فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بقيت مسألة تحريم الزواج من نساء الأبناء بالتبنّي.. التي كان يلزم بها الجاهليون أنفسهم، تمكينا لهذا النسب بينهم وبين أدعيائهم، وجعله على قدم المساواة في كل شىء، مع أبناء الأصلاب.
وكان لابد للقضاء على هذه العادة من مثل عملىّ يراه المسلمون في رسول اللّه، فيقتدون به، ولا يقع في صدورهم حرج من الخروج على هذا الإلف القديم.
ومن حكمة اللّه في هذا، أن كان زيد بن حارثة متبنّى النبىّ متزوجا من زينب بنت جحش الأسدية، وهى ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد خطبها الرسول لزيد، وزوجها إياه، ولم تستطع زينب ولا أهلها مراجعة رسول اللّه في هذا الزواج، الذي كانت تراه زينب- ويراه أهلها معها- غبنا لها، إذ كانت ترى- ويرى أهلها معها- أنها أشرف من زيد بيتا، وأكرم نسبا.
ويتمّ الزواج، ويدخل زيد بزوجه.. ولكن لم يقع التوافق بينهما، إذ كانت زينب- كما عرفنا- تعيش مع زوجها بهذا الشعور المتعالي، وكان زوجها- إذ يجد منها هذا الشعور- يلقاها بما يحفظ عليه مروءته وأنفته كعربىّ، وبما يعطيه القوامة عليها كرجل، وكمسلم.. مع.
ولا شك أن هذا الزواج الذي لم يقم على التوافق من أول الأمر.. إنما هو تدبير من الحكيم العليم، وقد اصطنعه النبىّ بأمر من ربه، لحكمة ستكشف عنها الأيام فيما بعد..!.
كان لابد أن يمضى الأمر الإلهى في حلّ الزواج من زوجات الأبناء المتبنّين، بعد انتهاء الزوجية.. بأمر، أو بآخ.
وكان لابد أيضا أن يكون النبىّ في هذا هو القدوة والأسوة، حتى يأخذ المسلمون بهذا الأمر، ولا يتحرجون منه.. وبهذا يقضى على عادة التبني، وما اتصل بها، في فوريّة وحش.
وذلك لا يتم على تلك الصورة إلا إذا كان للنبىّ متبنّى.. وقد كا.
وأن يكون هذا الابن متزوجا.. وقد كان هذا أيضا..!.
ثم يبقى بعد ذلك أن يطلّق هذا الابن زوجه، حتى تحلّ للنبىّ بعد انقضاء عدتها.. وقد كان ذلك أيضا.. فطّلق زيد زوجه.. ثم لما انقضت عدّتها تزوّجها النبىّ! ولا نقف من هذا الزواج أكثر من أنه أمر أمر اللّه نبيّه به، وألزمه إيا.
فاللّه سبحانه هو الذي زوج النبىّ بأمره من مطلقة متبنّاه، كما يقول سبحانه: {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}. فهذه هي حكمة هذا الزوا.
والذي يجب أن نقف عنده، ونطيل النظر إليه، هو «الطلاق».
طلاق زينب من زوجها، أو تطليق زيد لزوج.
هل كان هذا الطلاق بأمر سماوى، تلقاه النبىّ من ربه، ثم آذن به زيدا فأطلاع فيه أمر ربه وطلق زوجه؟
هذا ما لم يكن، ولن يكون من تدبير سماوى، وفي شريعة قامت على العدل والإحسان، وعلى رفع الحرج عن الناس.. ولو كان ذلك بأمر سماوى، لكان فيه إعنات، بل وجور على حقّ إنسان لم يأت أمرا يقضى بهذا الحكم عليه، فضلا عما في ذلك من قطع لعلاقة مقدسة، بين الزوج وزوجه، كان الإسلام، وكانت شريعة الإسلام، أحرص ما يكون على توثيق الرباط القائم بين الزوجين، وعلى التماس كل الوسائل الممكنة في الناس، للحفاظ عليه، وحياطته من دواعى الوهن والانحلا.
ثم كيف يكون من حكم الشريعة، أن تجعل أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق، ثم تعود، فتأمر به، وتحمل الناس عليه حملا؟
هذا ما لم يكن، ولن يكون!.
