فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

وقَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُول اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
منْ النَّاس مَنْ يَحْتَجُّ به في وُجُوب أَفْعَال النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ وَلُزُوم التَّأَسّي به فيهَا، وَمُخَالفُو هَذه الْفرْقَة يَحْتَجُّونَ به أَيْضًا في نَفْي إيجَاب أَفْعَاله.
فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَإنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ التَّأَسّي به هُوَ الاقْتدَاءُ به، وَذَلكَ عُمُومٌ في الْقَوْل وَالْفعْل جَميعًا، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخرَ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجبٌ؛ إذْ جَعَلَهُ شَرْطًا للْإيمَان كَقَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمنينَ} وَنَحْوَهُ منْ الْأَلْفَاظ الْمَقْرُونَة إلَى الْإيمَان، فَيَدُلُّ عَلَى الْوُجُوب، وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بأَنَّ قَوْلَهُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُول اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} يَقْتَضي ظَاهرُهُ النَّدْبَ دُونَ الْإيجَاب، لقَوْله تَعَالَى: {لَكُمْ} مثْلَ قَوْل الْقَائل: لَك أَنْ تُصَلّيَ وَلَك أَنْ تَتَصَدَّقَ لَا دَلَالَةَ فيه عَلَى الْوُجُوب بَلْ يَدُلُّ ظَاهرُهُ عَلَى أَنَّ لَهُ فعْلَهُ وَتَرْكَهُ، وَإنَّمَا كَانَ يَدُلُّ عَلَى الْإيجَاب لَوْ قَالَ: عَلَيْكُمْ التَّأَسّي بالنَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالصَّحيحُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فيه عَلَى الْوُجُوب، بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى النَّدْب أَظْهَرُ منْهَا عَلَى الْإيجَاب لمَا ذَكَرْنَا، وَمَعَ ذَلكَ لَوْ وَرَدَ بصيغَة الْأَمْر لَمَا دَلَّ عَلَى الْوُجُوب في أَفْعَاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ؛ لأَنَّ التَّأَسّي به هُوَ أَنْ نَفْعَلَ مثْلَ مَا فَعَلَ، وَمَتَى خَالَفْنَاهُ في اعْتقَاد الْفعْل أَوْ في مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلكَ تَأَسّيًا به، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَهُ عَلَى النَّدْب وَفَعَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوب كُنَّا غَيْرَ مُتَأَسّينَ به، وَإذَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فعْلًا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ عَلَى اعْتقَاد الْوُجُوب فيه حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى ذَلكَ؟ فَإذَا عَلمْنَا أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى الْوُجُوب لَزَمَنَا فعْلُهُ عَلَى ذَلكَ الْوَجْه لَا منْ جهَة هَذه الْآيَة إذْ لَيْسَ فيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوب لَكنْ منْ جهَة مَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى باتّبَاعه في غَيْر هَذه الْآيَة.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قيلَ إنَّهُ وَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إذَا لَقُوا الْمُشْركينَ ظَفرُوا بهمْ وَاسْتَعْلَوْا عَلَيْهمْ، كَقَوْله تَعَالَى: {ليُظْهرَهُ عَلَى الدّين كُلّه}.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الَّذي وَعَدَهُمْ في قَوْله: {أَمْ حَسبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتكُمْ مَثَلُ الَّذينَ خَلَوْا منْ قَبْلكُمْ} الْآيَةَ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْليمًا} إخْبَارٌ عَنْ صفَتهمْ في حَال الْمحْنَة وَأَنَّهُمْ ازْدَادُوا عنْدَهَا يَقينًا وَبَصيرَةً، وَذَلكَ صفَةُ أَهْل الْبَصَائر في الْإيمَان باَللَّه.
وقَوْله تَعَالَى: {فَمنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} قيلَ: إنَّ النَّحْبَ النَّذْرُ، أَيْ قَضَى نَذْرَهُ الَّذي نَذَرَهُ فيمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْه.
وَقَالَ الْحَسَنُ: قَضَى نَحْبَهُ: مَاتَ عَلَى مَا عَاهَدَ عَلَيْه.
وَيُقَالُ: إنَّ النَّحْبَ الْمَوْتُ، وَالنَّحْبَ الْمَدُّ في السَّيْر يَوْمًا وَلَيْلَةً.
وَقَالَ مُجَاهدٌ: قَضَى نَحْبَهُ: عَهْدَهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ النَّحْبُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ به الْعَهْدَ وَالنَّذْرَ وَقَدْ مَدَحَهُمْ اللَّهُ عَلَى الْوَفَاء به بعَيْنه، دَلَّ ذَلكَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ قُرْبَةً فَعَلَيْه الْوَفَاءُ به بعَيْنه دُونَ كَفَّارَة الْيَمين. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُوُل اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخرَ}.
فيه وجهان:
أحدهما: أي مواساة عند القتال، قاله السدي.
الثاني: قدوة حسنة يتبع فيها، والأسوة الحسنة المشاركة في الأمر يقال هو مواسيه بماله إذا جعل له نصيبًا.
وفي المراد بذلك وجهان:
أحدهما: الحث على الصبر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه.
الثاني: التسلية لهم فيما أصابهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم شُج وكُسرَت رباعيته وقتل عمه حمزة.
{لمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر} فيه وجهان:
أحدهما: لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر قاله ابن عيسى.
الثاني: لمن كان يرجوا الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، قاله ابن جبير.
{وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا} يحتمل وجهين:
أحدهما: أي استكثر من العمل بطاعته تذكرًا لأوامره.
الثاني: أي استكثر من ذكر الله خوفًا من عقابه ورجاء لثوابه واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين:
أحدهما: المنافقون عطفًا عل ما تقدم من خطابهم.
الثاني: المؤمنون لقوله: {لمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخرَ}.
واختلف في هذه الأسوة بالرسول هل هي على الإيجاب أو على الاستحباب على قولين:
أحدهما: على الإيجاب حتى يقوم دليل علىلاستحباب.
الثاني: على الاستحباب حتى يقول دليل على الإيجاب.
ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمنُونَ الأحْزَاب} الآية. فيه قولان:
أحدهما: أن الله وعدهم في سورة البقرة فقال: {أَمْ حَسبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتكُم} [البقرة: 214] الآية. فلما رأوا أحزاب المشركين يوم الخندق {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قاله قتادة.
الثاني: ما رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال: «أَخْبَرَني جبْريلُ أَنَّ أُمَّتي ظَاهرَةُ عَلَيهَا يَعْني قُصُور الحيرَة وَمَدَائن كسرَى فَأبْشرُوا بالنَّصْر» فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ} الآية.
{إيمَانًا وَتَسْليمًا} فيه قولان:
أحدهما: إلا إيمانًا وتسلميًا للقضاء، قاله الحسن.
الثاني: إلا إيمانًا بما وعد الله وتسليمًا لأمر الله.
قوله تعالى: {مّنَ الْمُؤْمنينَ رجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه}.
فيهم قولان:
أحدهما: أنهم بايعوا الله على ألا يفرُّوا، فصدقوا في لقائهم العدو يوم أحد، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدرًا فعاهدوا الله ألا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب يشهدها أو أمر بها، فوفوا بما عاهدوا الله عليه، قاله أنس بن مالك.
{فَمنْهُم مَّن قَضَى نحْبَهُ وَمنْهُم مَّن يَنْتَظرُ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس ومنه قول بشر بن أبي خازم:
قضى نحب الحياة وكلُّ حي ** إذا يُدْعى لميتته أجابا

الثاني: فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش، ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو صدق لقاء، قاله مجاهد.
الثالث: فمنهم من قضى نذره ومنه قول الراعي:
حتى تحنّ إلى ابن أكرمها ** حسبًا وكن منجز النحب

فيكون النحب على التأويل الأول الأجل، وعلى الثاني العهد، وعلى الثالث النذر.
