فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يا أيُّها النبيُّ إِنَّا أرسلناكَ شاهدًا} أي: على أُمَّتك بالبلاغ {ومبشِّرًا} بالجنة لمن صدَّقك {ونذيرًا} أي: منذِرًا بالنار لمن كذَّبك، {وداعيًا إِلى الله} أي: إِلى توحيده وطاعته {بِإِذنه} أي: بأمره، لا أنك فعلتَه من تلقاء نفسك {وسراجًا منيرًا} أي: أنت لِمَن اتَّبعك {سراجًا} أي: كالسِّراج المضيء في الظلمة يُهتدى به.
قوله تعالى: {وبَشِّر المؤمنين بأنَّ لهم من الله فضلًا كبيرًا} وهو الجنة.
قال جابر بن عبد الله: لمَّا أُنزل قوله: {إِنَّا فتحنا لك فتحًا مينًا} الآيات الفتح قال الصحابة: هنيئًا لك يا رسول الله، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {ولا تُطِع الكافرين} قد سبق في أول السورة.
قوله تعالى: {ودَعْ أذاهم} قال العلماء: معناه لا تجازهم عليه {وتوكَّلْ على الله} في كفاية شرِّهم؛ وهذا منسوخ بآية السيف. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)}.
هذه الآية فيها تأنيس للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم.
وهذه الآية تضمنت من أسمائه صلى الله عليه وسلم ستة أسماء ولنبيّنا صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدّمة.
وقد سماه الله في كتابه محمدًا وأحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول: «لِي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» وفي صحيح مسلم من حديث جُبير بن مُطْعِم: وقد سماه الله «رَأُوفًا رَحِيمًا».
وفيه أيضًا عن أبي موسى الأشعريّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمِّي لنا نفسه أسماء، فيقول: «أنا محمد وأحمد والمُقَفِّي والحاشر ونبيّ التوبة ونبيّ الرحمة» وقد تتبع القاضي أبو الفضل عِياض في كتابه المسمّى بالشِّفا ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما نقل في الكتب المتقدّمة، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفاتٍ عديدة، قد صدقت عليه صلى الله عليه وسلم مُسَمَّياتها، ووجدت فيه معانيها.
وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربيّ في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة وستين اسمًا.
وذكر صاحب وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين عن ابن عباس أن لمحمد صلى الله عليه وسلم مائة وثمانين اسمًا، من أرادها وجدها هناك.
وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا ومعاذًا، فبعثهما إلى اليمن، وقال: «اذهبا فبشِّرا ولا تُنَفِّرا، ويَسِّرَا ولا تُعَسِّرا فإنه قد أنزل عليّ..» وقرأ هذه الآية.
قوله تعالى: {شَاهِدًا} قال سعيد عن قتادة: {شاهدًا} على أمّته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم؛ ونحو ذلك.
{وَمُبَشِّرًا} معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة.
{وَنَذِيرًا} معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد.
{وَدَاعِيًا إِلَى الله} الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة.
و{بِإِذْنِهِ} هنا معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه.
{وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه.
وقيل: {وَسِرَاجًا} أي هاديًا من ظلم الضلالة؛ وأنت كالمصباح المضيء.
ووصفه بالإنارة لأن من السُّرُج ما لا يضيء، إذا قَلّ سلِيطه ودَقّت فتيلته.
وفي كلام بعضهم: ثلاثة تُضْنِي: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء.
وسئل بعضهم عن الموحشَيْن فقال: ظلام ساتر وسراج فاتر، وأسند النحاس قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدّثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن شَيبان النحوي قال حدّثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت {يا أيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا ومعاذًا فقال: «انطلقا فبشِّرا ولا تُعَسِّرَا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية: {يا أيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا من النار وَدَاعِيًا إِلَى الله قال شهادة أن لا إله إلا الله بِإِذْنِهِ بأمره وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} قال بالقرآن» وقال الزجاج: {وسِرَاجًا} أي وذا سراج مُنير؛ أي كتاب نَيّر.