فهل كان هذا الطلاق عن رغبة من رسول اللّه، وعن إرادة له في الزواج من زوج مولاه زيد، بعد أن رآها في حال من أحوالها، فوقعت من نفسه، كما يتخرص بذلك المتخرصون، من أهل الضلال والنفاق، ومن أهل العداوة والكيد للإسلام ورسول الإسلام؟ وكما تمضى هذه الفرية، فتقول إن زيدا حين شعر بما لزينب في نفس رسول اللّه، اصطنع هذه المخاصمة بينه وبين زوجه، كى يطلقها، إرضاء للنبىّ، ومسارعة إلى إيثاره بأحبّ شيء في يده! ومن عجب أن ينخدع كثير من المفسّرين لهذه الفرية المسمومة، ويجدون لها مساغا بهذا الظاهر الذي يلوح منها، والذي يمثّل وجها من وجوه الحبّ والإيثار لرسول اللّه في نفوس المسلمين، وتخلّيهم له عن أحب ما يحبون ويؤثرون.. فنراهم يتأولون على هذا قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} ويذهبون في تأويلهم إلى أن النبىّ- صلوات اللّه وسلامه ورحمته وبركاته عليه- إذ يقول لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} إنما يقولها ونفسه متطلعة إلى زينب، مترقبة لطلاقها.. ثم يتأوّلون قال تعالى: {وَاتَّقِ اللَّهَ} أنه خطابّ للنبىّ، يحمل إليه عتابا من ربه، ودعوة إلى تقواه، لأنه- ومعاذ اللّه- أخفى ما بقلبه من حبّ لزينب، وقال لمولاه زيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}! ولهذا جاء العتاب بعد العتاب، بل اللوم بعد اللوم في قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ}! ونسأل أولئك الذين يستقيم لهم هذا الفهم من الآية الكريمة: على أية صورة يتصورون رسول اللّه، وأمينه على رسالة السماء؟ أيجوز على رسول من رسل اللّه الدّهان والمخادعة؟ إن ذلك مما يسقط مروءة أي إنسان في الناس، فكيف برسول اللّه سيد الناس، وأكملهم كمالا، وأجمعهم جميعا لمكارم الأخلاق كلها في أعلى مستواها، وأرفع منازلها؟
مستحيل إذن استحالة مطلقة، أن يكون شيء من هذا طاف برسول اللّه، أو ألمّ به في أي حال من أحواله، أو عرض له في خطرة نفس، أو طرفة خاطر! وننظر الآن في هذا الطلاق، وكيف وقع! إن الزواج الذي تمّ بين زينب وزيد، كان- كما قلنا- من عمل النبي، بأمر من ربه.. وهو زواج قام من أول الأمر على غير توافق، أو تكاف.
والنبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- إذ قام بهذا الزواج بعلم هذا، والسماء تعلم هذا قبل أن يعلم النب.
والسؤال هنا: لما ذا إذن هذا الزواج؟ وما حكمته؟
إنه زواج، يجرى في ظاهره، وعلى مستوى النظر البشرى- على ما يجرى عليه كثير من حالات الزواج، التي تعرض لها عوارض الشقاق والخلاف، ثم الطلاق، وذلك بعد أن يتم الزواج، ويعايش الزوجان كل منهما الآخ.
أما قبل الزواج، فلم يكن أحد يدرى ما سيقع من خلاف، وطلاق، إلا رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- مما أنبأ به ربه، لأمر أراده اللّه سبحانه، ولم يقع بع.
فلما تم زواج زيد وزينب، وعاشر كل منهما صاحبه، وظهرت أعراض الخلاف بين الزوجين، وشقى كلّ منهما بصاحبه، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو الزوجين إلى إصلاح ما فسد من أمرهما، متجاهلا، الحكم المقضى به في أمر هذا الزواج، وهو الفراق الذي لابد منه، وغير ملتفت إلى القدر المقدور على هذا الزواج، كما علم من ربه.!.
إن النبي إنما يعمل هنا، على مستوى الحياة البشرية، ويعالج أمرا بين شخصين لم ينكشف لهما من حجب الغيب ما انكشف له منه، وكان من مقتضى هذا أن يدعو كلّا من الزوجين إلى المياسرة والمحاسنة.. أما ما يئول إليه أمرهما بعد هذا، فأمره إلى اللّه.. {وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} وعلى هذا المفهوم ننظر في قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ}.