{وَمَا بَدَّلُوا تَبْديلًا} فيه وجهان:
أحدهما: ما غيروا كما غير المنافقون، قاله ابن زيد.
الثاني: ما بدلوا ما عاهدوا الله عليه من الصبر ولا نكثوا بالفرار، وهذا معنى قول الحسن.
قوله: {لّيَجْزيَ الصَّادقينَ بصدْقهمْ} يحتمل وجهين:
أحدهما: الذين صدقوا لما رأوا الأحزاب {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية.
الثاني: الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قبل فثابوا ولم يغيروا.
{وَيُعَذّبُ الْمُنَافقينَ إن شَاءَ} فيه وجهان:
أحدهما: يعذبهم إن شاء ويخرجهم من النفاق إن شاء، قاله قتادة.
الثاني: يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يميتهم على نفاقهم فيعذبهم في الآخرة إن شاء، قاله السدي.
{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهمْ} قال السدي يخرجهم من النفاق بالتوبة حتى يموتوا وهم تائبون.
{إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحيمًا} يحتمل وجهين:
أحدهما: غفروًا بالتوبة رحيمًا بالهداية إليها.
الثاني: غفورًا لما قبل التوبة رحيمًا لما بعدها. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم أخبر تعالى على جهة الموعظة بأن كل مسلم ومدع في الإسلام لقد كان يجب أن يقتدي بمحمد عليه السلام حين قاتل وصبر وجاد بنفسه. وقرأ جمهور الناس {إسوة} بكسر الهمزة، وقرأ عاصم وحده {أُسوة} بضم الهمزة وهما لغتان معناه قدوة، وتأسى الرجل إذا اقتدى، ورجاء الله تعالى تابع للمعرفة به، ورجاء اليوم الآخر ثمرة العمل الصالح، {وذكر الله كثيرًا} من خير الأعمال، فنبه عليه، وفي مصحف عبد الله بن مسعود {يحسبون الأحزاب قد ذهبوا فإذا وجدوهم لم يذهبوا ودوا لو أنهم بادون في الأعراب}.
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} وصف الله تعالى المؤمنين حين رأوا تجمع الأحزاب لحربهم وصبرهم على الشدة وتصديقهم وعد الله تعالى على لسان نبيه، واختلف في مراد المؤمنين بوعد الله ورسوله لهم، فقالت فرقة: أرادوا ما أعلمهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بحفر الخندق فإنه أعلمهم بأنهم سيحصرون وأمرهم بالاستعداد لذلك وأعلمهم بأنهم سينصرون من بعد ذلك، فلما رأوا الأحزاب {قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله} فسلموا لأول الأمر وانتظروا آخره، وقالت فرقة: أرادوا بوعد الله ما نزل في سورة البقرة من قوله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذي خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214].
قال الفقيه الإمام القاضي: ويحتمل أن يكون المؤمنون نظروا في هذه الآية، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أمرهم بحفر الخندق، وأشاروا بالوعد إلى جميع ذلك، وهي مقالتان إحداهما من الله والأخرى من رسوله، وزيادة الإيمان هي في أوصافه لا في ذاته لان ثبوته وإبعاد الشكوك عنه والشبه زيادة في أوصافه، ويحتمل أن يريد إيمانهم بما وقع وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يقع فتكون الزيادة في هذا الوجه فيمن يؤمن به لا في نفس الإيمان، وقرأ ابن أبي عبلة {وما زادوهم} بواو جمع، والتسليم الانقياد لأمر الله تعالى كيف جاء، ومن ذلك ما ذكرناه من أن المؤمنين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند اشتداد ذلك الخوف: يا رسول الله إن هذا أمر عظيم فهل من شيء نقوله؟ فقال: قولوا «اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا» فقالها المسلمون في تلك الضيقات. ثم أثنى الله على رجال من المؤمنين عاهدوا الله تعالى على الاستقامة التامة فوفوا وقضوا نحبهم، أينذرهم وعهدهم، والنحب في كلام العرب النذر، والشيء الذي يلتزمه الإنسان، ويعتقد الوفاء به، ومنه قول الشاعر:
قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر

المعنى أنه التزم الصبر إلى موت أو فتح فمات ومن ذلك قول جرير: الطويل:
