فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: قِيلَ: هُوَ خُلُوصُ النِّكَاحِ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا.
وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا: إنَّ نِكَاحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابد فِيهِ مِنْ الْوَلِيِّ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ لِعَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِهِ، حِينَ زَوَّجَ أُمَّهُ: «قُمْ يَا غُلَامُ فَزَوِّجْ أُمَّك».
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَوْهُوبَةِ: وَهَبْت نَفْسِي لَك لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ، ولابد بَعْدَهُ مِنْ عَقْدٍ مَعَ الْوَلِيِّ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِهِ وَصِفَتِهِ أَمْ لَا؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَا ذِكْرَ لِلْآيَةِ فِيهَا.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ خُلُوُّ النِّكَاحِ مِنْ الصَّدَاقِ، وَلَهُ جَاءَ الْبَيَانُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْخُلُوصُ الْمَخْصُوصُ بِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا، فَذَكَرَهُ فِي جَنْبَتِهِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ الْمَخْصُوصِ بِهَذَا الْعَقْدِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ وَهَبَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، فَإِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، إلَّا فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْهِبَةِ، وَهُوَ سُقُوطُ الْعِوَضِ وَهُوَ الصَّدَاقُ.
الرَّابِعُ: إنَّا لَا نَقُولُ: إنَّ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك، وَأَحْلَلْنَا لَك الْمَرْأَةَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا خَالِصَةً، فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: {خَالِصَةً} حَالًا مِنْ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ ذِكْرُ الْهِبَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ الْمَرْأَةُ وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ، لَكَانَ إخْلَالًا مِنْ الْقَوْلِ، وَعُدُولًا عَنْ الْمَقْصُودِ فِي اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَرَبِيَّةً، وَلَا مَعْنًى.
أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: أُحَدِّثُك بِالْحَدِيثِ الرُّبَاعِيِّ خَالِصًا لَك دُونَ أَصْحَابِك لَمَا كَانَ رُجُوعُ الْحَالِ إلَّا إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ؛ هَذَا عَلَى نِظَامِ التَّقْدِيرِ، فَلَوْ قُلْت عَلَى لَفْظِ أُحَدِّثُك بِحَدِيثٍ إنْ وَجَدْته بِأَرْبَعِ رِوَايَاتٍ خَالِصًا ذَلِكَ دُونَ أَصْحَابِك لَرَجَعَتْ الْحَالُ إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ أَيْضًا، دُونَ الصِّفَةِ؛ وَهَذَا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا الْمُتَحَقِّقُونَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَمَا أَرَى مَنْ عَزَا إلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {خَالِصَةً} يَرْجِعُ إلَى النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إلَّا قَدْ وَهَمَ، لِأَجْلِ مَكَانَتِهِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ.
وَالنِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا، مَعْرُوفٌ بِدَلِيلِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فَائِدَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دُخُولٌ؛ لِأَنَّ تَصْرِيفَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ عِلْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَكِتَابِ الْأُصُولِ.
وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَهِيَ قَوْلُهُ: مَا فَرَضْنَا وَبَيَّنَّا مَعْنَى الْفَرْضِ، وَالْقَدْرُ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ عِلْمَهُ سَابِقٌ بِكُلِّ مَا حَكَمَ بِهِ، وَقَرَّرَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ فِي النِّكَاحِ وَأَعْدَادِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَشُرُوطِهِ، بِخِلَافِهِ، فَهُوَ حُكْمٌ سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ، وَقَضَاءٌ حَقَّ بِهِ الْقَوْلُ لِلنَّبِيِّ فِي تَشْرِيعِهِ وَلِلْمُنْبَأِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ بِتَكْلِيفِهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ} أَيْ ضِيقٌ فِي أَمْرٍ أَنْتَ فِيهِ مُحْتَاجٌ إلَى السَّعَةِ، كَمَا أَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ شَرْطَ السَّعَةِ عَلَيْهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى بَيَانًا شَافِيًا.
