فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فما عاهدوا، إما أن يكون على إسقاط الحرف، أي فيما عاهدوا، والمفعول الأول محذوف، والتقدير: صدقوا الله، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد، كما تقول: صدقني أخوك إذا قال لك الصدق، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب.
وكان المعاهد عليه مصدوقًا مجازًا، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفي لك، وهم وافون به، فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه، وكان مكذوبًا.
وهؤلاء الرجال، قال مقاتل والكلبي: هم أهل العقبة السبعون، أهل البيعة.
وقال أنس: نزلت في قوم لم يشهدوا بدرًا، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوفوا.
وقال زيد بن رومان: بنو حارثة.
{فمنهم من قضى نحبه} وهذا تجوز، لأن الموت أمر لابد منه أن يقع بالإنسان، فسمي نحبًا لذلك.
وقال مجاهد: قضى نحبه: أي عهده.
قال أبو عبيدة: نذره.
وقال الزمخشري: {فمنهم من قضى نحبه} يحتمل موته شهيدًا، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت فرقة: الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا بعهود الإسلام على التمام.
فالشهداء منهم، والعشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة، منهم من حصل في هذه المرتبة بما لم ينص عليه، ويصحح هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سئل من الذي قضى نحبه وهو على المنبر؟ فدخل طلحة بن عبيد الله فقال: هذا ممن قضى نحبه.
{ومنهم من ينتظر} إذا فسر قضاء النحب بالشهادة، كان التقدير: ومنهم من ينتظر الشهادة؛ وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام، كان التقدير: ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح.
وقال مجاهد: ينتظر يومًا فيه جهاد، فيقضي نحبه.
{وما بدلوا} لا المستشهدون، ولا من ينتظر.
وقد ثبت طلحة يوم أحد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوجب طلحة»، وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حين ولوا الأدبار، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار.
{ليجزي الله الصادقين} أي الذين {صدقوا ما عاهدوا الله عليه} {بصدقهم} أي بسبب صدقهم.
{ويعذب المنافقين إن شاء} وعذابهم متحتم.
فكيف يصح تعليقه على المشيئة، وهو قد شاء تعذيبهم إذا وفوا على النفاق؟ فقال ابن عطية: تعذيب المنافقين ثمرته إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم، والتوبة موازية لتلك الإقامة، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب.
فهما درجتان: إقامة على نفاق، أو توبة منه.
وعنهما ثمرتان: تعذيب، أو رحمة.
فذكر تعالى، على جهة الإيجاز، واحدة من هاتين، وواحدة من هاتين.
ودل ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدلك على أن معنى قوله: {ليعذب} أي: ليديم على النفاق، قوله: {إن شاء} ومعادلته بالتوبة، وحذف أو.
أنتهى.
وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير: ليقيموا على النفاق، فيموتوا عليه، إن شاء فيعذبهم، أو يتوب عليهم فيرحمهم.
فحذف سبب التعذيب، وأثبت المسبب، وهو التعذيب.
وأثبت سبب الرحمة والغفران، وحذف المسبب، وهو الرحمة والغفران، وهذا من الإيجاز الحسن.
وقال الزمخشري: ويعذيهم إن شاء إذا لم يتوبوا، ويتوب عليهم إذا تابوا. انتهى.
ولا يجوز تعليق عذابهم إذا لم يتوبوا بمشيئته تعالى، لأنه تعالى قد شاء ذلك وأخبر أنه يعذب المنافقين حتمًا لا محالة.
واللام في {ليجزي} قيل: لام الصيرورة؛ وقيل: لام التعليل، ويتعلق بقوله: {وما بدلوا تبديلًا}.
قال الزمخشري: جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما.
وقال السدي: المعنى: إن شاء يميتهم على نفاقهم، أو يتوب عليهم بفعلهم من النفاق بتقبلهم الإيمان.