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ** عشية بسطام جرين على نحب

أي على أمرعظيم التزم القيام، كأنه خطر عظيم وشبهه، وقد يسمى الموت نحبًا، وبه فسر ابن عباس هذه الآية، وقال الحسن {قضى نحبه} مات على عهد، ويقال للذي جاهد في أمر حتى مات قضى في نحبه، ويقال لمن مات قضى فلان نحبه، وهذا تجوز كأن الموت أمر لابد للإنسان أن يقع به فسمي نحبًا، لذلك فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بذلك أنس بن النضر عم أنس بن مالك، وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك وقال: لئن شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدًا ليرين الله ما أصنع، فلما كانت أحد أبلى بلاء حسنًا حتى قتل ووجد فيه نيف على ثمانين جرحًا، فقالت فرقة: إن هذه الإشارة هي إلى أنس بن النضر ونظرائه من استشهد في ذات الله تعالى، وقال مقاتل والكلبي الرجال الذين {صدقوا ما عاهدوا الله عليه} هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة، وقالت فرقة: الموصوفون بقضاء النحب هم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوا بعهود الإسلام على التمام، فالشهداء منهم، والعشرة الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم، إلى من حصل في هذه المرتبة من لن ينص عليه، ويصحح هذه المقالة ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على المنبر فقال له أعرابي: يا رسول الله من الذي قضى نحبه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم دخل طلحة بن عبيد الله على باب المسجد وعليه ثوبان أخضران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين السائل؟ فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: هذا ممن قضى نحبه».
قال القاضي أبو محمد: فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شروطه الموت، وقال معاوية بن أبي سفيان: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طلحة ممن قضى نحبه» وروت هذا المعنى عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {ومنهم من ينتظر} يريد ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح وهو بسبيل ذلك {وما بدلوا} وما غيروا، ثم أكد بالمصدر، وقرأ ابن عباس على منبر البصرة {ومنهم من بدل تبديلًا} رواه عنه أبو نصرة، وروى عنه عمرو بن دينار {ومنهم من ينتظر وآخرون بدلوا تبديلًا} واللام في قوله تعالى: {ليجزي} لام الصيرورة والعاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي، وتعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم والتوبة موازية لتلك الإدامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان: إقامة على نفاق، أو توبة منه، وعنهما ثمرتان تعذيب، أو رحمة، فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هاتين، وواحدة من هاتين، ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ويدلك على أن معنى قوله: {ليعذب} ليديم على النفاق قوله: {إن شاء} ومعادلته بالتوبة وبحرف {أو} ولا يجوز أحد أن {إن شاء} يصح في تعذيب منافق على نفاقه بل قد حتم الله على نفسه بتعذيبه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

ثم عاب من تخلَّف بالمدينة بقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنة} أي: قُدوة صالحة.
والمعنى: لقد كان لكم به اقتداءٌ لو اقتديتم به في الصبر معه كما صبر يوم أُحُد حتى كُسرت رَباعيَّتُه وشُجَّ جبينه وقُتل عمُّه، وآساكم مع ذلك بنفسه.
وقرأ عاصم: {أُسوةٌ} بضم الألف؛ والباقون بكسر الألف؛ وهما لغتان.
قال الفراء: أهل الحجاز وأَسَد يقولون: {إسوة} بالكسر، وتميم وبعض قيس يقولون: {أُسوة} بالضم.
وخَصَّ اللّهُ تعالى بهذه الأُسوة المؤمنين، فقال: {لمَن كان يرجو الهل واليوم الآخر} والمعنى أن الأسوة برسول الله إنما كانت لمَن كان يرجو الله {واليوم الآخر}؛ وفيه قولان:
أحدهما: يرجو ما عنده من الثواب والنعيم، قاله ابن عباس.