فصل: ذكر المقام المحمود الّذي وعد الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلّم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال قتادة: وسمعته أيضا يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدا، فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وسمعته يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة، قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود، ثم تلا هذه الآية: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} [17: 79]، قال: وهذا المقام المحمود الّذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلّم. وخرج مسلم من حديث مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة يدعوها، فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. ومن حديث ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لكل نبي دعوة، وأردت إن شاء الله أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. خرجه البخاري من حديث شعيب عن الزهري ولفظه: لكل نبي دعوة، وأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. ذكره في كتاب التوحيد في المشيئة والإرادة. وخرج مسلم من حديث يونس عن ابن شهاب أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أخبره أن أبا هريرة قال لكعب الأحبار: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة يدعوها، فأنا أريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فقال كعب لأبي هريرة: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال أبو هريرة: نعم.
وخرج البخاري من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة. ذكره في أول كتاب الدعاء. وخرج مسلم من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك باللَّه شيئا.
وأخرجه الترمذي من هذه الطريق، ولم يقل فيه: فتعجل كل نبي دعوته. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وخرج مسلم من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب له فيؤتاها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. وله من حديث شعبة عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد إن شاء الله أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. ووله من حديث ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر ابن عبد الله رضي الله عنه يقول عن النبي للَّه: لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. وله من حديث معاذ بن هشام قال: أخبرنا أبي عن قتادة، أخبرنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: لكل نبي دعوة دعاها لأمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. وذكر له طرقا أخر. وخرجه البخاري تعليقا في كتاب الدعاء.
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث أحمد بن عبد الله قال: أخبرنا زهير ابن معاوية، أخبرنا أبو خالد الأسدي، أخبرنا عون بن أبي جحيفة السواري عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي عن عبد الرحمن بن أبي عقيل قال: انطلقت في وفد فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنخنا الباب وما في الناس أبغض إلينا من رجل نلج عليه، فما خرجنا حتى ما في الناس رجل أحب إلينا من رجل دخلنا عليه، فقال قائل منا: يا رسول الله! ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان بن داود؟ فضحك ثم قال: لعل لصاحبكم عند الله أفضل من ملك سليمان بن داود! إن الله لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذ بها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه إذا عصوه فأهلكوا بها، وإن الله أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة.
وخرج البخاري من حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن سعيد عن أبي هريرة أنه قال: قيل يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه، أو نفسه. ذكره في كتاب العلم وترجم عليه باب الحرص.
قوله صلى الله عليه وسلّم: «من قال: لا إله إلا الله»، احتراز من المشرك، والمراد مع قوله: محمد رسول الله، لكن قد يكتفي بالجزء الأول من كلمتي الشهادة، لأنه صار شعارا لمجموعهما كما تقدم في الإيمان على الحديث.
وخرجه في كتاب الرقاق من حديث إسماعيل بن جعفر عن عمرو إلى آخره، وقال: خالصا من قبل نفسه. وخرجه النسائي بنحوه.
وخرج مسلم من حديث ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلّم تلى قول الله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا من النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} 14: 36 الآية، وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5: 118، فرفع يديه وقال: اللَّهمّ أمتي.. أمتي، وبكي، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد وربك أعلم، فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك.

.ذكر المقام المحمود الّذي وعد الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلّم:

قال الله جل جلاله: {وَمن اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ به نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} 17: 79.
خرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث وكيع عن إدريس الأودي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا 17: 79 قال: الشفاعة. وخرج الحاكم من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب ابن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وله من حديث إسرائيل قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة ابن اليمان سمعته يقول في قوله عز وجل: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} 17: 79 قال: يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا، سكوتا لا تكلم نفس إلا بإذنه، قال: فينادي محمد صلى الله عليه وسلّم فيقول: «لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، المهدي من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحان رب البيت»، فذلك المقام المحمود الّذي قال الله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا 17: 79. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما خرج مسلم حديث أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة، ليخرجن من النار فقط.