وقيل: يعذبهم في الدنيا إن شاء، ويتوب عليهم إن شاء.
{إن الله كان غفورًا رحيمًا} غفورًا للحوية، رحيمًا بقبول التوبة.
{ورد الله الذين كفروا} الأحزاب عن المدينة، والمؤمنين إلى بلادهم.
{بغيظهم} فهو حال، والباء للمصاحبة؛ و{لم ينالوا} حال ثانية، أو من الضمير في بغيظهم، فيكون حالًا متداخلة.
وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الثانية بيانًا للأولى، أو استئنافًا. انتهى.
ولا يظهر كونها بيانًا للأولى، ولا للاستئناف، لأنها تبقى كالمفلتة مما قبلها.
{وكفى الله المؤمنين القتال} بإرسال الريح والجنود، وهم الملائكة، فلم يكن قتال بين المؤمنين والكفار.
وقيل: المراد علي بن أبي طالب ومن معه، برزوا للقتال ودعوا إليه.
وقتل علي من الكفار عمرو بن عبيد مبارزة، حين طلب عمرو المبارزة، فخرج إليه علي، فقال: إني لا أوثر قتلك لصحبتي لأبيك، فقال له علي: فأنا أوثر قتلك، فقتله علي مبارزة.
واقتحم نوفل بن الحارث، من قريش، الخندق بفرسه، فقتل فيه.
وقتل من الكفار أيضًا: منبه بن عثمان، وعبيد بن السباق.
واستشهد من المسلمين، في غزوة الخندق: معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل، وأبو عمرو، وهم من بني عبد الأشهل؛ والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمه، وهما من بني سلمة؛ وكعب بن زيد، من بني ذبيان بن النجار، أصابه سهم غرب فقتله.
ولم تغز قريش المسلمين بعد الخندق، وكفى الله مداومة القتال وعودته بأن هزمهم بعد ذلك، وذلك بقوته وعزته.
وعن أبي سعيد الخدري: حبسنا يوم الخندق، فلم نصل الظهر، ولا العصر، ولا المغرب، ولا العشاء، حتى كان بعد هوي من الليل، كفينا وأنزل الله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلالًا، فأقام وصلى الظهر فأحسنها، ثم كذلك كل صلاة بإقامة.
{وأنزل الذين ظاهروهم} أي أعانوا قريشًا ومن معهم من الأحزاب من أهل الكتاب، هم يهود بني قريظة، كما هو قول الجمهور.
وعن الحسن: بنو النضير.
وقذف الرعب سبب لإنزالهم، ولكنه قدم المسبب، لما كان السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم قدم.
وقال رجل: يا رسول الله، مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليهم قطيفة ديباج، فقال: «ذلك جبريل، عليه السلام، بعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم» ولما رجعت الأحزاب، جاء جبريل وقت الظهر فقال: إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة.
فنادى في الناس: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فخرجوا إليها، فمصل في الطريق، ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال؛ ومصل بعد العشاء، وكل مصيب.
فحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: خمسة عشر.
فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي، لحلف كان بينهم، رجوا حنوه عليهم، فحكم أن يقتل المقاتلة ويسبي الذرية والعيال والأموال، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار.
فقالت له الأنصار في ذلك، فقال: أردت أن يكون لهم أموال كما لكم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة» ثم استنزلهم، وخندق لهم في سوق المدينة، وقدمهم فضرب أعناقهم، وهم من بين ثمانمائة إلى تسعمائة.
وقيل: كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير.
وجيء يحيي بن أخطب النضيري، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عندهم وفاء لهم، فترك فيمن ترك على حكم سعد.
فلما قرب، وعليه حلتان تفاحيتان، مجموعة يداه إلى عنقه، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذل.
ثم قال: أيها الناس، إنه لا بأس أمر الله وقدره، ومحنة كتبت على بني إسرائيل، ثم تقدم فضربت عنقه.
وقال فيه بعض بني ثعلبة:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ** ولكنه من يخذل الله يخذل

لا جهد حتى أبلغ النفس عذرها ** وقلقل يبغي الغد كل مقلقل

وقتل من نسائهم امرأة، وهي لبابة امرأة الحكم القرظي، كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتل؛ ولم يستشهد في حصار بني قريظة غيره.
ومات في الحصار أبو سفيان بن محصن، أخو عكاشة بن محصن، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.
وقرأ الجمهور: وتأسرون، بتاء الخطاب وكسر السين؛ وأبو حيوة: بضمها؛ واليماني: بياء الغيبة؛ وابن أنس، عن ابن ذكوان: بياء الغيبة في: {تقتلون وتأسرون}.
{وأورثكم} فيه إشعار أنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين ومن نقلهم من أرضهم، وقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزرع، ولأنهم باستيلائهم عليها ثانيًا وأموالهم ليستعان بها في قوة المسلمين للجهاد، ولأنها كانت في بيوتهم، فوقع الاستيلاء عليها ثالثًا.
{وأرضًا لم تطؤها} وعد صادق في فتح البلاد، كالعراق والشام واليمن ومكة، وسائر فتوح المسلمين.
وقال عكرمة: أخبر تعالى أن قد قضى بذلك.
وقال الحسن: أراد الروم وفارس.
وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة.
وقال مقاتل، ويزيد بن رومان، وابن زيد: هي خيبر؛ وقيل: اليمن؛ ولا وجه لهذه التخصيصات، ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم.
وقرأ الجمهور: تطؤوها، بهمزة مضمومة بعدها واو.
وقرأ زيد بن علي: لم تطوها، بحذف الهمزة، أبدل همزة تطأ ألفًا على حد قوله:
إن السباع لتهدا في مرابضها ** والناس لا يهتدى من شرهم أبدا

فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت، كقولك: لم تروها.
وختم تعالى هذه الآية بقدرته على كل شيء، فلا يعجزه شيء، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة، وأنه لا يستبعد ذلك، فكما ملكهم هذه، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين منكُمْ}.
يقال: عاقه واعتاقه وعوّقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده.
قال الواحدي: قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم قالوا لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحمًا لالتقمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا.
وقيل: إن القائل هذه المقالة اليهود قالوا: {لإخوانهم} من المنافقين: {هَلُمَّ إلَيْنَا} ومعنى {هلم} أقبل واحضر، وأهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث، وغيرهم من العرب يقولون: هلم للواحد المذكر، وهلمي للمؤنث، وهلما للاثنين، وهلموا للجماعة، وقد مرّ الكلام على هذا في سورة الأنعام {وَلاَ يَأْتُونَ البأس} أي الحرب {إلاَّ قَليلًا} خوفًا من الموت.
وقيل: المعنى: لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة من غير احتساب {أَشحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء عليكم لا يعاونوكم بحفر الخندق، ولا بالنفقة في سبيل الله، قاله مجاهد وقتادة.
وقيل: أشحة بالقتال معكم.
وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم.
وقيل: أشحة بالغنائم إذا أصابوها.
قاله السديّ.
وانتصابه على الحال من فاعل {يأتون}.
أو من {المعوقين}.
وقال الفراء: يجوز في نصبه أربعة أوجه: منها النصب على الذم، ومنها بتقدير فعل محذوف، أي يأتونه أشحة.
قال النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه للمعوقين ولا القائلين؛ لئلا يفرق بين الصلة والموصول.
{فَإذَا جَاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} أي تدور يمينًا، وشمالًا وذلك سبيل الجبان إذا شاهد ما يخافه {كالذي يغشى عَلَيْه منَ الموت} أي كعين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي نزل به الموت وغشيته أسبابه، فيذهل ويذهب عقله، ويشخص بصره فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عيناه، ودارت حماليق عينيه، والكاف نعت مصدر محذوف {فَإذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُم بأَلْسنَةٍ حدَادٍ} يقال: سلق فلان فلانًا بلسانه: إذا أغلظ له في القول مجاهرًا.
قال الفراء: أي: آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة.
ويقال: خطيب مسلاق ومصلاق: إذا كان بليغًا، ومنه قول الأعشى:
فيهم المجد والسماحة والنج ** دة فيهم والخاطب السلاق

قال القتيبي: المعنى: آذوكم بالكلام الشديد، والسلق الأذى، ومنه قول الشاعر:
ولقد سلقت هوازنا ** بنو أهل حتى انحنينا

قال قتادة: معنى الآية: بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطنا فإنا قد شهدنا معكم.
فعند الغنيمة أشحّ قوم وأبسطهم لسانًا، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم.
قال النحاس: وهذا قول حسن، وانتصاب {أَشحَّةً عَلَى الخير} على الحالية من فاعل {سلقوكم} ويجوز أن يكون نصبه على الذمّ.