فصل: تفسير الآيات (40- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (40- 44):

قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابنًا، وكانوا قد قالوا لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة رضى الله عنه ا: تزوج حليلة ابنه، أخبر به سبحانه على وجه هو من أعلام النبوة وأعظم دلائل الرسالة فقال: {ما كان} أي بوجه من الوجوه مطلق كون {محمد} أي على كثرة نسائه وأولاده {أبا أحد من رجالكم} لا مجازًا بالتبني ولا حقيقة بالولادة، ليثبت بذلك أن تحرم عليه زوجة الابن، ولم يقل: من بينكم، وإن لم يكن له في ذلك الوقت وهو سنة خمس وما داناها- ابن، ذكر لعلمه سبحانه أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام، ومع ما كان قبله من البنين الذين لم يبلغ أحد منهم الحلم- على جميعهم الصلاة والسلام.
ولما كان بين كونه صلى الله عليه وسلم أبًا لأحد من الرجال حقيقة وبين كونه خاتمًا منافاة قال: {ولكن} كان في علم الله غيبًا وشهادة أنه {رسول الله} الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية، أما من جهته فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم عليه تلك البنوة شيئًا من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية، وأما من جهتكم فبوجوب التعظيم والتوفير والطاعة وحرمة الأزواج، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم منه فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به، وقد بلغكم قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} ووظيفة الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر، فهو لا يدعو أحدًا من رجالكم بعد هذا ابنه.
ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافيًا لأبوه الرجال قال: {وخاتم النبيين} أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، فلا يولد بعده من يكون نبيًا، وذلك مقتض لئلا يبلغ له ولد يولد منه مبلغ الرجال، ولو قضي أن يكون بعده نبي لما كان إلا من نسله إكرامًا له لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظم شرفًا، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها أو أعظم منها، ولو صار أحد من ولده رجلًا لكان نبيًا بعد ظهور نبوته، وقد قضى الله ألا يكون بعده نبي إكرامًا له، روى أحمد وابن ماجه عن أنس وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ابنه إبراهيم: «لو عاش لكان صديقًا نبيًا»، وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب رضى الله عنه، وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى رضى الله عنه: لو قضى أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي لعاش ابنه، ولكن لا نبي بعده.
والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي بشرع جديد مطلقًا ولا يتجدد بعده أيضًا استنباء نبي مطلقًا، فقد آل الأمر إلى أن التقدير: ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه كان- مع أنه رسول الله- ختامًا للنبوة غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتمًا على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى أو كونه رسولًا وخاتمًا، صونًا لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان ذلك بشر لم يكن إلا ولدًا له، وإنما أوثرت إماتة أولاده عليه الصلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف بها إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائنًا من كان، وذلك لأن فائدة إتيان النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله، وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام فلم يبق بعد ذلك مرام «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وأما تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئًا منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قروه من يريد الله من العلماء، فيعود الاستبصار كما روي في بعض الآثار «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وأما إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام بعد تجديد المهدي رضى الله عنه لجميع ما وهن من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة ياجوج وماجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي، وما أحسن ما نقل عن حسان بن ثابت رضى الله عنه في مرثيته لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب ** بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل

رأى أنه إن عاش ساواك في العلا ** فآثر أن يبقى وحيدًا بلا مثل

وقال الغزالي رحمه الله في آخر كتابة الاقتصاد: إن الأمة فهمت من هذا اللفظ- أي لفظ هذه الآية- ومن قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم أنه أفهم عدم نبي بعده أبدًا، وعدم رسول بعده أبدًا، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص، وقال: أن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه، من أنواع الهذيان، لا يمنع الحكم بتكفيره، لأنه مكذب بهذا النص الذي أجمع الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص هذا كلامه في كتاب الاقتصاد، نقلته منه بغير واسطة ولا تقليد، فإياك أن تصغي إلى من نقل عنه غير هذا، فإنه تحريف يحاشي حجة الإسلام عنه:
وكم من عائب قولًا صحيحًا ** وآفته من الفهم السقيم

وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام غير قادح في هذا النص، فإنه من أمته صلى الله عليه وسلم المقررين لشريعته، وهو قد كان نبيًا قبله لم يستجد له شيء لم يكن، فلم يكن ذلك قادحًا في الختم وهو مثبت لشرف نبينًا صلى الله عليه وسلم، ولولا هو لما وجد، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله صلى الله عليه وسلم مثله أو أعلى منه، وقد كانت الأنبياء تأتي مقرره لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مجددة لها، فكان المقرر لشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم المتبع لملته من كان ناسخًا لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان المقام في هذا البت بأنه لا يكون له ولد يصير رجلًا مقام إحاطة العلم، كان التقدير: لأنه سبحانه أحاط علمًا بأنه على كثرة نسائه وتعدد أولاده لا يولد له ولد ذكر فيصير رجلًا {وكان الله} أي الذي له كل صفة كمال أزلًا وأبدًا {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليمًا} فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء، قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر: واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علمًا وصفة برهان جلي على ختمه إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام- انتهى.
