فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قد يَعْلَمُ اللّهُ المعوّقين منكم} في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن رجلًا انصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، فوجد أخاه لأُمّه وابيه وعنده شواءُ ونبيذٌ، فقال له: أنتَ هاهنا ورسولُ الله بين الرّماح والسيوف؟! فقال: هلمَّ إليَّ، لقد أُحيطَ بك وبصاحبك؛ والذي يُحْلَفُ به لا يستقبلها محمدٌ أبدًا؛ فقال له: كذبتَ، والذي يُحْلَف به، أما والله لأُخْبرَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأمرك، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرَه، فوجده قد نزل جبريل بهذه الآية إلى قوله: {يسيرًا} هذا قول ابن زيد.
والثاني: أن عبد الله بن أُبيّ ومُعتّب بن قُشَير والمنافقين الذين رجعوا من الخندق إلى المدينة، كانوا إذا جاءهم منافق قالوا له: ويحك اجلس فلا تخرُج، ويكتُبون بذلك إلى إخوانهم الذين في العسكر أن ائتونا بالمدينة فإنَّا ننتظركم- يثبّطونهم عن القتال- وكانوا لا يأتون العسكر إلاَّ أن لا يجدوا بُدًّا، فيأتون العسكر ليرى الناسُ وجوههم، فإذا غُفل عنهم، عادوا إلى المدينة، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
والمعوّق: المثبّط؛ تقول: عاقني فلان، واعتاقني، وعوَّقني: إذا منعك عن الوجه الذي تريده.
وكان المنافقون يعوّقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نُصَّاره.
قوله تعالى: {والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إلينا} فيهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه المنافق الذي قال لأخيه ما ذكرناه في قول ابن زيد.
والثاني: أنهم اليهود دعَوا إخوانهم من المنافقين إلى ترك القتال، قاله مقاتل.
والثالث: أنهم المنافقون دعَوا المسلمين إليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الماوردي.
قوله تعالى: {ولا يأتون البأْس} أي: لا يحضُرون القتال في سبيل الله {إلاَّ قليلًا} للرّياء والسُّمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرًا.
قوله تعالى: {أَشحَّةً عليكم} قال الزجاج: هو منصوب على الحال.
المعنى: لا يأتون الحرب إلا تعذيرًا، بخلاءَ عليكم.
وللمفسرين فيما شحُّوا به أربعة أقوال:
أحدها: أشحة بالخير، قاله مجاهد.
والثاني: بالنفقة في سبيل الله.
والثالث: بالغنيمة، رويا عن قتادة.
وقال الزجاج: بالظَّفَر والغنيمة.
والرابع: بالقتال معكم، حكاه الماوردي.
ثم أخبر عن جُبنهم فقال: {فإذا جاء الخوفُ} أي: إذا حضر القتال {رأيتَهم ينظُرون إليك تدورُ أعينُم كالذي يُغْشَى عليه منَ الموت} أي: كدوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت، وهو الذي دنا موته وغشيتْه أسبابُه، فانه يخاف ويذهل عقله ويشخص بصره فلا يَطْرف، فكذلك هؤلاء، لأنهم يخافون القتل.
{فإذا ذهبَ الخوفُ سَلَقُوكم} قال الفراء: آذَوْكم بالكلام في الأمن {بألسنة حدادٍ} سليطة ذَربة، والعرب تقول: صَلَقوكم، بالصاد، ولا يجوز في القراءة؛ وهذا قول الفراء.
وقد قرأ بالصاد أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة في آخرين وقال الزجاج: معنى: {سلقوكم} خاطبوكم أشدَّ مخاطَبة وأبلَغها في الغنيمة، يقال: خطيب مسْلاق: إذا كان بليغًا في خطبته {أَشحَّةً على الخير} أي: خاطبوكم وهُم أشحَّة على المال والغنيمة.
قال قتادة: إذا كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطُونا فلستم أحقَّ بها منَّا؛ فأمَّا عند الباس، فأجبن قوم وأخذله للحق، وأمَّا عند الغنيمة، فأشحُّ قوم.
وفي المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الغنيمة.
والثاني: على المال أن يُنفقوه في سبيل الله تعالى.
والثالث: على رسول الله صلى الله عليه وسلم بظَفَره.
قوله تعالى: {أولئك لم يُؤْمنوا} أي: هُمْ وإن أظهروا الإيمان فليسوا بمؤمنين، لنفاقهم {فأحبَطَ اللّهُ أعمالَهم} قال مقاتل: أبطلَ جهادهم، لأنه لم يكن في إيمان {وكان ذلك} الإحباط {على الله يسيرًا}.
