فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: الْهِبَةُ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ هِبَتُهُ إيَّاهَا لَيْسَتْ عَلَى نِكَاحٍ، وَإِنَّمَا وَهَبَهَا لَهُ لِيُحْصِنَهَا أَوْ لَيَكْفِيَهَا، فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ.
وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَخْصُوصًا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ سَوَاءً، وَإِنَّمَا خُصُوصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي جَوَازِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ؛ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ وَالْأُصُولِ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فَلَمَّا أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَالِصًا لَهُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ إضَافَةِ لَفْظِ الْهِبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ اللَّفْظَ لَمَا شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ وَخَالِصًا لَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ حَتَّى يُسَاوِيَهُ فِيهِ؛ إذْ كَانَتْ مُسَاوَاتُهُمَا فِي الشَّرِكَةِ تُزِيلُ مَعْنَى الْخُلُوصِ وَالتَّخْصِيصِ، فَلَمَّا أَضَافَ لَفْظَ الْهِبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فَأَجَازَ الْعَقْدَ مِنْهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ عَلِمْنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ لَمْ يَقَعْ فِي اللَّفْظِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْمَهْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ شَارَكَهُ فِي جَوَازِ تَمْلِيكِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ خُلُوصَهَا لَهُ، فَكَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْعَقْدِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهَا خَالِصَةٌ لَهُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخُلُوصُ فِيمَا هُوَ لَهُ، وَإِسْقَاطُ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ فِي الْعَقْدِ لَيْسَ هُوَ لَهَا وَلَكِنَّهُ عَلَيْهَا، فَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا جُعِلَ لَهُ خَالِصًا لَمْ تُشْرِكْهُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَلَا غَيْرَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى: {إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} فَسَمَّى الْعَقْدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ نِكَاحًا، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِكُلِّ أَحَدٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ}.
وَأَيْضًا لَمَّا جَازَ هَذَا الْعَقْدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَنَا فِعْلُ مِثْلِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِاللَّفْظِ دُونَ أُمَّتِهِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَعْنَى الْخُلُوصِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ إسْقَاطِ الْمَهْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَمَا عَدَاهُ فَغَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى حُكْمِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُصُوصِيَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي الصَّدَاقِ مَا حَدَّثَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهَا كَانَتْ تُعَيِّرُ النِّسَاءَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: أَلَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَعْرِضَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك}؛ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي أَرَى رَبَّك يُسَارِعُ فِي هَوَاك».
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَا حُدِّثْنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْت لِأَهَبَ نَفْسِي لَك فَنَظَرَ إلَيْهَا فَصَعَّدَ الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ تَكُ لَك بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إلَى قَوْلِهِ: فَقَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ».
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَقَدَ لَهُ النِّكَاحَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ، وَالْهِبَةُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ بِالسُّنَّةِ ثَبَتَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ زَوَّجْتُك بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ.
قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ مَرَّةً التَّزْوِيجَ ثُمَّ ذَكَرَ لَفْظَ التَّمْلِيكِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِهِمَا.
وَأَيْضًا لَمَّا أَشْبَهَ عَقْدُ النِّكَاحِ عُقُودَ التَّمْلِيكَاتِ فِي إطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَقْتِ وَكَانَ التَّوْقِيتُ يُفْسِدُهُ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَالْهِبَةِ كَجَوَازِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَمْلُوكَةِ؛ وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ سَائِرِ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ.
وَلَا يَجُوزُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا آخَرَ يَمْنَعُ جَوَازَهُ وَهُوَ الْمُتْعَةُ الَّتِي حَرَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى الْمُتْعَةِ إبَاحَةُ التَّمَتُّعِ بِهَا، فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ الْإِبَاحَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتْعَةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ لِشَبَهِهِ بِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَعِكْرِمَةَ: أَنَّهَا مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ: هِيَ أُمُّ شَرِيكٍ الدوسية.
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَقِيلَ: إنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ.
قَوْله تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} قَالَ قَتَادَةُ: «فَرَضَ أَنْ لَا يَنْكِحَ امْرَأَةً إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَصَدَاقٍ، وَلَا يَنْكِحُ الرَّجُلُ إلَّا أَرْبَعًا» وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَرْبَعٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَوْلُهُ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يَعْنِي مَا أَبَاحَ لَهُمْ بِمَلْكِ الْيَمِينِ كَمَا أَبَاحَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ} يَرْجِعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى قَوْلِهِ: {إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك} وَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ فِيمَا أَبَاحَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ الضِّيقُ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِتَوْسِعَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَبَاحَهُ لَهُ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَطْلَقَهُ لَهُمْ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهُوَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِذَا دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ إجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} إلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} وَهِيَ الرَّجْعَةُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدُّخُولُ بِالْمَرْأَةِ وَعَدَمُ الدُّخُولِ بِهَا إنَّمَا يُعْرَفُ مُشَاهَدَةً بِإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ عَلَى خَلْوَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دُخُولٌ وَقَالَتْ الزَّوْجَةُ: وَطِئَنِي، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، حَلَفَ وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ، وَسَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ.
وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: وَطِئْتهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كُلُّهُ، وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ.
وَإِنْ كَانَ دُخُولٌ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: لَمْ يَطَأْنِي لَمْ تُصَدَّقْ فِي الْعِدَّةِ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْمَهْرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْخَلْوَةِ، هَلْ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ؟ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
فَإِنْ قَالَ: وَطِئْتهَا، وَأَنْكَرَتْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَأُخِذَ مِنْهُ الصَّدَاقُ، وَوَقَفَ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يَطُولَ الْمَدَى، فَيُرَدُّ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ بِخِلَافِهِ وَأَدِلَّتِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَمَتِّعُوهُنَّ} تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَفِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِفُرُوعِهِ.