وَالْمِقْدَارُ الَّذِي يَنْتَظِمُ بِهِ الْكَلَامُ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْ النَّاسَ بِذُنُوبِهِمْ، بَلْ بِقَوْلِهِمْ، وَرَحِمَهُمْ وَشَرَّفَ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، فَجَعَلَهُمْ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّونَ، إذْ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ بَلْ زَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَعَمَّهُمْ بِرِفْقِهِ وَلُطْفِهِ، وَلَوْ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَعْطَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فِيهِمْ، لَمَا وَجَبَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ، وَلَا غُفِرَ لِلْخَلْقِ ذَنْبٌ؛ وَلَكِنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْكُلِّ، وَقَدَّمَ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَعْطَى كُلًّا عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية.
أجمع أهل العلم أن الطلاق إن كان قبل المسيس والخلوة فلا عدة فيه وليس للمطلقة من المهر إلا نصفه إن كان لها مهر سُمِّي ولا رجعة للمطلق ولكنه كأحد الخطاب إن كان طلاقه دون الثلاث. وإن كان ثلاثًا حرمت عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. وقال عطاء وجابر بن زيد إذا طلق البكر ثلاثًا فهي طلقة واحدة وهو خلاف قول الجمهور.
وإن كان الطلاق بعد الخلوة وقبل المسيس ففي وجوب العدة وكمال المهر وثبوت الرجعة قولان:
أحدهما: وهو قول أبي حنيفة أن العدة قد وجبت والمهر قد كمل والرجعة قد ثبتت وأقام الخلوة مقام المسيس إلا أن يكونا في الخلوة مُحرمين أو صائمين أو أحدهما.
والقول الثاني: وهو مذهب الشافعي وهو المعول عليه من أقاويله إنه لا عدة ولا رجعة ولا تستحق من المهر إلا نصفه.
{فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} معنى فمتعوهن أي متعة الطلاق بدلًا من الصداق لأن المطلقة قبل الدخول إذا كان لها صداق مسمى فليس لها متعة وإن لم يكن لها صداق مسمى فلها بدل نصف المسمى متعة تقول مقام المسمى تختلف باختلاف الإعسار والإيسار وقدرها حماد بنصف مهر المثل وقال أبو عبد الله الزيدي أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن.
فأما المدخول بها ففي استحقاقها المتعة من الصداق قولان:
أحدهما ليس لها مع استكمال الصداق متعة.
الثاني: لها المتعة بالطلاق ولها الصداق بالنكاح.
وفي قوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وجهان:
أحدهما: أنه دفع المتعة حسب الميسرة والعسرة، قاله ابن عباس.
الثاني: أنه طلاقها طاهرًا من غير جماع، قاله قتادة.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} يعني صداقهن وفيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أحل له لهذه الآية أزواجه الأول اللاتي كن معه قبل نزول هذه الآية قاله مجاهد. وأما إحلال غيرهن فلا لقوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعُدْ}.
الثاني: أنه أحل له بهذه الآية سائر النساء ونسخ به قوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}.
الثالث: أنه أحل بها من سماه فيها من النساء دون من لم يسمعه من قوله.
{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} يعني الإماء.
{مِمَّا أَفَّاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} يعني من الغنيمة فكان من الإماء مارية أم ابنه إبراهيم. ومما أفاء الله عليه صفية وجويرية أعتقهما وتزوج بهما.
{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وبَنَاتِ خَالاَتِكَ} قاله أُبي بن كعب ثم قال: {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فيه قولان:
أحدهما: يعني المسلمات.
الثاني: المهاجرات إلى المدينة. روى أبو صالح عن أم هانئ قالت: نزلت هذه الآية وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهي عني لأني لم أهاجر واختلف في الهجرة على قولين:
أحدهما: أنها شرط في إحلال النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غريبة وقريبة حتى لا يجوز أن ينكح إلا بمهاجرة.
الثاني: أنها شرط في إحلال بنات عمه عماته المذكورات في الآية. وليست شرطًا في إحلال الأجنبيات.
{وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبْتَ نَفْسَهَا للِنَّبِيِّ} اختلف أهل التأويل هل كان عند النبي صلى لله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها على قولين:
أحدهما: لم تكن عنده امرأة وهبت نفسها له، وهو قول ابن عباس ومجاهد وتأويل من قرأ إن وهبت بالكسر محمول على المستقبل.
الثاني: أنه كانت عنده امرأة وهبت نفسها، وهو قول الجمهور وتأويل من قرأ بالفتح أنه في امرأة بعينها متى وهبت نفسها حل له أن ينكحها، ومن قرأ بالكسر أنه في كل امرأة وهبت نفسها أنه يحل له أن ينحكها.
