فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين} المثبّطين {منكُمْ} الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم {والقآئلين لإخْوَانهمْ هَلُمَّ} تعالوا {إلَيْنَا} ودُعوا محمّدًا فلا تشهدوا معه الحرب فإنّا نخاف عليكم الهلاك.
{وَلاَ يَأْتُونَ البأس إلاَّ قَليلًا} دفعًا وتغديرًا. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمّد وأصحابه إلاّ أكلة رأس ولو كانوا لحمًا لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنّه هالك.
قال مقاتل: نزلت في المنافقين، وذلك أنَّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين، فقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنّهم إنْ قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحدًا، وإنَّا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلمَّ إلينا، فأقبل عبد الله بن أُبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا: لئن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحدًا، ما ترجون من محمّد؟ فوالله ما يريدنا بخير وما عنده خير، ما هو إلاّ أنْ يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا وأصحابنا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلاّ إيمانًا واحتسابًا.
وقال ابن زيد: هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه، وبين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا في الشواء والنبيذ والرغيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف، فقال له أخوه: هلمَّ إلى هذا فقد تبع بك وبصاحبك، والذي تحلف به لا يستقيلها محمّدٌ أبدًا، فقال: كذبت والذي تحلف به، وكان أخوه من أبيه وأُمّه، أما والله لأخبرنَّ النبي صلّى الله عليه أمرك، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية.
قوله: {أَشحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء بالخير والنفقة في سبيل الله وعند قَسم الغنيمة، وهي نصب على الحال والقطع من قوله: {وَلاَ يَأْتُونَ البأس إلاَّ قَليلًا} وصفهم الله بالجبن والبخل.
{فَإذَا جَاءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} في رءوسهم من الخوف والجبن {كالذي} أي كدوران عين الذي {يغشى عَلَيْه منَ الموت فَإذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ} عصوكم ورموكم {بأَلْسنَةٍ حدَادٍ} ذربة جمع حديد، ويقال للخطيب الفصيح اللسان الذرب اللسان، مسلق ومصلق وسلاق وصلاق وأصل السلق الضرب.
وقال قتادة: يعني بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فإنّا قد شهدنا معكم القتال فلستم بأحقّ بالغنيمة منّا، فأمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، وأمّا عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحقّ.
{أَشحَّةً عَلَى الخير} يعني الغنيمة {أولئك لَمْ يُؤْمنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلكَ عَلَى الله يَسيرًا}.
قوله: {يَحْسَبُونَ} يعني هؤلاء المنافقين {الأحزاب} يعني قريشًا وغطفان واليهود الذين تحزبوا على عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومخالفته أي اجتمعوا، والأحزاب الجماعات واحدهم حزب.
{لَمْ يَذْهَبُوا} ولم ينصرفوا عن قتالهم وقد انصرفوا منهم جماعةً وفرقًا.
{وَإن يَأْت الأحزاب} إن يرجعوا إليكم كرّةً ثانية.
{يَوَدُّوا} من الخوف والجبن {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ} خارجون إلى البادية {في الأعراب} أي معهم {يَسْأَلُونَ} قراءة العامّة بالتخفيف، وقرأ عاصم الحجدري ويعقوب في رواية رويس وزيد مشدّدة ممدودة بمعنى يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضًا.
{عَنْ أَنبَآئكُمْ} أخباركم وما آل إليه أمركم {وَلَوْ كَانُوا فيكُمْ} يعني هؤلاء المنافقين {مَّا قاتلوا إلاَّ قَليلا} رياءً من غير حسبة، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرًا.
قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُول الله} محمّد صلّى الله عليه وسلم {أُسْوَةٌ} قدوة {حَسَنَةٌ} قرأ عاصم هاهنا وفي سورة الامتحان {أُسْوَةٌ} بضمّ الألف وقرأهما الآخرون بالكسر وهما لغتان مثل عُدوة وعدوة ورُشوة ورشوة وكُسوة وكسوة. وكان يحيى بن ثابت يكسرها هنا ويضمّ الأُخرى.
قال أبو عبيد: ولا نعرف بين ما فَرَّقَ يحيى فرقًا.
قال المفسّرون: يعني {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} سنّة صالحة أنْ تنصروه وتؤازروه ولا تتخلّفوا عنه ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان هواه، كما فعل هو إذ كسرت رباعيته، وجرح فوق حاجبة وقتل عمّه حمزة، وأُوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم أيضًا كذلك واستنّوا بسنّته.
{لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثيرًا} في الرخاء والبلاء. ثمّ ذكر المؤمنين وتصديقهم بوعود الله تعالى فقال: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُوا} تسليمًا لأمر الله وتصديقًا لوعده {هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ}.
ووعد الله تعالى إيّاهم قوله: {أَمْ حَسبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجنة وَلَمَّا يَأْتكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْا من قَبْلكُم} إلى قوله: {ألا إنَّ نَصْرَ الله قَريبٌ} [البقرة: 214].
{وَمَا زَادَهُمْ} ذلك {إلاَّ إيمَانًا وَتَسْليمًا}.