وخرج الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد قال: حدثنا علي بن الحكم عن عثمان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة، فقال رجل من الأنصار: وما المقام المحمود؟ قال: ذاك إذا جيء بكم عراة حفاة غرلا، فأقوم مقاما لا يقومه أحد غيري يغبطني به الأولون والآخرون. وله من حديث وكيع قال: حدثنا داود بن عبد الله الأودي الزعافري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: المقام المحمود الشفاعة، وخرجه الترمذيّ وقال: هذا حديث حسن، وداود الزعافري هو داود الأودي، وهو عم عبد الله بن إدريس وفي الباب عن كعب بن مالك وأبي سعيد وابن عباس. وخرجه البغوي من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر، حدثنا أبو أسامة عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} 17: 79 قال: هو المقام الّذي أشفع فيه لأمتي.
ورواه سفيان بن وكيع عن جرير بن عبد الحميد عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يقيمني رب العالمين مقاما لم يقمه أحدا قبلي ولن يقيمه أحدا بعدي. وروى حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} 17: 79 قال: إن لمحمد من ربه مقاما لا يقومه نبي مرسل ولا ملك مقرب، يبين الله للخلائق فضله على جميع الأولين والآخرين.
وقال أبو سفيان العمري عن معمر عن الزهري، عن علي بن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مدّ الأديم حتى لا يكون للإنسان إلا موضع قدميه، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن فأقول: يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليّ، فيقول تبارك وتعال: صدق، ثم أشفع فأقول: يا رب عبادك في أطراف الأرض، فهو المقام المحمود. قال أبو عمر بن عبد البر: على هذا أصل في تأويل قول الله عز وجل: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} 17: 79 أنه الشفاعة.
وقد روي عن مجاهد: أن المقام المحمود أن يقعده معه يوم القيامة على العرش، وهذا عندهم منكر في تفسير هذه الآية، والّذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين أن المقام المحمود هو المقام الّذي يشفع فيه لأمته.
وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك فصار إجماعا في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة.
ذكر ابن أبي شيبة عن شبابة عن ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} 17: 79، قال: شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم.
وذكر بقيّ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، أخبرنا قيس عن عاصم عن عبد الله مثله، وذكر الغرباني عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن ابن مسعود مثله.
وذكر ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: المقام المحمود الشفاعة. وروى سفيان وإسرائيل عن أبي إسحاق عن صله عن حذيفة قال: يجتمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي- زاد سفيان في حديثه-: حفاة عراة سكوتا، كما خلقوا قياما، لا تكلم نفس إلا بإذنه، ثم اجتمعوا، فينادي منادي: يا محمد، على رءوس الأولين والآخرين، فيقول:
لبيك وسعديك والخير في يديك، زاد سفيان: والشر ليس إليك، ثم اجتمعا والمهدي من هديت تباركت وتعاليت، ومنك وإليك، لا ملجأ ولا منجى إلا إليك. قال حذيفة: فذلك المقام المحمود. وذكر له عن حذيفة عدة طرق، قال: وروى يزيد عن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} 17: 79، قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلّم خيّر بين أن يكون عبدا نبيا أو ملكا نبيا فأومأ إليه جبريل أن تواضع، واختار نبي الله صلى الله عليه وسلّم أن يكون عبدا نبيا، وأعطى بها اثنتين: أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع.
قال قتادة: وكان أهل العلم يرون أن المقام المحمود الّذي قال الله عزّ وجلّ: {عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا} 17: 79 شفاعته يوم القيامة، قال: وممن روى عنه أيضا: أن المقام المحمود الشفاعة: الحسن البصري وإبراهيم النّخعيّ وعلي ابن الحسين بن علي وابن شهاب وسعد بن أبي هلال وغيرهم.
تنبيه وإرشاد:
قال الحافظ أبو نعيم: وهذه الأخبار وما يجانسها في الشفاعة وإجابة آدم عليه السلام فمن دونه في الشفاعة عليه كلها داخلة في علو مرتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وشرف منزلته ورفعته عند ربه تعالى، لأن النبوة لا يخص الله بها إلا المنتخبين من خلفة في الأمم، وذوي الأخطار العظيمة، والمناقب الرفيعة، فإذا كان سائر الأنبياء يدفعون عن أنفسهم التشفيع والمسألة، ويجيئون بها على محمد صلى الله عليه وسلّم بأن فضله وعلو مرتبته على مراتبهم، وفي تعريف هذه المنزلة وإن لم تكن في نفسها معجزة، وأن الله تعالى وضع نبيه صلى الله عليه وسلّم في أعلى المراتب وأشرف المناقب، لتكون القلوب مقبلة على قبوله، والنفوس مسرعة إلى طاعته صلى الله عليه وسلّم، هذا له مع ما خصه الله من الخصال التي لم تعط من تقدمه من النّبيين والمرسلين من المنافع البهية والمرافع السنية. انتهى.
واعلم أن الشفاعة خمسة أقسام:
الأولى: الشفاعة في إراحة المؤمنين من طول الوقوف وتعجيل الحساب كما تقدم ذكره.
والثانية: الشفاعة في إدخال قوم من المؤمنين الجنة بغير حساب كم تقدم من حديث أنس، وفيه: فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن.
والثالثة: الشفاعة لقوم استوجبوا النار فيشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلّم ومن يشاء الله.
والرابعة: الشفاعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجهم الله بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلّم وبشفاعة الملائكة وإخوانهم المؤمنين، ثم يخرج الله عز وجل من النار كل من قال لا إله إلا الله ولا يبقى في النار إلا الكافرون.
والخامسة: الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها.
واتفقوا على شفاعة الحشر وعلى الشفاعة في زيادة درجات أهل الجنة، وخالفت الخوارج والمعتزلة في الأقسام الثلاثة الأخر. وقال ابن عبد البر: وقد قيل إن الشفاعة منه صلى الله عليه وسلّم تكون من مرتين: مرة في الموقف يشفع في قوم فينجون من النار ولا يدخلون الجنة، ومرة بعد دخول قوم من أمته النار فيخرجون منها بشفاعته.
وقد رويت آثار بنحو هذا الوجه بنفي الوجه الأول، ثم ذكر من طريق ثور ابن يزيد عن هشام بن عروة عن أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلني ممن يشفع له يوم القيامة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إذن تخمشك النار فإن شفاعتي لكل هالك من أمتي تخمشه النار. وذكر من طريق يحيى بن معين قال: حدثنا أبو اليمان عن شعيب عن أبي حمزة عن الزهري عن أنس بن مالك عن أم حبيب رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم ذكر ما تلقى أمته بعده من سفك دم بعضها بعضا، وسبق ذلك من الله كما سبق في الأمم قبلهم، فسألته أن يوليني شفاعة فيهم ففعل.
وذكر من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي:
بعثت إلى الأحمر والأسود، وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، ونصرت بالرعب شهرا فيرعب العدو مني مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وقيل سل تعط فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة وهي نائلة إن شاء الله من لم يشرك باللَّه شيئا. وذكر شيبان بن فروخ قال: حدثنا حرب بن شريح، أخبرنا أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلّم يقول: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وقال إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
وذكر من طريق أبي داود الطيالسي قال: أخبرنا محمد بن ثابت عن جعفر ابن محمد بن على عن أبيه جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، قال: فقال لي جابر: من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة. قال أبو عمرو: والآثار في هذا كثيرة متواترة، والجماعة وأهل السنة على التصديق بها، ولا ينكرها إلا أهل البدع.
وذكر من طريق قاسم بن أصبغ قال: أخبرنا الحرث بن أبي أسامة، أخبرنا إسحاق بن عيسى، أخبرنا حماد بن زيد عن على بن زيد عن يوسف بن عوان عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أيها الناس، إن الرجم حق ولا تخدعنّ عنه، وآية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد رجم، وأبا بكر قد رجم، ورجمنا بعدهما، وأنه سيكون أناس يكذبون بالرجم، ويكذبون باللعان، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا، قال أبو عمر: كل هذا يكذب به جميع طوائف أهل البدع والخوارج والمعتزلة والجهمية وسائر الفرق المبتدعة، وأما أهل السنة، أئمة الفقه والأمر في جميع الأمصار فيؤمنون بذلك كله ويصدقونه، وهم أهل الحق، والله المستعان.