فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}.
قِيلَ فِيهِ أَنْ لَا تُلِينَ الْقَوْلَ لِلرِّجَالِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الطَّمَعَ فِيهِنَّ مِنْ أَهْلِ الرِّيبَةِ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ النِّسَاءِ فِي نَهْيِهِنَّ عَنْ إلَانَةِ الْقَوْلِ لِلرِّجَالِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الطَّمَعَ فِيهِنَّ وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى رَغْبَتِهِنَّ فِيهِمْ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْأَحْسَنَ بِالْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا بِحَيْثُ يَسْمَعُهَا الرِّجَالُ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ الْأَذَانِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} فَإِذَا كَانَتْ مَنْهِيَّةً عَنْ إسْمَاعِ صَوْتِ خَلْخَالِهَا فَكَلَامُهَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُخْشَى مِنْ قِبَلِهَا الْفِتْنَةُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قِيلَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ: أَلَا تَخْرُجِينَ كَمَا تَخْرُجُ أَخَوَاتُك؟ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لَقَدْ حَجَجْت وَاعْتَمَرْت ثُمَّ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَقَرَّ فِي بَيْتِي، فَوَاَللَّهِ لَا أَخْرُجُ فَمَا خَرَجَتْ حَتَّى أَخْرَجُوا جِنَازَتَهَا وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} كُنَّ أَهْلَ وَقَارٍ وَهُدُوءٍ وَسَكِينَةٍ، يُقَالُ: وَقَرَ فُلَانٌ فِي مَنْزِلِهِ يَقِرُ وُقُورًا إذَا هَدَأَ فِيهِ وَاطْمَأَنَّ بِهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ مَأْمُورَاتٌ بِلُزُومِ الْبُيُوتِ مَنْهِيَّاتٌ عَنْ الْخُرُوجِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} قَالَ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَتَمَشَّى بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} يَعْنِي إذَا خَرَجْتُنَّ مِنْ بُيُوتِكُنَّ قَالَ: كَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةٌ وَتَكَسُّرٌ وَتَغَنُّجٌ فَنَهَاهُنَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقِيلَ: هُوَ إظْهَارُ الْمَحَاسِنِ لِلرِّجَالِ وَقِيلَ: فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْجَاهِلِيَّةِ الثَّانِيَةِ حَالُ مَنْ عَمِلَ فِي الْإِسْلَامِ بِعَمَلِ أُولَئِكَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَانَةً لَهُنَّ، وَسَائِرُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مُرَادَاتٌ بِهَا.
وقَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْآيَةِ وَنَسَقَهَا فِي ذِكْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَزْوَاجِهِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْجَمِيعِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا}.
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا يُضَاعَفُ، بِهَتْكِ الْحُرُمَاتِ، الْعَذَابُ، كَذَلِكَ يُضَاعَفُ بِصِيَانَتِهَا الثَّوَابُ.
قَوْله تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ}.
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ} يَعْنِي فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فَإِنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ مِنْ الْآدَمِيَّاتِ فَلَسْنَ كَإِحْدَاهُنَّ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْبَشَرِ جِبِلَّةً، فَلَيْسَ مِنْهُمْ فَضِيلَةً وَمَنْزِلَةً، وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَثَرَاتِ، فَإِنَّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَتُرْفَعُ مَنْزِلَتُهُ عَلَى الْمَنَازِلِ جَدِيرٌ بِأَنْ يَرْتَفِعَ فِعْلُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَيَرْبُوَ حَالُهُ عَلَى الْأَحْوَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أَمَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ جَزْلًا، وَكَلَامُهُنَّ فَصْلًا، وَلَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ عَلَاقَةً بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّينِ الْمُطْمِعِ لِلسَّامِعِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ مَعْرُوفًا، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قِيلَ: الْمَعْرُوفُ هُوَ السِّرُّ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الْكَلَامِ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَعُودُ إلَى الشَّرْعِ بِمَا أُمِرْنَ فِيهِ بِالتَّبْلِيغِ، أَوْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي لابد لِلْبَشَرِ مِنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} يَعْنِي اُسْكُنَّ فِيهَا وَلَا تَتَحَرَّكْنَ، وَلَا تَبْرَحْنَ مِنْهَا، حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ لِأَزْوَاجِهِ هَذِهِ؛ ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصْرِ؛ إشَارَةً إلَى مَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ مِنْ لُزُومِ بَيْتِهَا، وَالِانْكِفَافِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ، إلَّا لِضَرُورَةٍ.