وأجاز أيضًا أن يكون بمعنى: وتاليًا كتاب الله.
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين}.
الواو عاطفة جملة على جملة؛ والمعنى منقطع من الذي قبله.
أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى.
وعلى قول الزجاج: ذا سراج منير، أو وتاليًا سراجًا منيرًا، يكون معطوفًا على الكاف لا في {أَرْسَلْنَاكَ}.
قال ابن عطية: قال لنا أُبَيّ رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى؛ لأن الله عز وجل قد أمر نبيّه أن يبشّر المؤمنين بأن لهم عنده فضلًا كبيرًا؛ وقد بيّن تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الشورى: 22].
فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في حام عاساقا تفسير لها.
{وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم.
{الْكَافِرِينَ} أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعْوَر السُّلَمِيّ؛ قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك.
{وَالْمُنَافِقِينَ} عبد الله بن أُبَيّ وعبد الله بن سعد وطُعْمة بن أُبَيْرِق، حَثُّوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على إجابتهم بتعِلّة المصلحة.
{وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي دع أن تؤذيهم مجازاةً على إذايتهم إياك.
فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم؛ فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول.
ونُسخ من الآية على هذا التأويل ما يخصّ الكافرين، وناسخه آية السيف.
وفيه معنى ثانٍ: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به؛ فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل.
وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله: {وكفى بالله وَكِيلًا} وفي قوّة الكلام وعدٌ بنصر.
والوكيل: الحافظ القائم على الأمر. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يا أيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا}.
على مَن بُعثتَ إليهم تُراقبُ أحوالهم وتُشاهدُ أعمالَهم وتتحمَّلُ منهم الشَّهادةَ بما صدر عنهُم من التَّصديقِ والتَّكذيبِ وسائرِ ما هُم عليهِ من الهدى والضَّلالِ وتُؤدِّيها يومَ القيامةِ أداءً مقبُولًا فيما لهُم وما عليهم وهو حالٌ مقَّدرةٌ {وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا} تُبشر المؤُمنينَ بالجنَّةِ وتُنذرُ الكافرينَ بالنَّارِ.
{وَدَاعِيًا إِلَى الله} أي إلى الإقرارِ به وبوحدانيَّتِه وبسائرِ ما يجبُ الإيمانُ به من صفاتِه وأفعالِه {بِإِذْنِهِ} أي بتيسيرِه. أُطلق عليه مجازًا لمَا أنَّه من أسبابِه، وقُيِّدَ به الدَّعوةُ إيذانًا بأنَّها أمرٌ صعبُ المنالِ وخَطبٌ في غايةِ الإعضالِ لا يتأتَّى إلا بإمدادٍ من جنابِ قُدسِه كيفَ لا وهُو صرفٌ للوجوهِ عن القُبلِ المعبودةِ وإدخالٌ للأعناقِ في قلادةٍ غيرِ معهودةٍ {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} يُستضاءُ به في ظلماتِ الجهلِ والغَوايةِ ويُهتدى بأنوارِه إلى مناهجِ الرُّشدِ والهدايةِ {وَبَشّرِ المؤمنين} عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ ويستدعيهِ النِّظامُ كأنَّه قيل: فراقبْ أحوالَ النَّاسِ وبشِّرِ المؤمنين منهُم {بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلًا كِبِيرًا} أي على مُؤمني سائرِ الأممِ في الرُّتبةِ والشَّرفِ أو زيادةً على أجورِ أعمالِهم بطريقِ التَّفضلِ والإحسانِ.
{وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} نهيٌ عن مداراتِهم في أمرِ الدَّعوةِ، واستعمالِ لينِ الجانبِ في التبليغِ والمسامحةِ في الإنذارِ كُني عن ذلكَ بالنَّهيِ عن طاعتِهم مبالغةً في الزَّجرِ والتَّنفيرِ عن المَنهيِّ عنه بنطمِه في سلكِها وتصويرِه بصورتِها. ومَن حملَ النَّهيَ عن التَّهييجِ والإلهابِ فقَدْ أبعدَ عنِ التَّحقيقِ بمراحلَ.
{وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي لا تُبالِ بأذيَّتِهم لك بسببِ تصلبكَ في الدَّعوةِ والإنذارِ.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في ما تأتِي وما تذرُ من الشئون التي مِن جُملتها هذا الشَّأنُ فإنَّه تعالى يكفيكهُم {وكفى بالله وَكِيلًا} موكُولًا إليهِ الأمورُ في كلِّ الأحوالِ. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ لتعليلِ الحكمِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييليِّ. ولمَّا وُصف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنعوتٍ خمسةٍ قُوبل كلٌّ منها بخطابٍ يُناسبه خلاَ أنَّه لم يذكُر مقابلَ الشَّاهدِ صَريحًا وهُو الأمرُ بالمراقبةِ ثقةً بظهورِ دلالةِ مقابلِ المبشَّر عليهِ وهو الأمرُ بالتَّبشيرِ حسبما ذُكر آنِفًا وقُوبلَ النَّذيرُ بالنَّهيِ عن مُداراةِ الكُفَّارِ والمُنافقين والمُسامحةِ في إنذارِهم كما تحققَتُه، وقُوبل الدَّاعِي إلى الله بإذنِه بالأمرِ وبالتَّوكلِ عليهِ منْ حيثُ إنَّه عبارةٌ عن الاستمدادِ منه تعالى والاستعانةِ به، وقُوبل السِّراجُ المنيرُ بالاكتفاءِ به تعالى فإنَّ من أيَّده الله تعالىَ بالقُوَّة القُدسيةِ ورشَّحه للنُّبوةِ وجعلَه بُرهانًا نيِّرًا يهدي الخلقَ من ظلماتِ الغَيِّ إلى نورِ الرِّشادِ حقيقٌ بأنْ يَكتفي بهِ عن كلِّ ما سواهُ. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أيها النبى إِنَّا أرسلناك شاهدا} على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد اعمالهم وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولًا فيما لهم وما عليهم، وهو حال مقدرة وإن اعتبر الإرسال أمرًا ممتدًا لاعتبار التحمل والآداء في الشهادة، والإرسال بذلك الاعتبار وإن قارن التحمل إلا أنه غير مقارن للإداء وإن اعتبر الامتداد.
وقيل: بإطلاق الشهادة على التحمل فقط تكون الحال مقارنة والأحوال المذكورة بعد على اعتبار الامتداد مقارنة، ولك أن لا تعتبره أصلًا فتكون الأحوال كلها مقدرة، ثم أن تحمل الشهادة على من عاصره صلى الله عليه وسلم واطلع على عمله أمر ظاهر، وأما تحملها على من بعده باعيانهم فإن كان مرادًا أيضًا ففيه خفاء لأن ظاهر الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام لا يعرف أعمال من بعده بأعيانهم، وروي أبو بكر وأنس وحذيفة وسمرة وأبو الدرداء عنه صلى الله عليه وسلم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
نعم قد يقال: إنه عليه الصلاة والسلام يعلم بطاعات ومعاص تقع بعده من أمته لكن لا يعلم أعيان الطائعين والعاصين، وبهذا يجمع بين الحديث المذكور وحديث عرض الأعمال عليه صلى الله عليه وسلم كل أسبوع أو أكثر أو أقل، وقيل: يجمع بانه عليه الصلاة والسلام يعلم الأعيان أيضًا إلا أنه نسى فقال: أصيحابي، ولتعظيم قبح ما أحدثوا قيل له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وقيل: يعرض ما عدا الكفر وهو كما ترى، وأما زعم أن التحمل على من بعده إلى يوم القيامة لما أنه صلى الله عليه وسلم حي بروحه وجسده يسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت فمبني على ما علمت حاله، ولعل في هذين الخبرين ما يأباه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار بعض السادة الصوفية إلى أن الله تعالى قد أطلعه صلى الله عليه وسلم على أعمال العباد فنظر إليها ولذلك أطلق عليه عليه الصلاة والسلام شاهد، قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره العزيز في مثنويه:
در نظر بودش مقامات العباد ** زان سبب نامش خدا شاهد نهاد

فتأمل ولا تغفل، وقيل: المراد شاهدًا على جميع الأمم يوم القيامة بأن أنبيائهم قد بلغوهم الرسالة ودعوهم إلى الله تعالى، وشهادته بذلك لما علمه من كتابه المجيد، وقيل: المراد شاهدًا بأن لا إله إلا الله {وَمُبَشّرًا} تبشر الطائعين بالجنة {وَنَذِيرًا} تنذر الكافرين والعاصين بالنار، ولعموم الإنذار وخصوص التبشير قيل: مبشرًا ونذيرًا على صيغة المبالغة دون ومنذرًا مع أن ظاهر عطفه على {مُبَشّرًا} يقتضي ذلك وقدم التبشير لشرف المبشرين ولأنه المقصود الأصلي إذ هو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وكأنه لهذا جبر ما فاته من المبالغة بقوله تعالى: {وَبَشّرِ المؤمنين} [الأحزاب: 47].