واختلف في التي وهبت نفسها له على أربعة أقاويل:
أحدها: أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب، وكانت امرأة صالحة، قاله عروة بن الزبير.
الثاني: أنها خولة بنت حكيم، وهذا قول عائشة رضي الله عنها.
الثالث: أنها ميمونة بنت الحارث، قاله ابن عباس.
الرابع: أنا زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. قاله الشعبي.
{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونَِ الْمُؤْمِنِينَ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن ينكحها بغير أمر ولي ولا مهر.
وليس ذلك لأحد من المؤمنين، قاله قتادة.
الثاني: أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن لا يلزمه لها صداق وليس ذلك لغيره من المؤمنين، قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب.
الثالث: أنها خالصة له أن يملك عقد نكاحها بلفظ الهبة وليس ذلك لغيره من المؤمنين، قاله الشافعي.
قوله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِم فِي أَزْوَاجِهِمْ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: فرضنا ألا تتزوج امرأة إلا بولي وشاهدين.
الثاني: فرضنا ألا يتجاوز الرجل أربع نسوة، وهذا قول مجاهد.
الثالث: فرضنا عليهم لهن النفقة عليهن والقسم بينهن. قاله بعض الفقهاء.
{وَمَا مَلَكَتُ أَيْمَانُهُمْ} يعني أن يحللن له من غير عدد محصور ولا قسم مستحق {لِكَيلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه راجع إلى قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ}؛ قال ابن عيسى.
الثاني: إلى قوله: {وَامْرَأةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم خاطب تعالى المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، واستدل بعض الناس بقوله: {ثم طلقتموهن} وبملهة ثم على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، وأن من طلق المرأة قبل نكاحها وإن عينها فإن ذلك لا يلزمه، وقال هذا نيف على ثلاثين من صاحب وتابع وإمام، سمى البخاري منهم اثنين وعشرين، وقالت طائفة عظيمة من أهل العلم: إن طلاق المعينة الشخص أو القبيل أو البلد لازم قبل النكاح، فمنهم مالك وجميع أصحابه وجمع عظيم من علماء الأمة، وقرأ جمهور القراء {تمسوهن} وقرأ حمزة والكسائي وطلحة وابن وثاب {تماسوهن} والمعنى فيهما الجماع وهذه العدة إنما هي لاستبراء الرحم وحفظ النسب في الحمل، فمن لم تمس فلا يلزم ذلك فيها، وقرأ جمهور الناس {تعتدّونها} بشد الدال على وزن تفتعلونها من العدد، وروى ابن أبي بزة عن أبي بكر {تعتدُونها} بتخفيف ضمة الدال من العدوان، كأنه قال فما لكم عدة تلزمونها عدوانًا وظلمًا لهن، والقراءة الأولى أشهر عن أبي بكر، وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزة، ثم أمر تعالى بتمتيع المطلقة قبل البناء، واختلف الناس في المتعة، فقال فرقة هي واجبة، وقالت فرقة هي مندوب إليها منهم مالك وأصحابه، وقالت فرقة المتعة للتي لم يفرض لها ونصف المهر للتي فرض لها، وقال سعيد بن المسيب: بل المتعة كانت لجميعهن بهذه الآية، ثم نسخت آية البقرة بالنصف لمن فرض لها ما تضمنته هذه الآية من المتعة.