وَلَقَدْ دَخَلْتَ نَيِّفًا عَلَى أَلْفِ قَرْيَةٍ مِنْ بَرِيَّةٍ، فَمَا رَأَيْت نِسَاءً أَصْوَنَ عِيَالًا، وَلَا أَعَفَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ نَابُلُسَ الَّتِي رُمِيَ فِيهَا الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنَّارِ، فَإِنِّي أَقَمْت فِيهَا أَشْهُرًا، فَمَا رَأَيْت امْرَأَةً فِي طَرِيقٍ، نَهَارًا، إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إلَيْهَا حَتَّى يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ مِنْهُنَّ، فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ، وَانْقَلَبْنَ إلَى مَنَازِلِهِنَّ لَمْ تَقَعْ عَيْنِي عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى. وَسَائِرُ الْقُرَى تُرَى نِسَاؤُهَا مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَعُطْلَةٍ، مُتَفَرِّقَاتٍ فِي كُلِّ فِتْنَةٍ وَعُضْلَةٍ. وَقَدْ رَأَيْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَفَائِفَ مَا خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفِهِنَّ حَتَّى اسْتَشْهَدْنَ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ تَعَلَّقَ الرَّافِضَةُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إذْ قَالُوا: إنَّهَا خَالَفَتْ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَتْ تَقُودُ الْجُيُوشَ، وَتُبَاشِرُ الْحُرُوبَ، وَتَقْتَحِمُ مَآزِقَ الْحَرْبِ وَالضَّرْبِ، فِيمَا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا.
وَلَقَدْ حُصِرَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِرَوَاحِلِهَا فَقُرِّبَتْ، لِتَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَقِيمِي هَاهُنَا، وَرُدِّي هَؤُلَاءِ الرَّعَاعَ عَنْ عُثْمَانَ؛ فَإِنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ خَيْرٌ مِنْ حَجِّك.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ نَذَرَتْ الْحَجَّ قَبْلَ الْفِتْنَةِ، فَلَمْ تَرَ التَّخَلُّفَ عَنْ نَذْرِهَا؛ وَلَوْ خَرَجَتْ عَنْ تِلْكَ الثَّائِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابًا لَهَا.
وَأَمَّا خُرُوجُهَا إلَى حَرْبِ الْجَمَلِ فَمَا خَرَجَتْ لِحَرْبٍ، وَلَكِنْ تَعَلَّقَ النَّاسُ بِهَا، وَشَكَوْا إلَيْهَا مَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ الْفِتْنَةِ، وَتَهَارَجَ النَّاسِ، وَرَجَوْا بَرَكَتَهَا فِي الْإِصْلَاحِ، وَطَمِعُوا فِي الِاسْتِحْيَاءِ مِنْهَا إذَا وَقَفَتْ إلَى الْخَلْقِ وَظَنَّتْ هِيَ ذَلِكَ، فَخَرَجَتْ مُقْتَدِيَةً بِاَللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}.
وَبِقَوْلِهِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}. وَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ مُخَاطَبٌ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، فَلَمْ يُرِدْ اللَّهُ بِسَابِقِ قَضَائِهِ، وَنَافِذِ حُكْمِهِ، أَنْ يَقَعَ إصْلَاحٌ، وَلَكِنْ جَرَتْ مُطَاعَنَاتٌ وَجِرَاحَاتٌ، حَتَّى كَادَ يَفْنَى الْفَرِيقَانِ، فَعَمَدَ بَعْضُهُمْ إلَى الْجَمَلِ فَعَرْقَبَهُ، فَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ لِجَنْبِهِ أَدْرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ، فَاحْتَمَلَهَا إلَى الْبَصْرَةِ، وَخَرَجَتْ فِي ثَلَاثِينَ امْرَأَةٍ قَرَنَهُنَّ عَلِيٌّ بِهَا، حَتَّى أَوْصَلُوهَا إلَى الْمَدِينَةِ بَرَّةً تَقِيَّةً مُجْتَهِدَةً، مُصِيبَةً ثَابِتَةً فِيمَا تَأَوَّلَتْ، مَأْجُورَةً فِيمَا تَأَوَّلَتْ وَفَعَلَتْ؛ إذْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأَحْكَامِ مُصِيبٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ تَصْوِيبَ الصَّحَابَةِ فِي الْحُرُوبِ، وَحَمْلَ أَفْعَالِهِمْ عَلَى أَجْمَلِ تَأْوِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّبَرُّجِ.