ننظر في كلمات اللّه هذه، فنرى:
أولا: أن «زيدا» يوصف بأنه من الذين أنعم اللّه ورسوله عليهم.. فقد أنعم اللّه سبحانه وتعالى عليه بالإسلام، وأنعم الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بالحرية.. حين أعتقه، وهداه إلى الإسلام.
ثانيا: قول النبي، لزيد كما حكاه القرآن، وهو: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} مما يقضى به تمام الإحسان إلى زيد.. فهو موضع نعمة النبي، ورعايته، وحبه، وبهذه النعمة والرعاية والحب، يتوجه إليه بالنصح في أمر فيه صلاح حياته مع زوجه.. فضلا عن رسالة الرسول في الناس عامة من النصح والإرشاد والتوجي.
وثالثا: قال تعالى: {وَاتَّقِ اللَّهَ}. يمكن أن يكون من قول النبي لزيد معطوفا على قوله له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} أي واتق اللّه في الرابطة التي بينك وبينها.. ويمكن أن يكون خطابا للنبى من ربه، وفيه لطف بالرسول من ربه، ورفق به من هذا الإرهاق الذي يرهق به نفسه، في إصلاح أمر يعلم- مما أعلمه ربه- أنه مقضىّ فيه.. كما يقول اللّه تعالى في ختام الآية:
{وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}. فليتق النبي اللّه في نفسه وليرفق بها، ولا يحاول إصلاح أمر، لن يصلح.
ورابعا: قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}- إشارة إلى ما كان يخفيه النبي من أمر اللّه في هذا لزواج، وأنه منته إلى الفراق.. فقد أخفى النبي هذا الذي علمه من ربه، ولكن اللّه سبحانه وتعالى سيبديه في حينه، وذلك حين يقع القدر المقدور، ويتمّ الطلا.
وخامسا: قال تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ}. وإنّ الذي كان يخشاه النبي، هو ما يعقب هذا الطلاق، وهو أن يتزوج مطلقة متبناه، وما يتقوّله المنافقون ومن في قلوبهم مرض في هذا الزواج.. إنه امتحان للنبى فيما امتحن به على مسيرة الدعوة التي قام عليها، فليصبر على هذا الامتحان به وليحتمل ما يجىء إليه من أذى، في سبيل إنفاذ أمر اللّه، وإمضاء مشيئته، دون التفات إلى تخرصات المتخرصين، وشناعات المشنعين.
ولا ندع النظر في أمر «الطلاق» الذي وقع هنا، دون أن نشير إلى أنه لم يدخل على حياة زوجية كانت قائمة على أسس متينة من أول أمرها، بل إنه دخل على حياة زوجية- وهذا من تدبير السماء- كانت تحمل في كيانها دواعى الفرقة، لأمر أراده اللّه.. وفي هذا ما يشير إلى حرص الإسلام على سلامة الحياة الزوجية السليمة.. وأنه حين أراد أن يتخذ من الطلاق حكما شرعيا، عمد إلى حياة زوجية، لم يجتمع لها شمل، ولم تنعقد عليها القلوب!.
ثم جاء بعد هذا قال تعالى: {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَرًا زَوَّجْناكَها}- مشيرا إلى ما كان يخفيه النبي في نفسه، وهو أن يتم زواج النبي من مطلقة متبناه بأمر من ربه، وذلك بعد أن يكون قد عاشرها زيد معاشرة الأزواج، لا أن يكون قد عقد عليها ولم يدخل بها.. فالطلاق بعد الدخول، هو الذي يعطى الزواج صفته الكاملة.. وبهذا يكون من باب أولى زواج مطلقة المتبنى التي لم يدخل بها.
ثم يجىء قال تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}- بيانا كاشفا عن الحكمة من هذا الأمر السماوي للنبى بالزواج من مطلقة متبناه، وهو أن يدفع الحرج عن المؤمنين في التزوج من مطلقات أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا.. وذلك أنه إذا كان النبي قد فعل هذا، فلا حرج إذن على المؤمنين أن يفعلوا ما فعل، وأن يتأسوا به.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
ثم تختم الآية ب قال تعالى: {وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}. وفيه ما أشرنا إليه من قبل، من نفاذ الأمر، الذي يقضى اللّه به في خلقه، وأنه- سبحانه- لا معقب لحكمه، ولا رادّ لما قضى ب.