وهذه الآية خصصت آيتين إحداهما، والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، فخصصت هذه الآية من لم يدخل بها، وكذلك خصصت من ذوات الثلاثة الأشهر، وهن من قعدن عن المحيض، ومن لم يحضن من صغر المطلقات قبل البناء، والسراح الجميل هو الطلاق تتبعه عشرة حسنة وكلمة طيبة دون مشادة ولا أذى.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} قرأ الجمهور {اللاتي} بالتاء من فوق، وقرأ الأعمش {اللايي} بياءين من تحت، وذهب ابن زيد والضحاك في تفسير قوله: {إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن} إلى أن المعنى أن لله تعالى أحل له أن يتزوج كل امرأة يؤتيها مهرها وأباح له تعالى كل النساء بهذا الوجه وأباح له ملك اليمين وبنات العم والعمة والخال والخالة ممن هاجر معه، وخصص هؤلاء بالذكر تشريفًا وتنبيهًا منهن إذ قد تناولهن على تأويل ابن زيد قوله تعالى: {أزواجك التي آتيت أجورهن} وأباح له الواهبات خاصة له فهو على تأويل ابن زيد إباحة مطلقة في جميع النساء حاشى ذوات المحارم، لاسيما على ما ذكر الضحاك أن في مصحف ابن مسعود {وبنات خالاتك واللاتي هاجرن معك} ثم قال بعد هذه {ترجي من تشاء منهم} [الأحزاب: 51] أي من هذه الأصناف كلها، ثم تجري الضمائر بعد ذلك على العموم إلى قوله تعالى: {ولا أن تبدل بهن} [الأحزاب: 52] فيجيء هذا الضمير مقطوعًا من الأول عائدًا على أزواجه التسع فقط على الخلاف في ذلك، وتأول غير ابن زيد قوله: {أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن} أن الإشارة إلى عائشة وحفصة ومن في عصمته ممن تزوجها بمهر، وأن ملك اليمين بعد حلال له، وأن الله تعالى أباح له مع المذكورات بنات عمه وعماته وخاله وخالاته ممن هاجر معه والواهبات خاصة له، فيجيء الأمر على هذا التأويل أضيق على النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي الناس شاء وكان ذلك يشق على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا من سمى سر نساؤه بذلك.
قال الفقيه الإمام القاضي: لأن ملك اليمين إنما يفعله في النادر من الأمر وبنات العم والعمات والخال والخالات يسير، ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه، لاسيما وقد قيد ذلك شرط الهجرة معه والواهبة أيضًا من النساء قليل، فلذلك سر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بانحصار الأمر، ثم يجيء قوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن} [الأحزاب: 51] إشارة إلى من تقدم ذكره، ثم يجيء قوله: {ولا أن تبدل بهن من أزواج} [الأحزاب: 52] إشارة إلى أزواجه اللاتي تقدم النص عليهن بالتحليل فيأتي الكلام متسقًا مطردًا أكثر من اطراده على التأويل الأول، والأجور المهور، وقوله: {مما أفاء الله عليك} أي رده إليك في الغنائم، يريد وعلى أمتك لأنه فيء عليه، وملك اليمين أصله الفيء من الغنائم أو ما تناسل من سبي والشراء من الحربيين كالسباء، ومباح السباءة هو من الحربيين، ولا يجوز سبي من له عهد ولا تملكه، ويسمى سبي الخبثة، وقوله تعالى: {وبنات عمك} الآية، يريد قرابته، وروي عن أم هاني بنت أبي طالب أنها قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم نزلت هذه الآية، فحرمني عليه لأني لم أهاجر معه وإنما كنت من الطلقاء، وقرأ جمهور الناس {إن وهبت} بكسر الألف هذا يقتضي استئناف الأمور، إن وقع فهو حلال له، على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين.
فأما بالهبة فلم يكن عنده منهن أحد، وقرأ الحسن البصري وأبيّ بن كعب والثقفي والشعبي، {أن وهبت} بفتح الألف فهي إشارة إلى ما وقع من الهبات قبل نزول الآيات.
قال الفقيه الإمام القاضي: وكسر الألف يجري مع تأويل ابن زيد الذي قدمناه، وفتح الألف يجري مع التأويل الآخر، ومن قرأ بفتح الألف قال الإشارة إلى من وهب نفسه من النساء للنبي صلى الله عليه وسلم على الجملة، قال ابن عباس فيما حكى الطبري هي ميمونة بنت الحارث، وقال علي بن الحسين هي أم شريك، وقال عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة أم المساكين، وقال أيضًا عروة بن الزبير خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمي ممن وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود {وامرأة مؤمنة وهبت} دون {إن} وقوله تعالى: {خالصة لك} أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لرجل، وأجمع الناس على أن ذلك لا يجوز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح إلا ما روي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف أنهم قالوا: إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز.
قال الفقيه الإمام القاضي: فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطها هي أفعال النكاح بعينه.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويظهر من لفظ أبيّ بن كعب أن معنى قوله: {خالصة لك} يراد به جميع هذه الإباحة لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع، وقوله تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} يريد الولي والشاهدين والمهر والاقتصار على أربع قاله قتادة ومجاهد، وقال أبيّ بن كعب هو مثنى وثلاث ورباع، وقوله تعالى: {لكي لا} أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح {لكي لا يكون عليك حرج} ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك في شيء، ثم أنس تعالى الجميع من المؤمنين بغفرانه ورحمته. اهـ.