ثم أخبر عنهم بما يدل على جُبنهم، فقال: {يَحْسَبون الأحزاب لم يَذهبوا} أي: يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجُبنهم أن الأحزاب بعد انهزامهم وذهابهم لم يذهبوا، {وإن يأت الأحزاب} أي: يَرجعوا إليهم كَرَّةً ثانية للقتال {يَوَدُّوا لو أنَّهم بادُون في الأعراب} أي: يتمنَّوا لو كانوا في بادية الأعراب من خوفهم، {يَسألون عن أنبائكم} أي: ودُّوا لو أنَّهم بالبُعد منكم يسألون عن أخباركم، فيقولون: ما فعل محمد وأصحابه، ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهَدة، فَرَقًا وجُبنًا؛ وقيل: بل يَسألون شماتةً بالمسلمين وفرحًا بنكَبَاتهم {ولو كانوا فيكم} أي: لو كانوا يشهدون القتال معكم {ما قاتلوا إلاَّ قليلًا} فيه قولان:
أحدهما: إلا رميًا بالحجارة، قاله ابن السائب.
والثاني: إلا رياءً من غير احتساب، قاله مقاتل. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين منكُمْ} أي المعترضين منكم لأن يصدّوا الناس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وهو مشتق من عاقني عن كذا أي صرفني عنه.
وعوّق، على التكثير {والقآئلين لإخْوَانهمْ هَلُمَّ إلَيْنَا} على لغة أهل الحجاز.
وغيرهم يقولون: هَلُمُّوا للجماعة، وهَلُمّي للمرأة؛ لأن الأصل: ها التي للتنبيه ضُمت إليها لَمَّ ثم حذفت الألف استخفافًا وبُنيت على الفتح.
ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تنصرف.
ومعنى هَلُم أقبل؛ وهؤلاء طائفتان؛ أي منكم من يثّبط ويعوّق.
والعوق المنع والصرف؛ يقال: عاقه يعوقه عوقًا، وعوّقه واعتاقه بمعنى واحد.
قال مقاتل: هم عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه المنافقون.
{والقآئلين لإخْوَانهمْ هَلُمَّ} فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون؛ قالوا للمسلمين: ما محمد وأصحابه إلا أَكَلة رأس، وهو هالك ومن معه، فهلم إلينا.
الثاني: أنهم اليهود من بني قُريظة؛ قالوا لإخوانهم من المنافقين: هلم إلينا؛ أي تعالوا إلينا وفارقوا محمدًا فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظَفر لم يُبق منكم أحدًا.
والثالث: ما حكاه ابن زيد: أن رجلًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؛ فقال أخوه وكان من أمّه وأبيه: هلم إليّ، قد تُبع بك وبصاحبك؛ أي قد أحيط بك وبصاحبك.
فقال له: كذبت، والله لأخبرنه بأمرك؛ وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين منكُمْ والقآئلين لإخْوَانهمْ هَلُمَّ إلَيْنَا}.
ذكره الماوَرْدي والثعلبي أيضًا.
ولفظه: قال ابن زيد هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه رغيف وشواء ونبيذ؛ فقال له: أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف؟ فقال: هَلُمّ إلى هذا فقد تبع لك ولأصحابك، والذي تحلف به لا يستقلّ بها محمد أبدًا.
فقال: كذبت.
فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره فوجده قد نزل عليه جبريل بهذه الآية.
{وَلاَ يَأْتُونَ البأس إلاَّ قَليلًا} خوفًا من الموت.
وقيل: لا يحضرون القتال إلا رياءً وسُمْعة.
قوله تعالى: {أَشحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء عليكم؛ أي بالحفر في الخندق والنفقة في سبيل الله؛ قاله مجاهد وقتادة.
وقيل: بالقتال معكم.
وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم.
وقيل: أشحّةً بالغنائم إذا أصابوها؛ قاله السدي.
وانتصب على الحال.
قال الزجاج: ونصبه عند الفرّاء من أربع جهات: إحداها: أن يكون على الذم؛ ويجوز أن يكون عنده نصبًا بمعنى يعوّقون أشحة.
ويجوز أن يكون التقدير: والقائلين أشحة.
ويجوز عنده {وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلاَّ قَليلًا} أشحة؛ أي أنّهم يأتونه أشحة على الفقراء بالغنيمة.
النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه {المعوقين} ولا {القائلين}؛ لئلا يفرق بين الصلة والموصول.
ابن الأنباري: {إلاَّ قَليلًا} غير تام؛ لأن {أَشَّحةً} متعلق بالأول، فهو ينتصب من أربعة أوجه: أحدها: أن تنصبه على القطع من {المعوّقين} كأنه قال: قد يعلم الله الذين يعوقون عن القتال ويشحون عن الإنفاق على فقراء المسلمين.