وأمر اللّه هنا، هو ما قضى به اللّه سبحانه من الفرقة بين زيد وزوجه، ثم زواج النبي من مطلقة زيد هذ.
وفي الحكم على الأمر بأنه مفعول، إشارة إلى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سيفعل هذا الأمر، وإن كان يجد في نفسه حرجا منه.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا}.
معظم الروايات على أن هذه الآية نزلت في شأن خِطبة زينب بنت جحش على زيد بن حارثة.
قال ابن عباس: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على فتاهُ زيدٍ بن حارثة زينبَ بنتَ جحش فاستنكفت وأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فأنزل الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} الآية، فتابعتْه ورضِيتَ لأن تزويج زينب بزيد بن حارثة كان قبل الهجرة فتكون هذه الآية نزلت بمكة ويَكون موقعها في هذه السورة التي هي مدنية إلحاقًا لها بها لمناسبة أن تكون مقدمة لذكر تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ الذي يظهر أنه وقع بعد وقعة الأحزاب وقد علم الله ذلك من قبلُ فقدر له الأحوال التي حصلت من بعد.
ووجود واو العطف في أول الجملة يقتضي أنها معطوفة على كلام نزل قبلها من سورة أخرى لم نقف على تعيينه ولا تعيين السورة التي كانت الآية فيها، وهو عطف جملة على جملة لمناسبة بينهما.
وروي عن جابر بن زيد أن سبب نزول هذه الآية: أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْط وكانت أول من هاجَرن من النساء وأنها وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد بن حارثة، بعد أن طلق زيْدٌ زينَب بنتَ جحش كما سيأتي قريبًا، فكرهت هي وأخوها ذلك وقالت: إنما أردت رسولَ الله فزوجني عبده ثم رضيت هي وأخوها بعد نزول الآية.
والمناسبة تعقيب الثناء على أهل خصال هي من طاعة الله، بإيجاب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلما أُعقب ذلك بما في الاتصاف بما هو من أمر الله مما يكسب موعوده من المغفرة والأجر، وسوّى في ذلك بين الرجال والنساء، أعقبه ببيان أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ويعتزم الأمرَ هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء كما كانا سواء في الأحكام الماضية.
وإقحام {كان} في النفي أقوى دلالة على انتفاء الحكم لأن فعل {كان} لدلالته على الكون، أي الوجود يقتضي نفيُه انتفاء الكون الخاص برمته كما تقدم غير مرة.
والمصدر المستفاد من {أن تكون لهم الخيرة} في محل رفع اسم {كان} المنفية وهي {كان} التامة.
وقضاء الأمر تبيينه والإِعلام به، قال تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} [الحجر: 66].
ومعنى {إذا قضى الله ورسوله} إذا عزم أمره ولم يجعل للمأمور خيارًا في الامتثال، فهذا الأمر هو الذي يجب على المؤمنين امتثاله احترازًا من نحو قوله للذين وجدهم يأبِرون نخلهم: «لو تركتموها لصلحت ثم قالوا تركناها فلم تصلح فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم».
ومن نحو ما تقدم في أول هذه السورة من همه بمصالحة الأحزاب على نصف ثمر المدينة ثم رجوعه عن ذلك لما استشار السعدْين، ومن نحو أمرِه يوم بدر، بالنزول بأدنى ماء من بدر فقال له الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلكَه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرْب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة».
قال: فإنَّ هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزِلَه ثم نُغَوِّرَ ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربوا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأي» فنهض بالناس.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان صائمًا، فلما غَربت الشمس قال لبلال: «انْزلْ فاجدَحْ لنا» فقال: يا رسول الله لو أمسيتَ.
ثم قال: «انزِل فاجدَح لنا» فقال: يا رسول الله لو أمسيتَ إن عليك نهارًا ثم قال: «انزل فاجدَح»، فنزل فجدح له في الثالثة فشرب.