وقد بينت في سورة النحل أن مدار مادة الحمد على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية.
ولما كان ما أثبته لنفسه سبحانه من إحاطة العلم مستلزمًا للإحاطة بأوصاف الكمال، وكان قد وعد من توكل عليه بأن يكفيه كل مهم، ودل على ذلك بقصة الأحزاب وغيرها وأمر بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم وتقدم بالوصية التامة في تعظيمه إلى أن أنهى الأمر في إجلاله، وكانت طاعة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كل وجه حتى يكون مسلوب الاختبار معه، فيكون بذلك مسلمًا لا يحمل عليها إلا طاعة الله، وكانت طاعة الله كذلك لا يحمل عليها إلا دوام ذكره، قال بعد تأكيد زواجه صلى الله عليه وسلم لزينب رضى الله عنها بأنه هو سبحانه زوجه إياها لأنه قضى أن لا بنوة بينه وبين أحد من رجال أمته توجب حرمة زوج الولد: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {اذكروا} أي تصديقًا لدعواكم ذلك {الله} الذي هو أعظم من كل شيء {ذكرًا كثيرًا} أي بأن تعقدوا له سبحانه صفات الكمال وتثنوا عليه بها بألسنتكم، فلا تنسوه في حال من الأحوال ليحملكم ذلك على تعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم حق تعظيمه، واعتقاد كماله في كل حال، وأنه لا ينطق عن الهوى، لتحوزوا مغفرة وأجرًا عظيمًا، كما تقدم الوعد به.
ولما كان ثبوت النبوة بينه وبين أحد من الرجال خارمًا لإحاطة العلم، وجب تنزيهه سبحانه عن ذلك فقال: {وسبحوه} أي عن أن يكون شيء على خلاف ما أخبر به، وعن كل صفة نقص بعد ما أثبتم له كل صفة كمال {بكرة وأصيلًا} أي في أول النهار وآخره أي دائمًا لأن هذين الوقتين إما للشغل الشاغل ابتداء أو انتهاء أو للراحة، فوجوب الذكر فيهما وجوب له في غيرهما من باب الأولى، قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًا معلومًا، تم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه تعالى لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله.
وهما أيضًا مشهودان بالملائكة ودالان على الساعة: الثاني قربها بزوال الدنيا كلها، والأول على البعث بعد الموت، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتي الصبح والعصر، لأن المواظبة عليهما- لما أشير إليه من صعوبتهما بما يعتري في وقتيهما من الشغل بالراحة وغيرها- دالة على غاية المحبة للمثول بالحضرات الربانية حاملة على المواظبة على غيرهما من الصلوات وجميع الطاعات بطريق الأولى، ويؤكد هذا الثاني تعبيره بلفظ الصلاة في تعليل ذلك بدوتم ذكره لنا سبحانه بقوله: {هو الذي يصلي عليكم} أي بصفة الرحمانية متحننًا، لأن المصلي منا يتعطف في الأركان {وملائكته} أي كلهم بالاستغفار لكم وحفظكم من كثير من المعاصي والآفات ويتردد بعضهم بينه سبحانه وبين الأنبياء بما ينزل إليهم من الذكر الحافظ من كل سوء فقد اشتركت الصلاتان في إظهار شرف المخاطبين.
