فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

.[سورة الأحزاب: الآيات 18- 20]:

{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقينَ منْكُمْ وَالْقائلينَ لإخْوانهمْ هَلُمَّ إلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلاَّ قَليلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)}.
الْمُعَوّقينَ المثبطين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم المنافقون: كانوا يقولون لإخْوانهمْ من ساكني المدينة من أنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، فخلوهم وهَلُمَّ إلَيْنا أي قربوا أنفسكم إلينا. وهي لغة أهل الحجاز: يسؤون فيه بين الواحد والجماعة. وأمّا تميم فيقولون: هلمّ يا رجل، وهلموا يا رجال، وهو صوت سمى به فعل متعدّ مثل احضر وقرب قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ إلَّا قَليلًا إلا إتيانا قليلا يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا نراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطرّوا إليه، كقوله ما قاتَلُوا إلَّا قَليلًا. أَشحَّةً عَلَيْكُمْ في وقت الحرب أضناء بكم، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف يَنْظُرُونَ إلَيْكَ في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخورا ولو إذا بك، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة: نقلوا ذلك الشحّ وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير- وهو المال والغنيمة- ونسوا تلك الحالة الأولى، واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا: وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوّكم وبنا نصرتم عليه. ونصب أَشحَّةً على الحال أو على الذمّ. وقرئ: أشحة، بالرفع. وصلقوكم بالصاد. فإن قلت: هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت: لا ولكنه تعلم لمن عسى يظن أنّ الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدى عليه، فبين أنّ إيمانه ليس بإيمان، وأنّ كل عمل يوجد منه باطل. وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس، وأنها مما يذهب عند اللّه هباء منثورا.
فإن قلت: ما معنى قوله وَكانَ ذلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا وكل شيء عليه يسير؟ قلت: معناه: أن أعمالهم حقيقة بالإحباط، تدعو إليه الدواعي، ولا يصرف عنه صارف يَحْسَبُونَ أنّ الأحزاب لم ينهزموا، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط وَإنْ يَأْت الْأَحْزابُ كرّة ثانية، تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرّة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب يَسْئَلُونَ كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم وَلَوْ كانُوا فيكُمْ ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال- لم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة. وقرئ: بدّى، على فعّل جمع باد كغاز وغزّى. وفي رواية صاحب الإقليد: بدىّ، بوزن عدىّ. ويساءلون، أي: يتساءلون. ومعناه يقول بعضهم لبعض:
ما ذا سمعت؟ ما ذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول: رأيت الهلال وتراءيناه: كان عليكم أن تواسوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه، كما آساكم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب. حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه.

.[سورة الأحزاب: آية 21]:

{لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُول اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا (21)}.
فإن قلت: فما حقيقة قوله لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُول اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وقرئ: أسوة، بالضم؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه في نفسه أسوة حسنة، أي: قدوة، وهو الموتسى، أي: المقتدى به، كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد، أي: هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع. وهي المواساة بنفسه لمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل من لكم، كقوله للَّذينَ اسْتُضْعفُوا لمَنْ آمَنَ منْهُمْ يرجو اللّه واليوم الآخر: من قولك رجوت زيدا وفضله، أي: فضل زيد. أو يرجو أيام اللّه. واليوم الآخر خصوصا. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة، والمؤتسى برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: من كان كذلك.

.[سورة الأحزاب: آية 22]:

{وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إلاَّ إيمانًا وَتَسْليمًا (22)}.
وعدهم اللّه أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه في قوله أَمْ حَسبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتكُمْ مَثَلُ الَّذينَ خَلَوْا منْ قَبْلكُمْ فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه: إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا، أى:
في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء إيمانًا باللّه وبمواعيده وَتَسْليمًا لقضاياه وأقداره.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 23- 27].
{منَ الْمُؤْمنينَ رجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه فَمنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمنْهُمْ مَنْ يَنْتَظرُ وَما بَدَّلُوا تَبْديلًا (23) ليَجْزيَ اللَّهُ الصَّادقينَ بصدْقهمْ وَيُعَذّبَ الْمُنافقينَ إنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهمْ إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا بغَيْظهمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمنينَ الْقتالَ وَكانَ اللَّهُ قَويًّا عَزيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذينَ ظاهَرُوهُمْ منْ أَهْل الْكتاب منْ صَياصيهمْ وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرُّعْبَ فَريقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسرُونَ فَريقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَديارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَديرًا (27)}.
نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد اللّه، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، رضى اللّه عنهم {فَمنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ} يعنى حمزة ومصعبا وَمنْهُمْ مَنْ يَنْتَظرُ يعنى عثمان وطلحة. وفي الحديث: «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة» فإن قلت: ما قضاء النحب؟ قلت: وقع عبارة عن الموت، لأنّ كل حى لابد له من أن يموت. فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أي: نذره.
وقوله فَمنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يحتمل موته شهيدا، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فإن قلت: فما حقيقة قوله صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه؟
قلت: يقال: صدقنى أخوك وكذبني، إذا قال لك الصدق والكذب. وأمّا المثل: صدقنى سنّ بكره. فمعناه: صدقنى في سن بكره، بطرح الحار وإيصال الفعل، فلا يخلو ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه إما أن يكون بمنزلة السنّ في طرح الجار، وإمّا أن يجعل المعاهد عليه مصدوقا على المجاز، كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفى بك، وهم وافون به فقد صدقوه، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ولكان مكذوبا وَما بَدَّلُوا العهد ولا غيروه، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، ولقد ثبت طلحة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد حتى أصيبت يده، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أوجب طلحة» وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرض القلوب: جعل المنافقون، كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبهما والسعى لتحصيلهما. ويعذبهم إنْ شاءَ إذا لم يتوبوا {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهمْ} إذا تابوا {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا} الأحزاب {بغَيْظهمْ} مغيظين، كقوله: {تَنْبُتُ بالدُّهْن} {لَمْ يَنالُوا خَيْرًا} غير ظافرين، وهما حالان بتداخل أو تعاقب. ويجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمنينَ الْقتالَ} بالريح والملائكة {وَأَنْزَلَ الَّذينَ} ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب منْ صَياصيهمْ من حصونهم. والصيصية ما تحصن به، يقال لقرن الثور والظبى: صيصية، ولشوكة الديك، وهي مخلبه التي في ساقه، لأنه يتحصن بها. روى أنّ جبريل عليه السلام أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم- على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج، فقال: «ما هذا يا جبريل؟» قال: من متابعة قريش: فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن السرج، فقال: يا رسول اللّه، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن اللّه يأمرك بالمسير إلى بنى قريظة وأنا عامد إليهم، فإن اللّه داقهم دق البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة فأذن في الناس: أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلى العصر إلا في بنى قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة، لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: تنزلون على حكمى؟ فأبوا، فقال: على حكم سعد بن معاذ؟ فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال: «لقد حكمت بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة» ثم استزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا، وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وقرئ: الرعب، بسكون العين وضمها. وتأسرون، بضم السين. وروى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال: إنكم في منازلكم، وقال عمر رضى اللّه عنه:
أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: لا، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس، قال: رضينا بما صنع اللّه ورسوله {وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها} عن الحسن رضى اللّه عنه: فارس والروم.
وعن قتادة رضى اللّه عنه: كنا نحدث أنها مكة. وعن مقاتل رضى اللّه عنه: هي خيبر. وعن عكرمة:
كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. ومن بدع التفاسير: أنه أراد نساءهم.