{وَدَاعِيًا إِلَى الله} أي إلى الإقرار به سبحانه وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من صفاته وأفعاله عز وجل، ولعل هذا هو مراد ابن عباس وقتادة من قولهما أي شهادة أن لا إله إلا الله {بِإِذْنِهِ} أي بتسهيله وتيسيره تعالى، وأطلق الاذن على التسهيل مجازًا لما أنه من أسبابه لاسيما الإذن من الله عز وجل ولم يحمل على حقيقته وإن صح هنا أن يأذن الله تعالى شأنه له عليه الصلاة والسلام حقيقة في الدعوة لأنه قد فهم من قوله سبحانه: إنا أرسلناك داعيًا أنه صلى الله عليه وسلم مأذون له في الدعوة، ومما ذكر يعلم أن {بِإِذْنِهِ} من متعلقات داعيًا، وقيدت الدعوة بذلك إيذانًا بأنها أمر صعب المنال وخطب في غاية الأعضال لا يتأتى إلا بإمداد من جناب قدمه كيف لا وهو صرف للوجوه عن القبل المعبودة وادخال للأَعناق في قلادة غير معهودة، وجوز رجوع القيد للجميع والأول أظهر {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} بستضيء به الضالون في ظلمات الجهل والغواية ويقتبس من نوره أنوار المهتدين إلى مناهج الرشد والهداية، وهو تشبيه إما مركب عقلي أو تمثيلي منتزع من عدة أمور أو مفرق، وبولغ في الوصف بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته.
وقال الزجاج: هو معطوف على شاهدًا بتقدير مضاف أي ذا سراح منير، وقال الفراء: إن شئت كان نصبًا على معنى وتاليا سراجًا منيرًا، وعليهما السراح المنير القرآن، وإذا فسر بذلك احتمل على ما قيل أن يعطف على كاف {أرسلناك} على معنى أرسلناك والقرآن إما على سبيل التبعية وإما من باب متقلدًا سيفًا ورمحًا، وقيل: إنه على تقدير تاليًا سراجًا يجوز هذا العطف أي إنا أرسلناك وتاليًا سراجًا كقوله تعالى: {يَتْلُو صَفْحًا مُّطَهَّرَةٍ} [البينة: 2] على أنه الجامع بين الآمرين على نحو: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء} [الأنبياء: 8 4] أي أرسلنا بإرسالك تاليًا.
وجوز أن يراد وجعلناك تاليًا، وقيل: يجوز أن يراد بذا سراج القرآن وحينئذ يكون التقدير إنا أرسلناك وأنزلنا عليك ذا سراح.
وتعقب بأن جعل القرآن ذا سراج تعسف، والحق أن كل ما قيل كذلك.
{وَبَشّرِ المؤمنين} عطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل: فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين.