ولما كان فعل الملائكة منسوبًا إليه لأنه مع كونه الخالق له الآمر به قال: {ليخرجكم} أي بذلك {من الظلمات} أي الكائنة من الجهل الموجب للضلال {إلى النور} أي الناشىء من العلم المثمر للهدى، فيخرج بعضكم بالفعل من ظلمات المعاصي المقتضية للرين على القلب إلى نور الطاعات، فتكونوا بذلك مؤمنين {وكان} أي ازلًا وأبدًا {بالمؤمنين} أي الذين صار الإيمان لهم ثابتًا خاصة {رحيمًا} أي بليغ الرحمة يتوفيقهم لفعل ما ترضاه الإلهية، فإنهم أهل خاصته فيحملهم على الإخلاص في الطاعات، فيرفع لهم الدرجات في روضات الجنات.
ولما كان أظهر الأوقات في تمرة هذا الوصف ما بعد الموت، قال تعالى مبينًا لرحمتهم: {تحيتهم يوم يلقونه} أي بالموت أو البعث {سلام} أي يقولون له ذلك، «أنت السلام ومنك السلام فجئنا ربنا بالسلام» كما يقوله المحرم المشبه لحال من هو في الحشر فيجابون بالسلام الذي فيه إظهار شرفهم ويأمنون معه من كل عطب {وأعد} أي والحال أنه أعد {لهم} أي بعد السلامة الدائمة {أجرًا كريمًا} أي غدقًا دائمًا لا كدر في شيء منه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}.
لما بين الله ما في تزوج النبي عليه السلام بزينب من الفوائد بين أنه كان خاليًا من وجوه المفاسد، وذلك لأن ما كان يتوهم من المفسدة كان منحصرًا في التزوج بزوجة الابن فإنه غير جائز فقال الله تعالى إن زيدًا لم يكن ابنًا له لا بل أحد الرجال لم يكن ابن محمد، فإن قائل النبي كان أبا أحد من الرجال لأن الرجل اسم الذكر من أولاد آدم قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالًا وَنِسَاء} [النساء: 176] والصبي داخل فيه، فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن الرجل في الاستعمال يدخل في مفهومه الكبر والبلوغ ولم يكن للنبي عليه السلام ابن كبير يقال إنه رجل والثاني: هو أنه تعالى قال: {مّن رّجَالِكُمْ} ووقت الخطاب لم يكن له ولد ذكر، ثم إنه تعالى لما نفى كونه أبًا عقبه بما يدل على ثبوت ما هو في حكم الأبوة من بعض الوجوه فقال: {ولكن رَّسُولَ الله} فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه، وفي التعظيم من طرفهم بل أقوى فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والأب ليس كذلك، ثم بين ما يفيد زيادة الشفقة من جانبه والتعظيم من جهتهم بقوله: {وَخَاتَمَ النبيين} وذلك لأن النبي الذي يكون بعده نبي إن ترك شيئًا من النصيحة والبيان يستدركه من يأتي بعده، وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم وأجدى، إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد وقوله: {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْء عَلِيمًا} يعني علمه بكل شيء دخل فيه أن لا نبي بعده فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد صلى الله عليه وسلم بتزوجه بزوجة دعيه تكميلًا للشرع وذلك من حيث إن قول النبي صلى الله عليه وسلم يفيد شرعًا لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة، ألا ترى أنه ذكر بقوله ما فهم منه حل أكل الضب ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء ولما أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه في بعض الملل لا يؤكل وكذلك الأرنب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)}.
وجه تعلق الآية بما قبلها:
هو أن السورة أصلها ومبناها على تأديب النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا أن الله تعالى بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع الله وهو التقوى وذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبي عليه السلام مع أهله وأقاربه بقوله: {يا أيها النبى قُل لأزواجك} [الأحزاب: 28] والله تعالى يأمر عباده المؤمنين بما يأمر به أنبياءه المرسلين فأرشد عباده كما أدب نبيه وبدأ بما يتعلق بجانبه من التعظيم فقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله ذِكْرًا كَثِيرًا} كما قال لنبيه: {يا أيها النبى اتق الله} [الأحزاب: 1].