ويجوز أن يكون منصوبًا على القطع من {القائلين} أي وهم أشحة.
ويجوز أن تنصبه على القطع مما في {يأتون}؛ كأنه قال: ولا يأتون البأس إلا جبناء بخلاء.
ويجوز أن تنصب {أشحة} على الذمّ.
فمن هذا الوجه الرابع يحسن أن تقف على قوله: {إلاَّ قَليلًا}.
{أَشحَّةً عَلَيْكُمْ} وقف حسن.
ومثله {أَشحَّةً عَلَى الْخَيْر} حال من المضمر في {سَلَقُوكُمْ} وهو العامل فيه.
{فَإذَا جَاءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْه منَ الموت} وصفهم بالجبن؛ وكذا سبيل الجبان ينظر يمينًا وشمالًا محدّدًا بصره، وربما غشي عليه.
وفي {الْخَوْف} وجهان: أحدهما: من قتال العدوّ إذا أقبل؛ قاله السدّي.
الثاني: الخوف من النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا غلب؛ قاله ابن شجرة.
{رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ} خوفًا من القتال على القول الأول.
ومن النبي صلى الله عليه وسلم على الثاني.
{تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة.
وقيل: لشدّة خوفهم حذرًا أن يأتيهم القتل من كل جهة.
{فَإذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بأَلْسنَةٍ حدَادٍ} وحكى الفراء {صلقوكم} بالصاد.
وخطيبٌ مسْلاق ومصْلاق إذا كان بليغًا.
وأصل الصلق الصوت؛ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الصالقة والحالقة والشاقّة» قال الأعشى:
فيهم المجد والمساحة والنّجْـ ** ـدَةُ فيهم والخاطب السَّلاق

قال قتادة: ومعناه بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطنا أعطنا، فإنا قد شهدنا معكم.
فعند الغنيمة أشَحُّ قومٍ وأبسطهم لسانًا، ووقت البأس أجبن قومٍ وأخوفهم.
قال النحاس: هذا قول حسن؛ لأن بعده {أَشحَّةً عَلَى الْخَيْر}.
وقيل: المعنى بالغوا في مخاصمتكم والاحتجاج عليكم.
وقال القتبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد.
السّلق: الأذى.
ومنه قول الشاعر:
ولقد سلقنا هوازنا ** بنواهلٍ حتى انحنينا

{أَشحَّةً عَلَى الْخَيْر} أي على الغنيمة؛ قاله يحيى بن سلام.
وقيل: على المال أن ينفقوه في سبيل الله؛ قاله السدّي.
{أولَئكَ لَمْ يُوْمنُوا} يعني بقلوبهم وإن كان ظاهرهم الإيمان؛ والمنافق كافر على الحقيقة لوصف الله عز وجل لهم بالكُفر.
{فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ} أي لم يثبهم عليها؛ إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها.
{وَكَانَ ذَلكَ عَلَى الله يَسيرًا} يحتمل وجهين: أحدهما: وكان نفاقهم على الله هينًا.
الثاني: وكان إحباط عملهم على الله هيّنًا.
قوله تعالى: {يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُوا} أي لجبنهم؛ يظنون الأحزاب لم ينصرفوا وكانوا انصرفوا، ولكنهم لم يتباعدوا في السير.
{وَإن يَأْت الأحزاب} أي وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال.
{يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ في الأعراب} تمنوْا أن يكونوا مع الأعراب حَذَرًا من القتل وتربُّصًا للدوائر.
وقرأ طلحة بن مُصَرّف {لَو أنهم بُدًّى في الأعراب} يقال: بادٍ وبُدًّى؛ مثل غازٍ وغُزًّى. ويُمَدّ مثل صائم وصوّام، بدا فلان يبدو إذا خرج إلى البادية، وهي البداوة والبَداوة؛ بالكسر والفتح، وأصل الكلمة من البَدْو وهو الظهور.
{يَسْأَلُونَ} وقرأ يعقوب في رواية رُوَيس {يتساءلون عن أنبائكم} أي عن أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم.
يتحدّثون: أمَا هلك محمد وأصحابه! أمَا غلب أبو سفيان وأحزابه! أي يودّوا لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة القتال لفرط جبنهم.
وقيل: أي هم أبدًا لجبنهم يسألون عن أخبار المؤمنين، وهل أصيبوا.
وقيل: كان منهم في أطراف المدينة من لم يحضر الخندق، جعلوا يسألون عن أخباركم ويتمنون هزيمة المسلمين.
{وَلَوْ كَانُوا فيكُمْ مَّا قاتلوا إلاَّ قَليلًا} أي رميًا بالنّبل والحجارة على طريق الرياء والسمعة؛ ولو كان ذلك للَّه لكان قليله كثيرًا. اهـ.