وجوز عطفه على الخبر السابق عطف القصة على القصة، وقيل: هو معطوف عليه ويجعل في معنى الأمر لأنه في معنى ادعهم شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا الخ وبشر المؤمنين منهم {بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلًا كِبِيرًا} أي عطاء جزيلًا وهو كما روي عن الحسن وقتادة الجنة وما أوتوا فيها ويؤيده قوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات في روضات الجنات لَهُمْ مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الشورى: 22] وقيل: المعنى فضلًا على سائر الأمم في الرتبة والشرف أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضيل والإحسان.
أخرج ابن جرير وابن عكرمة عن الحسن قال: لما نزل {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] قالوا: يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: {وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلًا كِبِيرًا}.
{وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} نهى عن مداراتهم في أمر الدعوة ولين الجانب في التبليغ والمسامحة في الإنذاء كني عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في النهي والتنفير عن المنهى عنه بنظمها في سلكها وتصويره بصورتها، وحمل غير واحد النهي على التهييج والإلهاب من حيث أنه صلى الله عليه وسلم لم يطعهم حتى ينهى، وجعله بعضهم من باب إياك أعني واسمعي يا جارة فلا تغفل.
{وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم وأصبر على ما ينالك منهم قاله قتادة فأذاهم مصدر مضاف للفاعل، وقال أبو حيان: الظاهر أنه مصدر مضاف للمفعول لما نهي صلى الله عليه وسلم عن طاعتهم أمر بترك إيذائهم وعقوبتهم ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف وروي نحوه عن مجاهد والكلبي والأولى أولى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في كل ما تأتي وتذر من الشئون التي من جملتها هذا الشأن فإنه عز وجل يكفيهم {وكفى بالله وَكِيلًا} موكولًا إليه الأمور في كل الأحوال، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحكم وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي ولما وصف: صلى الله عليه وسلم بنعوت خمسة قوبل كل واحد منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر ما قابل الشاهد صريحًا وهو الأمر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة المبشر عليه وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر آنفًا وقابل النذير بالنهي عن مداراة الكافرين والمنافقين والمسامحة في إنذارهم وقوبل الداعي بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث أنه عبارة عن الاستمداد منه تعالى والاستعانة به عز وجل وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة وجعله برهانًا نيرًا يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد حقيق بأن يكتفي به تعالى عمن سواه، وجعل الزمخشري مقابل الشاهد {وبشر المؤمنين} [الأحزاب: 47] ومقابل الاعراض عن الكافرين والمنافقين المبشر أعني المؤمنين وتكلف في ذلك.
وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه: نظير هذه الآية ما روى البخاري: والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال: والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للمؤمنين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء ويفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفا، وروي الدارمي نحوه عن عبد الله بن سلام فقوله: حرزًا للمؤمنين مقابل لقوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 6 4] فإن دعوته صلى الله عليه وسلم إنما حصلت فائدتها فيمن وفقه الله تعالى: بتيسيره وتسهيله فلذلك أمنوا من مكاره الدنيا وشدائد الآخرة فكان صلوات الله تعالى وسلامه عليه بهذا الاعتبار حرزًا لهم، وقوله سميتك المتوكل الخ مقابل لقوله: {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 6 4] فعلم أن قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلًا} مناسب لقوله تعالى: {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} فإن السراج مضيء في نفسه ومنور لغيره فبكونه متوكلًا على الله تعالى يكون كاملًا في نفسه فهو مناسب بقوله: أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل إلى قوله: يعفو ويصفح وكونه منيرًا يفيض الله تعالى عليه يكون مكملًا لغيره وهو مناسب لقوله: حتى يقيم به الملة العوجاء الخ ثم قال: ويمكن أن ينزل المراتب على لسان أهل العرفان فقوله تعالى: {إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 5 4] هو مقام الشريعة ودعوة الناس إلى الإيمان وترك الكفرة ونتيجة الأعراض عما سوى الله تعالى والأخذ في السير والسلوك والالتجاء إلى حريم لطفه تعالى والتوكل عليه عز وجل وقوله، سبحانه: {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} هو مقام الحقيقة ونتيجته فناء السالك وقيامه بقيوميته تعالى. اهـ.
ولا يخفى تكلف ما قرره في الحديث والله تعالى أعلم بمراده. اهـ.