا معمور، والحشاشة: رمق النفس، يقال: ما بقي من فلان إلا حشاشة أي رمق يسير يحيي به، وعبارة القاموس، والحشاش والحشاشة، بقية الروح في المريض والجريح فهذا بين في الإشراف على الفساد كما تقدم وهو أيضًا من الفرقة التي قد تلزم الجمع ومنه تحشحشوا أي تفرقوا، ومنه قلة الاستحشاش، وهو قلة القوم، ومن الحدة الناشئة عن القوة الناشئة: عن الجمع حششت النار أي أوقدتها وجمعت الحطب إليها، وكل ما قوي بشيء فقد حش به، والمحش: حديدة يوقد بها النار أي تحرك، والشجاع، قال القزاز، وهو محش حرب- إذا كان يسعرها بشجاعته، وحش فلان الحرب- إذا هيجها، ومنه تحشحشوا أي تحركوا، ومن مطلق الحدة: أحششته عن حاجته: أعجلته عنها، ومن الجمع والقوة: حش سهمه بالقذذ- إذا راشه فألزقها من نواحيه، وحشاشاك أن تفعل كذا أي قصاراك أي نهاية جمعك لكل ما تقوى به، وحشاشا كل شيء: جانباه، والحشة- بالضم: القبة العظيمة، لكثرة جمعها وقوة تراصّها.
ولما وصفهم سبحانه بهذه الدنايا.
أخبر بأن أساسها وأصلها الذي نشأت عنه عدم الوثوق بالله لعدم الإيمان فقال: {أولئك} أي البغضاء البعداء الذين محط أمرهم الدنيا {ولم يؤمنوا} أي لم يوجد منهم إيمان بقلوبهم وإن أقرت به ألسنتهم.
ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان، سبب عن ذلك قوله: {فأحبط الله} أي بجلاله وتفرده في كبريائه وكماله {أعمالهم} أي أبطل أرواحها، فصارت أجسادًا لا أرواح لها، فلا نفع لهم بشيء منها لأنها كانت في الدنيا صورًا مجردة عن الأرواح التي هي القصود الصالحة، فإنهم لا قصد لهم بها إلا التوصل إلى الأعراض الدنيوية، وهذا إعلام بأن من كانت الدنيا أكبر همه فهو غير مؤمن، وأنه يكون خوارًا عند الهزاهز، ميالًا إلى دنايا الشجايا والغرائز.
ولما كان من عمل عملًا لم يقدر غيره وإن كان أعظم منه أن يبطل نفعه به إلا بسعر شديد، قال تعالى: {وكان ذلك} أي الإحباط العظيم مع ما لهم من الجرأة في الطلب والإلحاف عند السؤال وقلة الأدب {على الله} بما له من صفات العظمة التي تخشع لها الأصوات، وتخرس الألسن الذربات {يسيرًا} لأنه لا نفع إلا منه وهو الواحد القهار، وأما غيره فإنما عسر عليه ذلك، لأن النفع من غيره- وإن كان منه حقيقة- قهره غيره بالشفاعات ووجود النكد أو غيرها عليه، وكأنهم لما ذهب استمرو خاضعين لم يطلقوا ألسنتهم ولا أعلو كلمتهم، فأخبر تعالى تحقيقًا لقوله الماضي في جبنهم أن المانع الذي ذكره لم يزل من عندهم لفرط جبنهم، فقال تحقيقًا لذلك وجوابًا لمن ربما قال: قد ذهب الخوف فما لهم ما سلقوا؟: {يحسبون} أي يظنون لضعف عقولهم في هذا الحال، وقد ذهب الخوف، لشدة جبنهم وما رسخ عندهم من الخوف {الأحزاب} وقد علمتم أنهم ذهبوا {لم يذهبوا} بل غابوا خداعًا، وعبر بالحسبان لأنه- كما مضى عن الحرالي في البقرة- ما تقع غلبته فيما هو من نوع ما فطر الإنسان عليه واستقر عادة له، والظن فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم، قال: فكان ضعف علم العالم ظن، وضعف عقل العاقل حسبان.
ولما أخبر عن حالهم في ذهابهم، أخبر عن حالهم لو وقع ما يتخوفونه من رجوعهم، فقال معبرًا بأداة الشك بشارة لأهل البصائر أنه في عداد المحال: {وإن يأت الأحزاب} أي بعد ما ذهبوا {يودّوا} أي يتجدد لهم غاية الرغبة من الجبن وشدة الخوف {لو أنهم بادون} أي فاعلون للبدو وهو الإقامة في البادية على حالة الحل والارتحال {في الأعراب} الذين هم عندهم في محل النقص، وممن تكره مخالطته ولو كان تمنيهم في ذلك الحين محالًا؛ ثم ذكر حال فاعل {بادون} فقال: {يسألون} كل وقت {عن أنبائكم} العظيمة معهم جريًا على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهًا، كأنهم مهتمون بكم، يظهرون بذلك تحرقًا على غيبتهم عن هذه الحرب أو ليخفوا غيبتهم ويظهروا أنهم كانوا بينكم في الحرب بأمارة أنه وقع لكم في وقت كذا أو مكان كذا كذا، ويكابروا على ذلك من غير استحياء لأن النفاق صار لهم خلقًا لا يقدرون على الانفكاك عنه، ويرشد إلى هذا المعنى قراءة يعقوب {يسالون} بالتشديد {ولو} أي والحال أنهم لو {كانوا فيكم} أي حاضرين لحربهم {ما قاتلوا} أي معكم {إلا قليلًا} نفاقًا كما فعلوا قبل ذهاب الأحزاب من حضورهم معكم تارة واستئذانهم في الرجوع إلى منازلهم أخرى، والتعويق لغيرهم بالفعل كرة، والتصريح بالقول أخرى. اهـ.