فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلّى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء، لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب. انتهى.
ومما يؤيده ما رواه البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنها. قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها. فرآها عُمَر بن الخطاب. فقال: يا سودة! أما والله! ما تخفين علينا. فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرقٌ، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا. قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجنّ لحاجتكن.
قال الكرماني: فإن قلت وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب وفي الوضوء- أي: من البخاري- أنه كان قبل الحجاب. فالجواب لعله وقع مرتين.
قال ابن حجر: قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني.
والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: احجب نساءك، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلًا، ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعًا للمشقة، ورفعًا للحرج، انتهى بحروفه. وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين، مع أن الأمس به شرح الصحيح، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية، مما يوقع الواقف في شبهة الاختلاف، فآثرنا توسيع الكلام لتقيق المقام. زادنا الله من فضله علمًا، إنه هو العليم العلام.
ثم يبين تعالى من لا يجب الاحتجاب منهم من الأقارب، بقوله: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ} أي: لا حرج ولا إثم عليهن، في أن لا يحتجبن من هؤلاء المسمين. قال الطبري: وعُني ب: إخوانهن وأبناء إخوانهن؛ إخوتهن، وأبناء إخوتهن، وخرج معهم جمع ذلك، مخرج جمع فتى إذا جمع: فتيان، فكذلك جمع أخ إذا جمع: إخوان، وأما إذا جمع إخوة فذلك نظير جمع فتى إذا جمع فتية.
تنبيهات:
الأول- قيل: إنما لم يذكر العم والخال، لأنهما بمنزلة الوالدين، ولذلك سمي العم أيضًا أبًا في قوله تعالى: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]، أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين، عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخئولة؛ لما أنهن عمات لأبناء الإخوة، وخالات لأبناء الأخوات. وقيل: لأنه كره ترك الاحتجاب منهما؛ مخافة أن يَصِفَاهُن لأبنائهما.
وهو رأي عِكْرِمَة والشعبي، كما أخرجه الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عِكْرِمَة والشعبي أنه قال لهما: ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قالا: لأنهما ينعتانها لأبنائهما. وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها.
قال الشهاب: لكنه قيل عليه، إن هذه العلة، وهو احتمال أن يصفا لأبنائهما وهما يجوز لهما التزوج بها، جار في النساء كلهن، ممن لم يكن أمهات محارم. فينبغي التعويل على الأول. انتهى.
والتحقيق في رده ما رواه البخاري في التفسير من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس، بعد ما أنزل الحجاب، فقلت: لا آذن له حتى أستأذن فيه النبي صلّى الله عليه وسلم. فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فدخل علي النبي صلّى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن. فأبيت أن آذن حتى أستأذنك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «وما منعك أن تأذني؟ عمك». قلت: يا رسول الله! إن الرجل ليس هو أرضعني، لكن أضعتني امرأة أبي القعيس، فقال: «ائذني له فإنه عمك، تربت يمينك».
قال عروة: فلذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب. انتهى. فبقوله صلّى الله عليه وسلم: «ائذني له فإنه عمك» مع قوله في الحديث الآخر «العم صنو الأب» يرد على عِكْرِمَة والشعبي.
الثاني- قيل: أريد بقوله تعالى: {وَلاَ نِسَائِهِنَّ} المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقيل هو عام في المسلمات والكتابيات. وإنما قال: {وَلاَ نِسَائِهِنَّ} لأنهن من أجناسهن.
الثالث- استدل بعموم قوله تعالى: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من ذهب إلى أن عبد المرأة محرم لها. وذهب قوم إلى أنه كالأجانب. والآية مخصوصة بالإماء دون العبيد، وتقدم تفصيل ذلك في سورة النور.
الرابع- قال السيوطي في الإكليل: استدل الحسن والحسين بعدم ذكر أبناء العمومة فيها، على تحريم نظرهما إليهن، فكانا لا يدخلان عليهن: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} أي: أن تتعدين ما حدّ لكُنّ، فتبدين من زينتكن ما ليس لكن، أو تتركن الحجاب فيراكن أحد غير هؤلاء. وقال الرازي: أي: واتقينه عند المماليك. قال: ففيه دليل على أن التكشف لهم مشروط بشرط السلامة والعلم بعدم المحذور. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي: فهو شاهد على ما تفعلنه من احتجابكن وترككن الحجاب لمن أبيح لكن تركه، وغير ذلك من أموركن، فاحذرن أن تلقينه، وهو شاهد عليكن بمعصيته، وخلاف أمره، ونهيه، فتهلكن. قال الرازي: هذا التذليل في غاية الحسن في هذا الموضع، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم، فقال: إن الله شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض، فخلوتكم مثل ملتكم بشهادة الله تعالى فاتقوا. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)}.