قوله: {مّنَ المؤمنين رجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه} فوفوا به {فَمنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} يعني فرغ من نذره ووفى بعهده فصبر على الجهاد حتى استشهد، والنحب النذر، والنحب أيضًا الموت. قال ذو الرمّة:
عشية فر الحارثيون بعدما ** قضى نحبه من ملتقى القوم هوبر

أي مات. قال مقاتل: قضى نحبه يعني أجله، فقتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه. وقيل: قضى نحبه أي أجهده في الوفاء بعهده من قول العرب: نحبَ فلان في سيره يومه وليلته أجمع إذا مد فلم ينزل. قال جرير:
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ** عشية بسطام جرين على نحب

{وَمنْهُمْ مَّن يَنتَظرُ} الشهادة {وَمَا بَدَّلُوا} قولهم وعهدهم ونذرهم {تَبْديلًا}.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا نهر بن أسد عن سليمان بن المغيرة عن أنس قال: وأخبرنا أحمد بن عبد الله المرني، عن محمد بن عبد الله بن سليمان، عن محمد بن العلاء عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حميد عن أنس قال: غاب عمّي أنس بن النضر وبه سميت أنس عن قتال بدر فشقّ عليه لما قدم وقال: غبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والله لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالًا ليرينّ الله ما أصنع.
قال: فلمّا كان يوم أحُد انكشف المسلمون فقال: اللّهم إنّي أبرءُ إليك ممّا جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثمّ مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إنّي لأجد ريح الجنّة دون أُحد.
قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس، فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثّلوا به، وما عرفناه حتى عرفته أُخته بثناياه، ونزلت هذه الآية: {مّنَ المؤمنين رجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه فَمنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمنْهُمْ مَّن يَنتَظرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْديلًا}.
قال: فكنا نقول: نزلت فيه هذه الآية وفي أصحابه. وأخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد ابن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد الترمذي، عن صالح بن محمد، عن سليمان بن حرب، عن حزم، عن عروة عن عائشة في قوله: {منْ الْمُؤْمنينَ رجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْه فَمنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمنْهُمْ مَنْ يَنْتَظرُ} قالت: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أُصيبت يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أوجب طلحة الجنّة.
وبإسناده عن صالح عن مسلم بن خالد عن عبد الله بن أبي نجيح أنَّ طلحة بن عبيد الله يوم أحُد كان محتصنًا للنبيّ عليه السلام في الخيل وقد بُهر النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: فجاء سهم عابر متوجّهًا إلى النبيّ صلّى الله عليه فاتّقاه طلحة بيده فأصاب خنصره فقال: حَس ثمّ قال: بسم الله، فقال النبيّ عليه السلام: «لو أنَّ بها بدأت لتخطفتك الملائكة حتى تدخلك الجنّة».
وروى معاوية بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت: إنّي لفي بيتي ورسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في الفناء وبيني وبينهم الستر إذ أقبل طلحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أنْ ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة».
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد بن سليمان بن بابويه بن قهرويه قال: أخبرني أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي، عن محمد ابن عبّاد الواسطي، عن مكي بن إبراهيم، عن الصلت بن دينار، عن ابن نضر، عن جابر، عن أبي عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سرّه أنْ ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله».
{لّيَجْزيَ الله الصادقين بصدْقهمْ وَيُعَذّبَ المنافقين إن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهمْ إنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحيمًا وَرَدَّ الله الذين كَفَرُوا} من قريش وغطفان {بغَيْظهمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} نصرًا وظفرًا {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بالملائكة والريح {وَكَانَ الله قَويًّا عَزيزًا}.
قوله عزّ وجلّ: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم} يعني عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان وهم بنو قريظة، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم، وانصرف عليه السلام والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة، ووضعوا السلاح، فلمّا كان الظهر أتى جبرائيل رسول الله صلّى الله عليه وسلم معتمًا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش، وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقّة فقال: قد وضعتَ السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، قال جبرائيل: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلاّ من طلب القوم، إنّ الله يأمرك يا محمّد بالسير إلى بني قريظة وأنا عامدٌ إلى بني قريظة فانهض إليهم، فإنّي قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا، فأذَّن إنَّ من كان سامعًا مطيعًا لا يصلّين العصر إلاّ في بني قريظة.
وقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس؛ فسار علي ابن أبي طالب حتّى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم، فرجع حتّى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالطريق وقال: يارسول الله لا عليك أنْ لا تدنو من هؤلاء الأخابث.
قال: لمَ؟ أظنّك سمعت لي منهم أذى. قال: نعم يارسول الله، قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئًا، فلمّا دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولًا.
ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أنْ يصل إلى بني قريظة فقال: هل مرَّ بكم أحد؟ فقالوا: يا رسول الله لقد مرَّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك جبرائيل بُعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم، فلمّا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها يراقا، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلّوا العصر، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلّين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة، فصلّوا العصر بها بعد صلاة العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك في كتابه، ولا عنّفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وحاصرهم رسول الله خمسًا وعشرين ليلة حتّى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وقال كعب بن أسد بما كان عاهده، فلمّا أيقنوا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر اليهود إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإنّي عارض عليكم خلالًا ثلاث، فخذوا أيّها شئتم، فقالوا: وما هنّ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدّقه فوالله لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل، وأنّه لَلذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدًا ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم هذه فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالًا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلًا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئًا نخشى عليه، وإنْ نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فلا خير في العيش بعدهم.
قال: فإنْ أبيتم على هذه فإنّ الليلة ليلة السبت، وأنّه عسى أنْ يكون محمّد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا أنْ نصيب من محمّد وأصحابه غرّة، قالوا: نفسد سبتنا ونُحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ممّن قد علمت، فأصابهم من المسخ ما لم يَخْفَ عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أُمّه بليلة واحدة من الدهر حازما. قال: ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس ستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرجال ونهش إليه النساء والصبيان يبكون في جهه، فَرَقَّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أنْ ننزل على حكم محمّد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنّه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتّى يتوب الله عليَّ ممّا صنعت، وعاهد الله لا يطأ بني قريظة، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا.