فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن السنة ما أخرج أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني دارًا بناء فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فانا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وصح عن جابر مرفوعًا نحو هذا، وكذا عن أبي بن كعب. وأبي سعيد الخدرس رضي الله تعالى عنهم، وللشيخ محيي الدين بن عربي قدس سره كلام في حديث اللبنة قد انتقده عليه جماعة من الأجلة فعليك بالتمسك بالكتاب والسنة والله تعالى الحافظ من الوقوع في المحنة، ونصب {رَّسُولٍ} على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه والواو عاطفة للجملة الاستدراكية على ما قبلها، وكون لكن المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردًا، وجوز أن يكون النصب بالعطف على {أَبَا أَحَدٍ} وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو {لَكِنِ} بالتشديد فنصب {رَّسُولٍ} على أنه اسم لكن والخبر محذوف تقديره ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو أي محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الزمخشري: تقديره ولكن رسول الله من عرفتموه أي لم يعش له ولد ذكر، وحذف خبر لكن وإخواتها جائز إذ دل عليه الدليل، ومما جاء في لكن قول الشاعر:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ** ولكن زنجيا عظيم المشافر

أي ولكن زنجيا عظيم المشافر أنت، وفيه بحث لا يخفى على ذي معرفة، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة بتخفيف {لَكِنِ} ورفع {رَّسُولٍ وَخَاتَمَ} أي ولكن هو رسول الله الخ كما قال الشاعر:
ولست الشاعر السفاف فيهم ** ولكن مدرة الحرب العوالي

أي ولكن أنا مدرة {وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء} أعم من أن يكون موجودًا أو معدومًا {عَلِيمًا} فيعلم سبحانه الأحكام والحكم التي بينت فيما سبق والحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين.
{يا أيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله}.
بما هو جل وعلا أهله من التعليل والتحميد والتمجيد والتقديس {ذِكْرًا كَثِيرًا} يعم أغلب الأوقات والأحوال كما قال غير واحد، وعن ابن عباس الذكر الكثير أن لا ينسى جل شأنه، وروي ذلك عن مجاهد أيضًا، وقيل: أن يذكر سبحانه بصفاته العلي وأسمائه الحسنى وينزه عما لا يليق به، وعن مقاتل هو أن يقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر على كل حال.
وعن العترة الطاهرة رضي الله تعالى عنهم من قال ذلك ثلاثين مرة فقد ذكر الله تعالى ذكرًا كثيرًا، وفي مجمع البيان عن الواحدي بسنده إلى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم فإنه من قالها كتب له بها ست خصال كتب من الذاكرين الله تعالى كثيرًا وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار وكن له غرسًا في الجنة وتحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة وينظر الله تعالى إليه ومن نظر الله تعالى إليه لم يعذبه كذا رأيته في مدونة فلا تغفل، وقال بعضهم: مرجع الكثرة العرف.
{وَسَبّحُوهُ} ونزهوه سبحانه عما لا يليق به {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أي أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر ليس لقصر التسبيح عليهما دون سائر الأوقات بل لا نافة ففضلهما على سائر الأوقات لكونهما تحضرهما ملائكة الليل والنهار وتلتقي فيهما كإفراد التسبيح من بين الأذكار مع إندراجه فيها لكونه العمدة بينها، وقيل: كلا الأمرين متوجه إليهما كقولك: صم وصل يوم الجمعة، وبتفسير الذكر الكثير بما يعم أغلب الأوقات لا تبقى حاجة إلى تعلقهما بالأول وعن ابن عباس أن المراد بالتسبيح الصلاة أي بإطلاق الجزء على الكل والتسبيح بكرة صلاة الفجر والتسبيح أصيلًا صلاة العشاء، وعن قتادة نحو ما روي عن ابن عباس إلا أنه قال: أشار بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر وهو أظهر مما روي عن الحبر.
وتعقب ما روي عنهما بأن فيه تجوزًا من غير ضرورة، وقد يقال: إن التسبيح على حقيقته لكن التسبيح بكرة بالصلاة فيها والتسبيح أصيلًا بالصلاة فيه فتأمل.
وجوز أن يكون المراد بالذكر المأمور به تكثير الطاعات والإقبال عليها فإن كل طاعة من جملة الذكر ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلًا أي الصلاة في جميع أوقاتها أو صلاة الفجر والعصر أو الفجر والعشاء لفضل الصلاة على غيرها من الطاعات البدنية، ولا يخفى بعده.
{هُوَ الذي يُصَلّى عَلَيْكُمْ}. إلخ. استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين {وَمَلَئِكَتُهُ} عطف على الضمير في {يُصَلّى} لمكان الفصل المغنى عن التأكيد بالمنصل لا على {هُوَ} والصلاة في المشهور وروي ذلك عن ابن عباس من الله تعالى رحمة ومن الملائكة استغفار ومن مؤمني الإنس والجن دعاء، ويجوز على رأي من يجوز استعمال اللفظ في معنيين أن يراد بالصلاة هنا المعنيان الأولان فيراد بها أولًا الرحمة وثانيًا الاستغفار، ومن لا يجوز كأصحابنا يقول بعموم المجاز بأن يراد يالصلاة معنى مجازي عام يكون كلا المعنيين فردًا حقيقيًا له وهو إما الاعتناء بما فيه خير المخاطبين وصلاح أمرهم فإن كلا من الرحمة والاستغفار فرد حقيقي له وهذا المجاز من الصلاة بمعنى الدعاء وهو إما استعارة لأن الاعتناء يشبه الدعاء لمقارنة كل منهما لإرادة الخير والأمر المحبوب أو مجاز مرسل لأن الدعاء مسبب عن الاعتناء وأما الترحم والانعطاف المعنوي المأخوذ من الصلاة المعروفة المشتملة على الانعطاف الصوري الذي هو الركوع والسجود، ولا ريب في أن استغفار الملائكة عليهما السلام ودعاءهم للمؤمنين ترحم عليهم، وأما أن ذلك سبب للرحمة لكونهم مجابي الدعوة كما قيل ففيه بحث، ورجح جعل المعنى العام ما ذكر بأنه أقرب لما بعد فإنه نص عليه فيه بقوله تعالى: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا} فدل على أن المراد بالصلاة الرحمة.
واعترض بأن رحم متعد وصلى قاصر فلا يحسن تفسيره به، وبأنه يستلزم جواز رحم عليه، وبأنه تعالى غاير بينهما بقوله سبحانه: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] للعطف الظاهر في المغايرة.
وأجيب بأنه ليس المراد بتفسير صلى برحم إلا بيان أن المعنى الموضوع له صلى هو الموضوع له رحم مع قطع النظر عن معنى التعدي واللزوم فإن الرديفين قد يختلفان في ذلك وهو غير ضار فزعم أن ذلك لا يحسن وأنه يلزم جواز رحم عليه ليس في محله على أنه يحسن تعدية صلى بعلي دون رحم لما في الأول من ظهور معنى التحنن والتعطف والعطف لأن الصلاة رحمة خاصة ويكفي هذا القدر من المغايرة، وقيل: إن تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد فكأن الرحمة مرادة من لفظ والاستغفار مراد من آخر فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز وليس هناك استعمال لفظ واحد حقيقة وحكمًا في معنيين وهو كما ترى، ومثله كون {ملائكته} مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما قبل عليه كأنه قيل هو الذي يصلي عليكم وملائكته يصلون عليكم فهناك لفظان حقيقة كل منهما بمعنى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يزيدك علمًا بأمر الصلاة، وسبب نزول الآية ما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر قال: لما نزلت {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى} [الأحزاب: 56] قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما أنزل الله تعالى عليك خيرًا إلا أشركنا فيه فنزلت: {هُوَ الذي يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور} أي من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، وقال الطبرسي: من الجهل بالله تعالى إلى معرفته عز وجل فإن الجهل أشبه شيء بالظلمة والمعرفة أشبه شيء بالنور؛ وقال ابن زيد: أي من الضلالة إلى الهدى، وقال مقاتل: من الكفر إلى الإيمان، وقيل: من النار إلى الجنة حكاه الماوردي، وقيل: من القبور إلى البعث حكاه أبو حيان وليس بشيء، واللام متعلقة بيصلي أي يعتني بكم هو سبحانه وملائكته ليخرجكم أو يترحم هو عز وجل وملائكته ليخرجكم بذلك من الظلمات إلى النور {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا} اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي كان سبحانه بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتهم كامل الرحمة ولذا يفعل بكم ما يفعل بالذات وبالواسطة أو كان بكم رحيمًا على أن المؤمنين مظهر وضع موضع المضمر مدحًا لهم وإشعارًا بعلة الرحمة، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام}.
بيان للأحكام الآجلة لرحمته تعالى بهم بعد بيان آثارها العاجلة من الإخراج المذكور، والتحية أن يقال: حياك الله أي جعل لك حياة وذلك إخبار ثم يجعل دعاء، ويقال حيا فلان تحية إذا قال له ذلك، وأصل هذا اللفظ من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب حياة إما لدنيا أو لآخرة.
وهو هنا مصدر مضاف إلى المفعول وقع مبتدأ و{سلام} مرادًا به لفظه خبره، والمراد ما يحييهم الله تعالى به ويقوله لهم يوم يلقونه سبحانه ويدخلون دار كرامته سلام أي هذا اللفظ.
روي أن الله تعالى يقول: سلام عليكم عبادي أنا عنكم راض فهل أنتم عني راضون فيقولون: بأجمعهم يا ربنا إنا راضون كل الرضا.
وورد أن الله تعالى يقول: السلام عليكم مرحبًا بعبادي المؤمنين الذين أرضوني في دار الدنيا باتباع أمري، وقيل: تحييهم الملائكة عليهم السلام بذلك إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ} [الرعد: 23و 24].
وقيل: تحييهم عند الخروج من القبور فيسلمون عليهم ويبشرونهم بالجنة، وقيل عند الموت.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، قيل: فعلى هذا الهاء في {يَلْقَوْنَهُ} كناية عن غير مذكور وهو ملك الموت، ولا ضرورة تدعو لذلك إذ لا مانع من أن يكون الضمير لله تعالى عليه كما هو كذلك على الأقوال الأخر جميعها.
ولقاء الله تعالى على ما أشار إليه الإمام عبارة عن الإقبال عليه تعالى بالكلية بحيث لا يعرض للشخص ما يشغله ويلهيه أو يوجب غفلته عنه عز وجل ويكون ذلك عند دخول الجنة وفيها وعند البعث وعند الموت.
وقال الراغب: ملاقاة الله تعالى عبارة عن القيامة وعن المصير إليه عز وجل، وقال الطبرسي: هي ملاقاة ثوابه تعالى وهو غير ظاهر على جميع الأقوال السابقة بل ظاهر على بعضها كما لا يخفى، وعن قتادة في الآية أنهم يوم دخولهم الجنة يحيى بعضهم بعضًا بالسلام أي سلمنا وسلمت من كل مخوف، والتحية عليه على ما قال الخفاجي مصدر مضاف للفاعل.
وفي البحر هي عليه مصدر مضاف للمحيي والمحيي لا على جهة العمل لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلًا مفعولًا ولكنه كقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين} [الأنبياء: 78] أي للحكم الذي جرى بينهم.
وكذا يقال هنا التحية الجارية بينهم هي سلام، وقول المحيي في ذلك اليوم سلام اخبار لادعاء لأنه أبلغ على ما قيل فتدبر، وأخرى الأقوال بالقبول عندي أن الله تعالى يسلم عليهما يوم يلقونه إكرامًا لهم وتعظيمًا.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} أي وهيأ عز وجل لهم ثوابًا حسنًا، والظاهر أن التهيئة واقعة قبل دخول الجنة والتحية ولذا لم تخرج الجملة مخرج ما قبلها بأن يقال وأجرهم أجر كريم أي ولهم أجر كريم، وقيل: هي بعد الدخول والتحية فالكلام بيان لآثار رحمته تعالى الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك، ولعل إيثار الجملة الفعلية على الاسمية المناسبة لما قبلها للمبالغة في الترغيب والتشويق إلى الموعود ببيان أن الأمر الذي هو المقصد الأقصى من بين سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل. اهـ.

.قال القاسمي:

{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}.
هذا دفعٌ لتعيير من جهل، فقال: تزوج محمد زوج ابنه زيد. فدفعه تعالى بأنه إنما يتصور لو كان صلّى الله عليه وسلم أبًا لزيد على الحقيقة، لكنه ليس أبًا لأحد من أصحابه، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح، وزيد واحد منهم، الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمهم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لاغير: {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ} أي: ولكن كان رسول الله مبلغًا رسالاته: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} بفتح التاء وكسرها، قراءتان؛ أي: فهذا نعته وهذه صفته، فليس هو في حكم الأب الحقيقي، وإنما ختمت النبوة به؛ لأنه شرع له من الشرائع ما ينطبق على مصالح الناس في كل زمان، وكل مكان؛ لأن القرآن الكريم لم يدع أُمًّا من أمهات المصالح إلا جلّاها، ولا مكرمة من أصول الفضائل إلا أحياها، فتمت الرسالات برسالته إلى الناس أجمعين، وظهر مصداق ذلك بخيبة كل من أدعى النبوة بعده، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي: فلا يقضي إلا بما سبق به علمه، ونفذت فيه مشيئته، واقتضته حكمته.
تنبيه:
إن في لطائف هذه القصة، وفوائدها الباهرات:
الأول- لم تختلف الروايات أنه نزلت في قصة زيد بن حارثة، وزوجه زينب بنت جحش. ورواه البخاري عن أنس في التفسير. ورواه عنه في التوحيد قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «اتق الله وأمسك عليك زوجك». وأخرجه أحمد بلفظ أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة. فجاءه زيد يشكوها إليه. فقال له: «أمسك زوجك واتق الله». فنزلت.
وقد أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السدي. فساقها سياقًا حسنًا واضحًا، ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلم بعدُ، أنها من أزواجه، فكان يستحي أن يأمره بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه ويقولوا تزوج امرأة ابنه؛ وكان قد تبنى زيدًا.
وعنده، ومن طريق علي بن زيد بن جدعان عن علي بن الحسين بن علي، قال: أعلم الله نبيه صلّى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه، وقال له: «اتق الله وأمسك عليك زوجك». قال الله تعالى: «قَدْ أَخْبَرْتُكَ أنِّي مُزَوّجْكهَا»: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37].
قال الحافظ ابن حجر في الفتح بعد نقل ما تقدم: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد. انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا أثارًا، أحببنا أن نضرب عنها صفحًا؛ لعدم صحتها، فلا نوردها. انتهى.
الثاني- قال القاضي عياض رحمه الله في الشفا في بحث أقواله صلى الله عليه وسلم الدنيوية: ولا يجوز عليه صلّى الله عليه وسلم أن يأمر أحدًا بشيء أو ينهى أحدًا عن شيء، وهو يبطن خلافه، وقد قال عليه السلام: «ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين، فكيف أن تكون له خائنة قلب؟». فإن قلت: فما معنى قوله في قصة زيد: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} الآية. فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبي عليه السلام عن هذا الظاهر، وأن يأمر زيدًا بإمساكها، وهو يحب تطليقه إياها، ذكر عن جماعة من المفسرين، وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد، قال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «أمسك عليك زوجك واتق الله» وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها.
وروى نحوه عَمْرو بن فائد عن الزهري قال: نزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش. فذلك الذي أخفى في نفسه، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله بعد هذا: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّه مَفْعُولًا} أي: لابد لك أن تتزوجها، ويوضح هذا أن الله تعالى لم يبد من أمره معها غير زواجه لها، فدل أنه الذي أخفاه عليه السلام، مما كان أعلمه به تعالى، وقوله تعالى في القصة: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} دل على أنه لم يكن عليه حرج في الأمر، ولو كان على ما قيل من وقوعها في قلبه، ومحبة طلاق زيد لها، لكان فيه أعظم الحرج. وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته، ولم يزل يراها منذ ولدت، ولا كان النساء يحتجبن منه عليه السلام، وهو زوجها لزيد، وإنما جعل الله طلاق زيد لها، وتزويج النبي صلّى الله عليه وسلم إياها، لإزالة حرمة التبني وإبطال سببه. كما قال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمًْ} وقال: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} قال ابن فورك: وليس معنى الخشية هنا الخوف، وإنما معناه الاستحياء؛ أي: يستحي منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه، وأن خشيته عليه السلام من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم: تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء، كما كان. فعتبه الله تعالى على هذا، أو نزهه عن الالتفات إليهم فيما أحلّه له، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، الآية. كذلك قوله ههنا. انتهى ملخصًا.