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك}.
فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَذَرْت إلَيْهِ، فَعَذَرَنِي، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ، كُنْت مِنْ الطُّلَقَاءِ قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ السُّدِّيِّ.
قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ يُحْتَجُّ فِي مَوَاضِعِهِ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَحْلَلْنَا لَك} وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْلَالِ وَالتَّحْرِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَزْوَاجَك} وَالنِّكَاحُ وَالزَّوْجِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ هَلْ هُنَّ كَالسَّرَائِرِ عِنْدَنَا، أَوْ حُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَلَّقَةِ؟ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي قَوْلِهِ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُنَّ حُكْمَ الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كُلُّ زَوْجَةٍ أَمْ مَنْ تَحْتَهُ مِنْهُنَّ؟ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: قِيلَ: إنَّ الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ أَيْ كُلَّ زَوْجَةٍ آتَيْتهَا مَهْرَهَا، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ عُمُومًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ.
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك الْكَائِنَاتِ عِنْدَك، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {آتَيْت} خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِظَاهِرِهِ، وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ الْمَاضِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إلَّا بِشُرُوطٍ لَيْسَتْ هَاهُنَا، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا، وَلَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ النِّسَاءِ نِكَاحَهُ، فَذَكَرْنَا عِدَّتَهُنَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا هَاهُنَا وَفِي غَيْرِهِ؛ وَهُنَّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، فَهَؤُلَاءِ سِتُّ قُرَشِيَّاتٍ.
وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْعَامِرِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ أَسَدُ خُزَيْمَةَ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْهَارُونِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَسَائِرُهُنَّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَذْكُورَاتٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَحَلَّ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَزْوَاجَ اللَّاتِي كُنَّ مَعَهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَأَمَّا إحْلَالُ غَيْرِهِنَّ فَلَا؛ لِقَوْلِهِ: {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ نَصٌّ فِي إحْلَالِ غَيْرِهِنَّ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ، وَقَوْلُهُ: {لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ} يَعْنِي اللَّوَاتِي تَزَوَّجْت بِصَدَاقٍ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهُنَّ مَنْ ذَكَرَ لَهَا صَدَاقًا، وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَ ذَكَرَ لَهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ، كَزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نِكَاحَهَا مِنْ السَّمَاءِ، وَكَانَ فَرْضُ الصَّدَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا، وَمِنْهُنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا وَحَلَّتْ لَهُ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك} يَعْنِي السَّرَارِيَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّرَارِي لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ بِغَيْرِ عَدَدٍ، وَأَحَلَّ الْأَزْوَاجَ لِنَبِيِّهِ مُطْلَقًا، وَأَحَلَّهُنَّ لِلْخَلْقِ بِعَدَدٍ؛ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي أَحَادِيثِهِمْ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ امْرَأَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَثُمِائَةِ حُرَّةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، وَالْحَقُّ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً كُلُّ امْرَأَةٍ تَلِدُ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ».
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك} وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَيْءُ الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَطَأُ مِنْ مَلْكِ يَمِينِهِ، بِأَشْرَفِ وُجُوهِ الْكَسْبِ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الْمِلْكِ، وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، لَا مِنْ الصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ.
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي».
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك} الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك ذَلِكَ زَائِدًا إلَى مَا عِنْدَك مِنْ الْأَزْوَاجِ اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ.
فَأَمَّا مَنْ عَدَاهُنَّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ فَلَا ذِكْرَ لِإِحْلَالِهِنَّ هَاهُنَا؛ بَلْ هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ هَذَا؛ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي عِنْدَك؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحْلَلْنَا لَك كُلَّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجْت وَآتَيْت أَجْرَهَا لِمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا تَقَدَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا كَرَّرَهُ لِأَجْلِ شَرْطِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَصِحُّ هَذَا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْهِجْرَةِ لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتُمْ لَكَانَ شَرْطًا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا.
فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ شَرْطًا فِي الْقَرَابَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ وَلَا يَكُونُ شَرْطًا فِي سَائِرِ النِّسَاءِ، فَيَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فَهَذَا كَلَامٌ رَكِيكٌ مِنْ قَائِلِهِ بَيِّنٌ خَطَؤُهُ لِمُتَأَمِّلِهِ، حَسْبَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، مِنْ أَنَّ الْهِجْرَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي كُلِّ زَوْجَةٍ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقَرَابَةِ فَائِدَةٌ بِحَالٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْكِحَ مِنْ بَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك إلَّا مَنْ أَسْلَمَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ».
الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَك مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}.
وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَكْمُلْ، وَمَنْ لَمْ يَكْمُلْ لَمْ يَصْلُحْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَمُلَ وَشَرُفَ وَعَظُمَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَتْ بِعَامَّةٍ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تَخْتَصُّ بِهِ.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي أُمِّ هَانِئٍ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هَاجَرَتْ، فَمُنِعَ مِنْهَا لِنَقْصِهَا بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {هَاجَرْنَ} خَرَجْنَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِيمَانِ، وَالْأَسْمَاءُ إنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهَا، وَالْهِجْرَةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ، أَوْ تَخْتَصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِمَنْ ادَّعَى غَيْرَهَا.