كلام جامع تحريضًا وتحذيرًا ومنبىء عن وعد ووعيد، فإن ما قبله قد حوى أمرًا ونهيًا، وإذ كان الامتثال متفاوتًا في الظاهر والباطن وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسبًا لتنبيههم وتذكيرهم بأن الله مطلع على كل حال من أحوالهم في ذلك وعلى كل شيء، فالمراد من {شيئًا} الأول شيء مما يبدونه أو يخفونه وهو يعم كل ما يبدو وما يخفى لأن النكرة في سياق الشرط تعم.
والجملة تذييل لما اشتملت عليه من العموم في قوله: {بكل شيء}.
وإظهار لفظ {شيء} هنا دون إضمار لأن الإِضمار لا يستقيم لأن الشيء المذكور ثانيًا هو غير المذكور أولًا، إذ المراد بالثاني جميع الموجودات، والمراد بالأول خصوص أحوال الناس الظاهرة والباطنة، فالله عليم بكل كائن ومن جملة ذلك ما يبدونه ويخفونه من أحوالهم.
{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ}.
تخصيص من عموم الأمر بالحجاب الذي اقتضاه قوله: {فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53].
وإنما رفع الجناح عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهًا على أنهن مأمورات بالحجاب كما أمر رجال المسلمين بذلك معهن فكان المعنى: لا جناح عليهن ولا عليكم، كما أن معنى {فاسألوهن من وراء حجاب} أنهن أيضًا يُجِبن من وراء حجاب كما تقدمت الإِشارة إليه يقوله: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} [الأحزاب: 53].
والظرفية المفادة من حرف {في} مجازية شائعة في مثله، يقال: لا جناح عليك في كذا، فهو كالحقيقة فلا تلاحظ فيه الاستعارة، والمجرور مقدر فيه مضاف تقديره: في رُؤية آبائهن إيَّاهُن، وإنما رجح جانبهن هنا لأنه في معنى الإِذن، لأن الرجال مأمورون بالاستئذان كما اقتضته آية سورة النور، والإِذن يصدر منهن فلذلك رُجّح هنا جانبهن فأضيف الحكم إليهن.
والنساء: اسم جمع امرأة لا مفرد له من لفظه في كلامهم، وهن الإِناث البالغات أو المراهقات.
والمراد ب {نسائهن} جميع النساء، فإضافته إلى ضمير الأزواج اعتبار بالغالب لأن الغالب أن تكون النساء اللاتي يدخلن على أمهات المؤمنين نساء اعتدن أن يدخلن عليهن، والمراد جميع النساء.
ولم يذكر من أصناف الأقرباء الأعمام ولا الأخوال لأن ذكر أبناء الإِخوان وأبناء الأخوات يقتضي اتحاد الحكم، من أنه لما رفِع الحرج عنهن فيمن هن عمات لهن أو خالات كان رفع الحرج عنهن في الأعمام والأخوال كذلك، وأما قرابة الرضاعة فمعلومة من السنة، فأريد الاختصار هنا إذ المقصود التنبيه على تحقيق الحجاب ليفضي إلى قوله: {واتقين الله}.
والتفت من الغيبة إلى خطابهن في قوله: {واتقين الله} لتشريف نساء النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه الخطاب الإِلهي إليهن.
والشهيد: الشاهد مبالغة في الفعل. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)}.
فكأن في الآية إشارة تحذير: إياكم أنْ تسرقكم خواطركم في هذه المسألة؛ لأن ربكم لا تخفي عليه خافية، ولا يعزُبُ عن علمه شيء، وإنْ كانت الخواطر والهواجس لا يُحاسب عليها المرء، إلا أنها محظورة منهي عنها، إنْ كانت في حَقِّ رسول الله.
لقد ورد في الحديث الشريف: «مَنْ هَمَّ بسيئة فلم يعملها كُتبت له حسنة» هذا في الأمور العامة، أما إنْ تعلَّق الأمر برسول الله فلا؛ لأن مراد الحق سبحانه أنْ يُوفِّر طاقة رسول الله للمهمة التي فلا؛ لأن مراد الحق سبحانه أنْ يُوفِّر طاقة رسول الله للمهمة التي أُرسِل بها، وألاَّ يشغله عنها شاغل، وأيُّ مهمة أعظم من مهمة هداية العالم كله، ليس في زمنه صلى الله عليه وسلم، وإنما منذ بعثته وحتى قيام الساعة.
وقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئًا} [الأحزاب: 54] أي: أيّ شيء مهما كان {أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54] وعليم صيغة مبالغة في العلم؛ لأن عِلْم الله تعالى عِلْم أزليٌّ ليس مُتجدِّدًا بتجدُّد الحدث، فالله يعلم قبل الفعل وأثناء الفعل وبعده.
لذلك قلنا: إن الزمن عندنا نحن ماض وحاضر ومستقبل، أما بالنسبة للحق سبحانه فليس هناك ماض ولا حاضر ولا مستقبل؛ لذلك يتكلم سبحانه عن المستقبل وكأنه ماض.
واقرأ مثلًا: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] وأتى فعل ماض ومع ذلك قال بعده {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] والاستعجال لا يكون إلا لشيء لم يَأْتِ وقته، فكأن أتى معناها بالنسبة لكم سيأتي، أما بالنسبة للحق سبحانه فإنه أتى بالفعل؛ لأن الزمن كله في علم الله سواء.
ومعنى: {فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54] أي: كان وما يزال عليمًا؛ لأنه سبحانه ما دام كان عليمًا، وهو سبحانه لا تتأتى فيه الأغيار، فهو سبحانه عليم فيما مضى ولا يزال؛ لأنه لا يتغير، فكان هنا لا تعني أن علمه تعالى نتيجة لحدثكم الذي أحدثتموه، إنما هو سبحانه عالم قبل أنْ يحدث منكم.
وهذه الآية من الآيات التي وقف عندها المستشرقون؛ ليستدركوا كما يظنون على كلام الله؛ لأنهم دائمًا يتهموننا أننا ننظر إلى القرآن بقداسة، وأنه كلام الله فلا نُعمل فيه عقولنا، وأنهم حين يُدقِّقون في القرآن ويتجرَّأون على البحث فيه يجدون فيه مآخذ- على حَدِّ زعمهم.
ووَجْه اعتراضهم في قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54] ومثله: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 29].
يقولون: إذا كان الله يمتنُّ بعلم ما نُخفي، فما الميزة وما العظمة في علم ما نبدي؟
نقول: إياك حين تقرأ كلام الله أنْ تُحكِّم فيه عقلك قبل أنْ تؤمن أنه صادر من الله تعالى، وأن هذا كلامه سبحانه، وعندها أَدِرْ المسألة في عقلك وابحثها حتى تصل إلى الحكمة ووجه الإعجاز فيها.
فقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ} [الأحزاب: 54] الله لا يخاطب فردًا، إنما يخاطب جمهرة الناس، والإبداء من الجمهرة لا يمكن لك أن تحدد مصدر الفعل فيه، بحيث تردُّ كلَّ صوت، وكلَّ حركة إلى صاحبها.
وسبق أنْ مثَّلنا لذلك بالمظاهرة مثلًا التي تختلط فيها الأصوات وتعلوا الهتافات، وسمعنا مثلًا مَنْ ينادي بسقوط فلان، أنستطيع في هذه الحالة أنْ نحدد صاحب هذا الهتاف؟ لا لا نستطيع بسبب اختلاط وتداخل الأصوات، مع أنه جَهْر أعلنه صاحبه بأعلى صوته أبداه على الملأ، ومع ذلك لا تستطيع أنت تحديده.
أما الحق سبحانه، فيعلم الصوت، ويعلم صاحبه، ويعلم أثره ونتيجته، ويريد كل كلمة، بل وكل نَفَس إلى صاحبه، فالذين يحاولون التستُّر والاستخفاء في جمهرة الناس عليهم أنْ يحذروا إنْ شوَّشوا على الخَلْق، واستْخفوا منهم، فلن يستخفوا من الله، فالله لا تشتبه عليه اللغات، ولا تختلط عليه الأصوات.
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ}.
بعد أنْ نزلت آية الحجاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فاسألوهن مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] اشتكى أقارب أمهات المؤمنين وقالوا: حتى نحن يا رسول الله؟ فأنزل الله هذه الآية.
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ} [الأحزاب: 55].
ومعنى {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} [الأحزاب: 55] أي: لا حرجَ ولا إثمَ أنْ يدخل عليهن هؤلاء المذكورون؛ لأن مكانتهم من المرأة معلومة، ولا يُخْشَى من دخولهم عليها، وهم: الأب، والابن، والأخ، وابن الأخ، وابن الأخت.
والكلام في {وَلاَ نِسَآئِهِنَّ} [الأحزاب: 55] وهي مضاف ومضاف إليه، والإضافة في اللغة تأتي بمعانٍ ثلاثة: بمعنى مِنْ مثل أردب شعير يعني: من شعير، وبمعنى في مثل مكر الليل أي: في الليل، وتأتي بمعنى في مثل مال زيد يعني لزيد، واللام هنا للملكية أو للاختصاص، فمعنى مال زيد يعني: مِلْك لزيد، وتقول: لجام الفرس، فاللجام ليس مِلْكًا للفرس، إنما يختص به.
فهنا كلمة {نِسَآئِهِنَّ} [الأحزاب: 55] تأتي بمعنى من وبمعنى اللام أي: نساء لَهُنَّ، أو نساء منهن، ولا تأتي هنا بمعنى في إذن: فالمراد نساء منهن يعني: من قرابتهن أو نسائهن يعني: التابعين لهن مثل الخدم شريطة أنْ يكُنَّ مؤمنات؛ لأن المؤمنة هي المؤتمنة على المؤمنة، أما الكتابية أو الكافرة فلا يصح أنْ تقوم على خدمة المؤمنة؛ لأنها ربما تَصِفُها لقومها.
لذلك نلحظ دقة التعبير هنا في عدم ذِكْر الأعمام والأخوال؛ لأن العم أو الخال- رغم أنه في منزلة الوالد- إلا أنه قد يصف البنت لابنه، فإنْ كان العم أو الخال ليس له ولد، فالعلة مفقودة، ويجوز التساهل معهما- إذن- في الدخول في المرأة، وإبداء الزينة أمامهما.
وقوله تعالى: {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [الأحزاب: 55] قلنا: إن مِلْك اليمين يأتي من الأسرى في حرب مشروعة، وقد باشرتَ أَسْره بنفسك، بمعنى أنه لم يكُنْ حرًا، ثم أُخذ وبيع على أنه عبد، ثم بعد الأَسْر يمكن أن تأخذ مِلْك اليمين بأنْ تشتريه، أو تأخذه إرثًا، أو تأخذه هِبة، ومِلْك اليَمين قد يكون من النساء فتدخل في نسائهن، أو يكون من الصبيَان الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال.
كما قال سبحانه في موضع آخر: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النساء} [النور: 31].
ويدخل في ذلك أيضًا التابعون الذين يعملون في البيت كالبوابين والسائقين والطباخين.. إلخ، والشرع يتساهل مع هؤلاء؛ لأن العرف الاجتماعي يأبى أنْ تنشأ علاقة بين هؤلاء وبين أهل البيت، فهؤلاء التابعون يعملون في البيوت، وبها نساء وبنات جميلات، لكن كم من هؤلاء تجرّأ على أنْ ينظر إلى سيدته؛ ذلك لأن المركز الاجتماعي جعل بينهما حاجزًا.
ثم يقول سبحانه: {واتقين الله} [الأحزاب: 55] كأن الحق سبحانه يقول: لقد بينتُ لكُنَّ الحكم في الدخول على المرأة، وبينت الأنواع التي لا جناحَ عليكُنَّ في دخولهم، والحارس عليكُنَّ في هذا تقواكُنَّ لله، فتقوى الله هي التي تحملك على طاعته، وتمنعك من الخروج عنها، ويكفي بعد الأمر بالتقوى أنْ تعلم {إِنَّ الله كَانَ} [الأحزاب: 55] وما يزال {على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب: 55]. اهـ.