وَقَوْلُهُ: {الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَفَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}؟ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً غَيْرَ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ هَلْ سَمِعْت بِأُولَى إلَّا لَهَا آخِرَةٌ، قَالَ: فَأْتِنَا بِمَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} جَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. فَقَالَ عُمَرُ: فَمَنْ أَمَرَ بِأَنْ نُجَاهِدَ؟ قَالَ: مَخْزُومٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ جَاهِلِيَّةً أُخْرَى. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ الْأُولَى مَا بَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا جَاهِلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهَا الَّتِي لَيْسَ لَهَا نَعْتُ غَيْرِهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ} وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْكُمُ إلَّا بِالْحَقِّ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: الْإِثْمُ.
الثَّانِي: الشِّرْكُ.
الثَّالِثُ: الشَّيْطَانُ.
الرَّابِعُ: الْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ؛ فَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ كَالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ؛ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ كَالشُّحِّ، وَالْبُخْلِ، وَالْحَسَدِ، وَقَطْعِ الرَّحِمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: {أَهْلَ الْبَيْتِ} رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، وَجَعَلَ عَلِيًّا خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلَ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ. قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِك وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إذَا خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ: الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ، إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. خَرَّجَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَوْله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: آيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: آيَاتُ اللَّهِ الْحِكْمَةُ: وَقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَآيَاتُ اللَّهِ حِكْمَتُهُ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ حِكْمَتُهُ، وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ حِكْمَتُهُ، وَالشَّرْعُ كُلُّهُ حِكْمَتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ رَسُولِهِ بِأَنْ يُخْبِرْنَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَمَا يَرَيْنَ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِهِ فِيهِنَّ، حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ إلَى النَّاسِ، فَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، وَيَقْتَدُوا بِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّينِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَتَعْلِيمِ مَا عَلِمَهُ مِنْ الدِّينِ؛ فَكَانَ إذَا قَرَأَهُ عَلَى وَاحِدٍ، أَوْ مَا اتَّفَقَ، سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، وَعَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَلَا كَانَ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى النَّاسِ فَيَقُولَ لَهُمْ: نَزَلَ كَذَا، وَكَانَ كَذَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ، وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ لَا يَعْتَدُّ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ مَا أُمِرْنَ بِالْإِعْلَامِ بِذَلِكَ، وَلَا فَرَضَ عَلَيْهِنَّ تَبْلِيغَهُ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا بِجَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ بُسْرَةَ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّهَا رَوَتْ مَا سَمِعَتْ، وَبَلَّغَتْ مَا وَعَتْ.
وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الرِّجَالَ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَحَقَّقْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا كَانَ هَاهُنَا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَمَن يَقْنُتْ مِنُكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي تُطِع الله ورسوله والقنوت الطاعة.
{وَتَعْمَلُ صَالِحًا} أي فيما بينها وبين ربها.
{نُؤْتِهَا أَجرَهَا مَرَّتِين} أي ضعفين، كما كان عذابها ضعفين.
وفيه قولان:
أحدهما: أنهما جميعًا في الآخرة.
الثاني: أن أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة.
{وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} فيه وجهان:
أحدهما: في الدنيا، لكونه واسعًا حلالًا.
الثاني: في الآخرة وهو الجنة.
{كَرِيمًا} لكرامة صاحبه، قاله قتادة.
قوله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيَّ لَسْتنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النِّسَاءِ} قال قتادة: من نساء هذه الأمة.
{إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} قال مقاتل: إنكن أحق بالتقوى من سائر النساء.
{فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} فيه ستة أوجه:
أحدها: معناه فلا ترققن بالقول.
الثاني: فلا ترخصن بالقول، قاله ابن عباس.
الثالث: فلا تُلِن القول، قاله الفراء.
الرابع: لا تتكلمن بالرفث، قاله الحسن. قال متمم:
ولستُ إذا ما أحدث الدهر نوبة ** عليه بزوّار القرائب أخضع

الخامس: هو الكلام الذي فيه ما يهوى المريب.
السادس: هو ما يدخل من كلام النساء في قلوب الرجال، قاله ابن زيد.
{فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} فيه قولان:
أحدهما: أنه شهوة الزنى والفجور، قاله عكرمة والسدي.
الثاني: أنه النفاق، قاله قتادة. وكان أكثر من تصيبه الحدود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم المنافقون.
{وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: صحيحًا، قاله الكلبي.