.[سورة الأحزاب: الآيات 28- 29]:

{يا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأَزْواجكَ إنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَراحًا جَميلًا (28) وَإنْ كُنْتُنَّ تُردْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ للْمُحْسنات منْكُنَّ أَجْرًا عَظيمًا (29)}.
أردن شيئا من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت، فبدأ بعائشة رضى اللّه عنها- وكانت أحبهنّ إليه- فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت اللّه ورسوله والدار الآخرة، فرؤى الفرح في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها، فشكر لهنّ اللّه ذلك، فأنزل لا يَحلُّ لَكَ النّساءُ منْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بهنَّ منْ أَزْواجٍ. روى أنه قال لعائشة: إنى ذاكر لك أمرا، ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمرى أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت: أفى هذا أستأمر أبوىّ، فإنى أريد اللّه ورسوله والدار الآخرة. وروى أنها قالت: لا تخبر أزواجك أنى اخترتك، فقال: إنما بعثني اللّه مبلغا ولم يبعثني متعنتا. فإن قلت: ما حكم التخيير في الطلاق؟ قلت: إذا قال لها اختاري، فقالت: اخترت نفسي. أو قال: اختاري نفسك، فقالت: اخترت، لابد من ذكر النفس في قول الخير أو المخيرة- وقعت طلقة بائنة عند أبى حنيفة وأصحابه، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض، واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري رضى اللّه عنهم: أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار. وعن عائشة رضى اللّه عنها: خيرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقا. وروى: أفكان طلاقا. وعن علىّ رضى اللّه عنه. إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروى عنه أيضا أنها إن اختارت زوجها فليس بشيء. أصل تعال: أن يقوله من في المكان المرتفع، لمن في المكان المستوطئ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة. ومعنى تعالين: أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ، كما تقول: أقبل. يخاصمني، وذهب يكلمني. وقام يهددنى أُمَتّعْكُنَّ أعطكنّ متعة الطلاق. فإن قلت: المتعة في الطلاق واجبة أم لا؟ قلت: المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد، متعتها واجبة عند أبى حنيفة وأصحابه، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة وعن الزهري رضى اللّه عنه: متعتان، إحداهما: يقضى بها السلطان: من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها. والثانية. حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل، وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال: متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره. وعن سعيد بن جبير رضى اللّه عنه: المتعة حق مفروض. وعن الحسن رضى اللّه عنه: لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة: درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتار، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك، فيجب لها الأقل منهما. ولا تنقص من خمسة دراهم، لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها.
فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ: أمتعكنّ وأسرحكنّ بالرفع؟ قلت:
وجهه الاستئناف سَراحًا جَميلًا من غير ضرار طلاقا بالسنة منْكُنَّ للبيان لا للتبعيض.

.[سورة الأحزاب: الآيات 30- 31]:

{يا نساءَ النَّبيّ مَنْ يَأْت منْكُنَّ بفاحشَةٍ مُبَيّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضعْفَيْن وَكانَ ذلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا (30)}.
الفاحشة: السيئة البليغة في القبح وهي الكبيرة. والمبينة: الظاهرة فحشها، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر. وقيل هي عصيانهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونشوزهنّ، وطلبهن منه ما يشق عليه أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله وقيل: الزنا، واللّه عاصم رسوله من ذلك، كما مرّ في حديث الإفك، وإنما ضوعف عذابهنّ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهنّ وأقبح، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصى، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا على أحد منهنّ مثل ما للّه عليهن من النعمة، والجزاء يتبع الفعل، وكون الجزاء عقابا يتبع كون الفعل قبيحا، فمتى ازداد قبحا. ازداد عقابه شدّة، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم: أشدّ منه للعاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح، ولذلك فضل حدّ الأحرار على حد العبيد، حتى أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الرجم على الكافر وَكانَ ذلكَ عَلَى اللَّه يَسيرًا إيذان بأن كونهن نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئا، وكيف يغنى عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب، فكان داعيا إلى تشديد الأمر عليهنّ غير صارف عنه. قرئ: يأت، بالتاء والياء. مبينة: بفتح الياء وكسرها، من بين بمعنى تبين. يضاعف، ويضعف: على البناء للمفعول. ويضاعف، ونضعف: بالياء والنون. اهـ.