فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعطفُ {زينتَها} عطف خاص على عام، وفي عطفه زيادة تنبيه على أن المضاف المحذوف عام، وأيضًا ففعل {تردْنَ} يؤذن باختيار شيء على غيره فالمعنى: إن كنتن تردْنَ الانغماس في شؤون الدنيا، وقد دلت على هذا مقابلته بقوله: {وإن كنتُنّ تردْنَ الله ورسوله} كما سيأتي.
و{تعالين} اسم فعل أمْر بمعنى: أقبلْنَ، وهو هنا مستعمل تمثيلًا لحال تَهَيُّؤ الأزواج لأخذ التمتيع وسماع التسريح بحال من يُحضر إلى مكان المتكلم.
وقد مضى القول على تعال عند قوله تعالى: {فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم} في سورة آل عمران (61) والتمتيع: أن يُعطي الزوج امرأته حين يطلقها عطيةً جبْرًا لخاطرها لما يعرض لها من الانكسار.
وتقدم الكلام عليها مفصلًا عند قوله تعالى: {ومَتّعُوهُنّ على المُوسع قَدْرهُ وعلى المُقْتر قدْرُه متاعًا بالمَعْروف} في سورة البقرة (236).
وجزم {أمتعْكُنَّ} في جواب {تعالَيْن} وهو اسم فعل أمر وليس أمْرًا صريحًا فجَزْمُ جوابه غير واجب فجيء به مجزومًا ليكون فيه معنى الجزاء فيفيد حصول التمتيع بمجرد إرادة إحداهن الحياة الدنيا.
والسراح: الطلاق، وهو من أسمائه وصيغه، قال تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو سَرّحُوهُنَّ بمعروف} [البقرة: 231].
والجميل: الحَسَن حُسنًا بمعنى القبول عند النفس، وهو الطلاق دون غضب ولا كراهية لأنه طلاق مراعىً فيه اجتناب تكليف الزوجة ما يشقّ عليها.
وليس المذكور في الآية من قبيل التخيير والتمليك اللذين هما من تفويض الطلاق إلى الزوجة، وإنما هذا تخيير المرأة بين شيئين يكون اختيارها أحدهما داعيًا زوجها لأن يطلقها إن أراد ذلك.
ومعنى {وإن كنتن تردن الله ورسوله} إن كنتن تُؤْثرْنَ الله على الحياة الدنيا، أي: تؤثرن رضى الله لما يريده لرسوله، فالكلام على حذف مضاف.
وإرضاء الله: فعل ما يحبه الله ويقرب إليه، فتعدية فعل {تردن} إلى اسم ذات الله تعالى على تقدير تقتضيه صحة تعلق الإرادة باسم ذات لأن الذات لا تراد حقيقة فوجب تقدير مضاف ولزم أن يقدر عامًا كما تقدم.
وإرادة رضى الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك على تقدير، أي: كل ما يرضي الرسول عليه الصلاة والسلام، وأول ذلك أن يَبْقَيْنَ في عشرته طيّبات الأنفس.
وإرادة الدار الآخرة: إرادة فَوْزها، فالكلام على حذف مضاف يقتضيه المقام أيضًا، فأسلوب الكلام جرى على إناطة الحكم بالأعيان وهو أسلوب يقتضي تقديرًا في الكلام من قبيل دلالة الاقتضاء.
وفي حذف المضافات وتعليق الإرادة بأسماء الأعيان الثلاثة مقصدُ أن تكون الإرادة متعلقة بشؤون المضاف إليه التي تتنزل منزلة ذاته مع قضاء حق الإيجاز بعد قضاء حق الإعجاز.
فالمعنى: إن كنتُنّ تؤثرْن ما يُرضي الله ويحبه رسوله وخير الدار الآخرة فتخْتَرْن ذلك على ما يشغل عن ذلك كما دلت عليه مقابلة إرادة الله ورسوله والدار الآخرة بإرادة الحياة الدنيا وزينتها، فإن المقابلة تقتضي إرادتين يجمع بين إحداهما وبين الأخرى، فإن التعلق بالدنيا يستدعي الاشتغال بأشياء كثيرة من شؤون الدنيا لا محيصَ من أن تُلهيَ صاحبها عن الاشتغال بأشياء عظيمة من شؤون ما يرضي الله وما يرضي رسوله عليه الصلاة والسلام وعن التملي من أعمال كثيرة مما يكسب الفوز في الآخرة فإن الله يحب أن ترتقي النفس الإنسانية إلى مراتب الملكية والرسول صلى الله عليه وسلم يبتغي أن يكون أقرب الناس إليه وأعلقهم به سائرًا على طريقته لأن طريقته هي التي اختارها الله له.
وبمقدار الاستكثار من ذلك يكثر الفوز بنعيم الآخرة، فالناس متسابقون في هذا المضمار وأوْلاهم بقصب السبق فيه أشدهم تعلُّقًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك كانت همم أفاضل السلف، وأولى الناس بذلك أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام وقد ذكّرهن الله تذكيرًا بديعًا بقوله: {واذكُرْنَ ما يُتْلَى في بيوتكنّ من ءايات الله والحكمة} [الأحزاب: 34] كما سيأتي.
ولما كانت إرادتهن الله ورسوله والدارَ الآخرة مقتضية عملَهُنّ الصالحات وكان ذلك العمل متفاوتًا، وجعل الجزاء على ذلك بالإحسان فقال: {فإن الله أعدّ للمحسنات منكُنّ أجرًا عظيمًا} ليعلمْنَ أن هذا الأجر حاصل لهن على قدر إحسانهن؛ فهذا وجه ذكر وصف المحسنات وليس هو للاحتراز.
وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة على وصفه بالعظيم.
وتوكيد جملة الجزاء بحرف {إنّ} الذي ليس هو لإزالة التردد إظهار للاهتمام بهذا الأجر.
وقد جاء في كتب السنة: أنه لما نزلت هذه الآية ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة فقال لها: «إني ذاكر لكك أمرًا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويْك»، ثم تلا هذه الآية، فقالت عائشة: أفي هذا أستأمر أبوَيّ؟ فإنّي أريد الله ورسوله والدارَ الآخرة، وقال لسائر أزواجه مثل ذلك، فقلْنَ مثل ما قالت عائشة.
ولا طائل تحت الاشتغال بأن هذا التخيير هل كان واجبًا على النبي صلى الله عليه وسلم أو مندوبًا، فإنه أمر قد انقضى ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يخالف أمر الله تعالى بالوجوب أو الندب.
{يَا نسَاءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفَاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضعْفَيْن}.
تولى الله خطابهن بعد أن أمر رسوله بتخييرهنّ فخيرهُنّ فاخترْنَ الله ورسوله والدار الآخرة، فخاطبهن ربُّهُنّ خطابًا لأنهن أصبحْنَ على عهد مع الله تعالى أن يؤتيَهُنّ أجرًا عظيمًا.
وقد سمّاه عمر عهدًا فإنه كان كثيرًا ما يقرأ في صلاة الصبح سورة الأحزاب فإذا بلغ هذه الآية رَفَعَ بها صوته فقيلَ له في ذلك، فقال: أُذكّرهُنّ العهدَ، ولما كان الأجر الموعود منوطًا بالإحسان أُريد تحذيرهن من المعاصي بلوغًا بهن إلى مرتبة الملكية مبالغة في التحذير إذ جعل عذاب المعصية على فرض أن تأتيها إحداهن عذابًا مضاعفًا.
وندَاؤُهُنّ للاهتمام بما سيُلْقَى إليهن.
ونَادَاهُنّ بوصف {نساء النبي} ليعلَمْنَ أن ما سيُلقَى إليهن خبر يناسب علوّ أقدارهنّ.
والنساء هنا مراد به الحلائل، وتقدم في قوله تعالى: {ونساءَنا ونساءَكم} في سورة آل عمران (61).
وقرأ الجمهور {يَأت} بتحتية في أوله مراعاة لمدلول {مَن} الشرطية لأن مدلولها شيء فأصله عدم التأنيث.
وقرأه يعقوب {مَن تأت} بفوقية في أوله مراعاة لمَا صْدَق {مَن} أي: إحدى النساء.
وقرأ الجمهور {يضاعَف} بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنيًا للنائب ورفع {العذابُ} على أنه نائب فاعل.
وقرأه ابن كثير وابن عامر {نضَعّف} بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب {العذابَ} على المفعولية؛ فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده: {وكان ذلك على الله يسيرًا} إظهارًا في مقام الإضمار.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب {يُضَعَّف} بتحتية للغائب وتشديد العين مفتوحة.
ومفاد هذه القراءات متّحدُ المعنى على التحقيق.
وروى الطبري عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي عبيدة مَعمَر بن المثنَّى: أن بين ضاعف وضَعَّف فرقًا، فأما ضاعف فيفيد جعْل الشيء مثْلَيْه فتصير ثلاثة أعْذبة.
وأما ضَعَّف المشدّد فيفيد جَعْل الشيء مثله.
قال الطبري: وهذا التفريق لا نعلم أحدًا من أهل العلم ادعاه غيرهما.
وصيغة التثنية في قوله: {ضعفين} مستعملة في إرادة الكثرة كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرَّتيْن ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير} [الملك: 4] لظهور أن البصر لا يرجع خاسئًا وحسيرًا من تكرّر النظر مرتين، والتثنية تردُ في كلام العرب كناية عن التكرير، كقولهم: لَبَّيْك وسَعْديك، وقولهم: دَوَالَيْك، ولذلك لا نشتغل بتحديد المضاعفة المرادة في الآية بأنها تضعيف مرة واحدة بحيث يكون هذا العذاب بمقدار ما هو لأمثال الفاحشة مرتين أو بمقدار ذلك ثلاث مرات وذلك ما لم يشتغل به أحد من المفسرين، وما إعراضهم عنه إلا لأن أفهامهم سبقت إلى الاستعمال المشهور في الكلام، فما روي عن أبي عمرو وأبي عبيدة لا يلتفت إليه.
والفاحشة: المعصية، قال تعالى: {قل إنما حرَّم ربيَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأعراف: 33] وكلما وردت الفاحشة في القرآن نكرة فهي المعصية وإذا وردت معرفة فهي الزنا ونحوه.
والمبيّنة: بصيغة اسم الفاعل مبالغة في بيان كونها فاحشة ووضوحه حتى كأنها تبيّن نفسها وكذلك قرأها الجمهور.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء، أي: يبيّنها فاعلها.
والمضاعفة: تكرير شيء ذي مقدار بمثل مقداره.
والضعف: مماثل عدد ما.
وتقدم في قوله تعالى: {فآتهمْ عَذَابًا ضعْفًا من النار} في سورة الأعراف (38).
ومعنى مضاعفة العذاب: أنه يكون ضعف عذاب أمثال تلك المعصية إذا صدرت من غيرهنّ، وهو ضعف في القوة وفي المدة، وأريد: عذاب الآخرة.
وجملة: {وكان ذلك على الله يسيرًا} معترضة، وتقدم القول في نظيرها آنفًا.
والمعنى: أن الله يحقق وعيده ولا يمنعه من ذلك أنها زوجة نبيء، قال تعالى: {كانتا تحتَ عبدَيْن من عبادنا صالحيْن} إلى قوله: {فلم يُغْنيَا عنهما من الله شيئًا} [التحريم: 10].
والتعريف في {العذاب} تعريف العهد، أي: العذاب الذي جعله الله للفاحشة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينَتَهَا}.
لسائل أنْ يسأل: ما سرُّ هذه النقلة الكبيرة من الكلام عن حرب الأحزاب وحرب بني قريظة إلى هذا التوجيه لزوجاته صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: لأن مسألة الأحزاب انتهتْ بقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَديَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27] فربما طلبت زوجات الرسول أنْ يُمتّعهن وينفق عليهن، مما يفتح الله عليه من خيرات هذه البلاد، فجاءتْ هذه الآية: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجكَ} [الأحزاب: 28] لتقرر أن الإسلام ما جاء ليحقق مزيَّة لرسول الله، ولا لآل رسول الله، حتى الزكاة لا تصح لأحد من فقراءبني هاشم.
لكن مجيء الآية هكذا بصيغة الأمر: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجكَ إن كُنتُنَّ تُردْنَ} [الأحزاب: 28] دليل على حدوث شيء منهن يدلّ على تطلعهن إلى زينة الحياة ومُتَعها. وقد رُوي عن عمر- رضي الله عنه أنهن اجتمعْنَ يسألْنَ رسول الله النفقة، وأنْ يُوسّع عليهن بعد أنْ قال صلى الله عليه وسلم عن الكفار: لن يغزونا، بل نغزوهم وبعد أنْ بشَّرتهم الآيات بما سيُفتح من أرض جديدة.
وقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَميلًا} [الأحزاب: 28] يعني: ليس عندي ما تتطلَّعْن إليه من زينة الدنيا وزخرفها، ومعنى {فَتَعَالَيْنَ} [الأحزاب: 28] نقول: تعاليْن يعني: أقبلْنَ، لكنها هنا بمعنى ارتفعْنَ من العلو، ارتفعْنَ عن مناهج البشر والأرض، وارتقينَ إلى مناهج خالق البشر، وخالق الأرض؛ لأن السيادة في منهج الله، لا في مُتَع الحياة وزخرفها.
وقد ورد هذا المعنى أيضًا في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] فتعالوْا أي: ارتفعوا عن قوانين البشر وقوانين الأرض إلى قوانين السماء؛ لأنه يُشترط فيمَنْ يضع القانون ألاَّ يفيد من هذا القانون، وأن يكون مُلمًا بكل الجزئيات التي يتعرض لها القانون والبشر مهما بلغتْ قدرتهم، فإنهم يعلمون شيئًا ويجهلون آخر؛ لذلك لا ينبغي أَنْ يُقنّن لهم إلا خالقهم عز وجل.
ومعنى {أُمَتّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] أي: أعطيكُنَّ المتعة الشرعية التي تُفْرض للزوجة عند مفارقة زوجها، والتي قال الله فيها: {وَللْمُطَلَّقَات مَتَاعٌ بالمعروف حَقًّا عَلَى المتقين} [البقرة: 241].
وقوله: {وَأُسَرّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] التسريح هنا يعني الطلاق {سَرَاحًا جَميلًا} [الأحزاب: 28] ذلك يدلُّ على أن المفارقة بين الزوجين إنْ تمتْ إنما تتم بالجمال أي: اللطف والرقة والرحمة بدون بشاعة وبدون عنف؛ لأن التسريح في ذاته مفارقة مؤلمة، فلا يجمع الله عليها شدتين: شدة الطلاق، وشدة العنف والقسوة.
ولك أنْ تلحظ أن لفظ الجمال يأتي في القرآن مع الأمور الصعبة التي تحتاج شدة، واقرأ قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَميلٌ} [يوسف: 83] والصبر يكون جميلًا حين لا يصاحبه ضَجَر، أو شكوى، أو خروج عن حَدّ الاعتدال.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض على زوجاته التسريح الجميل الذي لا مشاحنةَ فيه ولا خصومةَ إنْ اخترْنَهُ بأنفسهن، وما كان رسول الله ليمسك زوجة اختارتْ عليه أمرًا آخر مهما كان.
وللعلماء كلام طويل في هذه المسألة: هل يقع الطلاق بهذا التخيير؟ قالوأ: التخيير لَوْنٌ من حب المفارقة الذي يعطي للمرأة- كما نقول مثلًا: العصْمَة في يدها- فهي إذن تختار لنفسها، فإنْ قَبلت الخيار الأول وقع الطلاق، وإن اختارت الآخر فَبها ونعمتْ، وانتهتْ المسألة.
وأمرُ الله لرسوله أن يقول لزوجاته هذا الكلام لابد أنْ يكون له رصيد من خواطر خطرتْ على زوجاته صلى الله عليه وسلم لَمَّا رأيْنَ الإسلام تُفْتح له البلاد، وتُجبى إليه الخيرات، فتطلَّعْن إلى شيء من النفقة.
وكلمة الأزواج: جمع زوج، وتُقال للرجل وللمرأة، والزوج لا يعني اثنين معًا كما يظن البعض، إنما الزوج يعني الفرد الذي معه مثله من جنس، ومثله تمامًا كلمة التوأم، فهي تعني واحد لكن معه مثله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمن كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْن} [الذاريات: 49] يعني: ذكر وأنثى، فالذكر وحده زوج، والأنثى وحدها زوج، وهذه القسمة موجودة في كل المخلوقات. وتُجمع زوج أيضًا على زوجات.
ونلحظ في الأسلوب هنا أن الحق سبحانه حين يعرض على رسوله أنْ يُخيّر زوجاته بين زينة الدنيا ونعيم الآخرة يستخدم أنْ الدالة على الشكّ، ولا يستخدم مثلًا إذَا الدالة على التحقيق، وفي هذا إشارة إلى عدم المبالغة في اتهامهن، فالأمر لا يعدو أنْ يكون خواطر جالتْ في أذهان بعض زوجاته.
وتعلمون أن سيدنا رسول الله جمع من النساء تسعًا معًا، منهن خمسٌ من قريش، وهُنَّ: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة ابنة أبي أمية، ومن غير قريش: صفية بنت حيي بن أخطب الذي ذكرنا قصته في الأحزاب، ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية- ومَنْ ذهب عند التنعيم وجد هناك بئر ميمونة، ثم زينب بنت جحش من بني أسد، هؤلاء هُنَّ أمهات المؤمنين التسعة اللائي جمعهنَّ رسولُ الله معًا.
فلما سألْنَ رسول الله النفقة كانت أجرأهُنَّ في ذلك السيدة حفصة بنت عمر، وقد حدث بينها وبين رسول الله مُشَادّة في الكلام، فقال لها: ألا تحبين أنْ أستدعي رجلًا بيننا؟ فوافقتْ، فأرسل إلى عمر، فلما جاء قال لها رسول الله: تكلَّمي أنت- يعني: اعرضي حاجتك- فقالت: بل تكلم أنت، ولا تقل إلا حقًا.
أثارت هذه الكلمة حفيظة سيدنا عمر، فهاج وقام إلى ابنته فوجأها، فحجزه رسول الله فتناولها ثانية فوجأها، ثم قال لها: إن رسول الله لا يقول إلا حقًا، ووالله لولا أنَّا في مجلسه ما تركتُك حتى تموتي، فقام رسول الله من المجلس ليفضَّ هذا النزاع، وذهب إلى حجرته، واعتكف بها، وقاطع الأمر كله مدة شهر.