ثم هاهنا لطيفة وهي أن المؤمن قد ينسى ذكر الله فأمر بدوام الذكر، أما النبي لكونه من المقربين لا ينسى ولكن قد يغتر المقرب من الملك بقربه منه فيقل خوفه فقال: {اتق الله} فإن المخلص على خطر عظيم وحسنة الأولياء سيئة الأنبياء وقوله: {ذِكْرًا كَثِيرًا} قد ذكرنا أن الله في كثير من المواضع لما ذكر وصفه بالكثرة إذ لا مانع من الذكر على ما بينا.
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} أي إذا ذكرتموه فينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء وهو المراد بالتسبيح وقيل المراد منه الصلاة وقيل للصلاة تسبيحه {بكرة وأصيلًا} إشارة إلى المداومة وذلك لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله عليه السلام «لو أن أولكم وآخركم» ولم يذكر وسطكم ففهم منه المبالغة في العموم.
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} يعني هو يصلي عليكم ويرحمكم وأنتم لا تذكرونه فذكر صلاته تحريضًا للمؤمنين على الذكر والتسبيح {لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور} يعني يهديكم برحمته والصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار فقيل بأن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معًا وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ جائز وينسب هذا القول إلى الشافعي رضي الله عنه وهو غير بعيد فإن أريد تقريبه بحيث يصير في غاية القرب نقول الرحمة والاستغفار يشتركان في العناية بحال المرحوم والمستغفر له والمراد هو القدر المشترك فتكون الدلالة تضمنية لكون العناية جزأ منهما {وكان بالمؤمنين رَحِيمًا} بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن قوله: {يُصَلّي عَلَيْكُمْ} غير مختص بالسامعين وقت الوحي.
ثم قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} لما بين الله عنايته في الأولى بين عنايته في الآخرة وذكر السلام لأنه هو الدليل على الخيرات فإن من لقي غيره وسلم عليه دل على المصافاة بينهما وإن لم يسلم دل على المنافاة وقوله: {يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي يوم القيامة وذلك لأن الإنسان في دنياه غير مقبل بكليته على الله وكيف وهو حالة نومه غافل عنه وفي أكثر أوقاته مشغول بتحصيل رزقه، وأما في الآخرة فلا شغل لأحد يلهيه عن ذكر الله فهو حقيقة اللقاء.
ثم قال تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} لو قائل قال الإعداد إنما يكون ممن لا يقدر عند الحاجة إلى الشيء عليه، وأما الله تعالى فلا حاجة ولا عجز فحيث يلقاه الله يؤتيه ما يرضى به وزيادة فما معنى الإعداد من قبل فنقول الإعداد للإكرام لا للحاجة وهذا كما أن الملك إذا قيل له فلان واصل، فإذا أراد إكرامه يهيىء له بيتًا وأنواعًا من الإكرام ولا يقول بأنه إذا وصل نفتح باب الخزانة ونؤتيه ما يرضيه فكذلك الله لكمال الإكرام أعد للذاكر أجرًا كريمًا والكريم قد ذكرناه في الرزق أي أعد له أجرًا يأتيه من غير طلبه بخلاف الدنيا فإنه يطلب الرزق ألف مرة ولا يأتيه إلا بقدر.
وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} مناسب لحالهم لأنهم لما ذكروا الله في دنياهم حصل لهم معرفة ولما سبحوه تأكدت المعرفة حيث عرفوه كما ينبغي بصفات الجلال ونعوت الكمال والله يعلم حالهم في الدنيا فأحسن إليهم بالرحمة، كما قال تعالى: {هُوَ الذي يُصَلّي عَلَيْكُمْ} وقال: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] والمتعارفان إذا التقيا وكان أحدهما شفيقًا بالآخر والآخر معظمًا له غاية التعظيم لا يتحقق بينهما إلا السلام وأنواع الإكرام. اهـ.