فصل: فصل في تعلق الباء في {بِاللَّغْوِ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في تعلق الباء في {بِاللَّغْوِ}:

والباء في {بِاللَّغْوِ} متعلِّق ب {يؤاخذكم} والباء معناها السَّببيّة، كقوله: {فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61].
واختلف في اللَّغْوِ: فقيل: ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفرَّاء، ومنه قول الفرزدق: الطويل:
وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ ** إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ

ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ، فنهض الفرزدق، وقال: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ، وأَنْشَد البيت: الطويل:
وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ

وقوله: الطويل:
وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ** حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلِّقِ

فقال الحسن: ما أَذْكَاكَ لَوْلاَ حِنْثُك، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ لَغْوٌ.
قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72]، {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم: 62]؛ وقال العجاج: الرجز:
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ** عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ

وقيل: ما يُطرحُ من الكلام؛ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة لَغْوٌ؛ قال جريرٌ: الوافر:
وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْوًا ** كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَرَا

وقيل: اللَّغو السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلامًا أو غيره، فأَمَّا وروده في الكلام؛ فكقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] وقوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [الواقعة: 25]، وقوله: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [فصلت: 26] {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] وقال عليه الصّلاة والسّلام: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ».
وأما قوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغوًا، وأن يكون المُرادُ: وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغوًا، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل.
وقيل: هو ما لا يُفهم، من قولهم: لَغَا الطَّائِرُ، أي: صوَّتَ، واللَّغو، ما لَهجَ به الإنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا.
وقال الراغب: ولَغِيَ بكذا: أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ لُغَة؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا، أي: أُولِعَ به، قوال ابن عيسى- وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ-: ومنه اللغةُ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ، وقد غَلَّطوه في ذلك.
قوله: {في أَيْمَانِكُمْ} فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق بالفعلِ قبله.
الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله؛ كقولك: لَغَا فِي يمينه.
الثالث: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ، وتعرفه من حيث المعنى؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغو، لصحَّ المعنى، أي: اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ.
وسُمِّي الحَلفُ يَمينًا؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر.
وقيل: لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء.
قوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم} وقعت هنا وَلَكِنْ بين نقيضين؛ باعتبار وجود اليمين؛ لأنَّها لا تَخْلُو: إمَّا ألاَّ يقصدها القلبُ: بل جرتْ على اللسانِ، وهي اللَّغْوُ، وإمَّا أن يقصِدَها، وهي المنعقدةُ.
قوله تعالى: {بِمَا كَسَبَتْ} متعلِّقٌ بالفعلِ قبله، والباءُ للسببية كما تقدَّم، ومَا يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه:
أظهرها: أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر، وهو اللَّغو، أي: لا يؤاخذكم باللغوِ، ولكن بالكسب.
والثاني: أنها بمعنى الذي، ولابد من عائدٍ محذوفٍ، أي: كَسَبَتْهُ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى الَّذِي أكثرُ منها مصدريةً.
والثالثُ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً، والعائدُ أيضًا محذوفٌ، وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ، تقديره: ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه.
قوله تعالى: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} قد تقدَّم أن الغَفُور مبالغةٌ في ستر الذُّنوب، وفي إسقاط عقوبتها.
وأمَّا الحليم فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة، والسُّكون مع القُدرة والقُوَّة، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال، أي: على أشدِّها قوَّةً في السَّير، ومنه الحِلْم، لأَنَّه يرى في حال السُّكُون، وحلمة الثَّدي؛ والحليمُ مِنْ حَلُم- بالضم- يَحْلُمُ إذا عَفَا مع قُدْرَة، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر يَحْلَمُ بالفتح، فسد وتثقَّب؛ وقال الوافر:
فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ ** كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ

وأمَّا حَلَمَ، أي: رأى في نومِه، فبالفتح، ومصدرُ الأولِ الحِلْم بالكسر؛ قال الجعديُّ: الطويل:
وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُن لَهُ ** بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا

ومصدرُ الثاني الحَلِّمُ بفتح اللام ومصدرُ الثالث: الحُلُم والحُلْم بضم الحاءِ مع ضمِّ اللام وسكونها. اهـ. باختصار.

.تفسير الآيتين (226- 227):

قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الإيلاء حلفًا مقيدًا وبين حكم مطلق اليمين قبله لتقدم المطلق على المقيد بانفكاكه عنه بينه دليلًا على حلمه حيث لم يؤاخذهم به فقد كانوا يضارون به النساء في الجاهلية بأن يحلفوا على عدم الوطء أبدًا فتكون المرأة لا أيمًا ولا ذات بعل وجعل لهم فيه مرجعًا يرجعون إليه فقال في جواب من كأنه سأل عنه لما أشعر به ما تقدم: {للذين يؤلون} أي يحلفون حلفًا مبتدئًا {من نسائهم} في صلب النكاح أو علقة الرجعة بما أفادته الإضافة بأن لا يجامعوهن أبدًا أو فوق أربعة أشهر فالتعدية بمن تدل على أخذ في البعد عنهن.
قال الحرالي: والإيلاء تأكيد الحلف وتشديده سواء كانوا أحرارًا أو عبيدًا أو بعضًا وبعضًا في حال الرضى أو الغضب محبوبًا كان أو لا لأن المضارة حاصلة بيمينه {تربص} أي إمهال وتمكث يتحمل فيه الصبر الذي هو مقلوب لفظه- انتهى.
{أربعة أشهر} ينتظر فيها رجوعهم إليهن حلمًا من الله سبحانه وتعالى حيث لم يجعل الأمر بتاحين الحلف بفراق أو وفاق. قال الحرالي: ولما كان لتخلص المرأة من الزوج أجل عدة كان أجلها مع أمد هذا التربص كأنه- والله سبحانه وتعالى أعلم- هو القدر الذي تصبر المرأة عن زوجها، يذكر أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل النساء عن قدر ما تصبر المرأة عن الزوج، فأخبرنه أنها تصبر ستة أشهر، فجعل ذلك أمد البعوث فكان التربص والعدة قدر ما تصبره المرأة عن زوجها، وقطع سبحانه وتعالى بذلك ضرار الجاهلية في الإيلاء إلى غير حد- انتهى وفيه تصرف. اهـ.

.اللغة:

{يؤلون} الإيلاء لغة: الحلف يقال: آلى يؤالي إيلاء، قال الشاعر:
فآليت لا أنفك أحدو قصيدة ** تكون وإياها بها مثلا بعدي

وفي الشرع: اليمين على ترك وطء الزوجة.
{تربص} التربص: الانتظار ومنه {قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} أي انتظروا.
{فاءوا} الفيء: الرجوع ومنه قيل للظل فيء، لأنه يرجع بعد أن تقلص، قال الفراء:
العرب تقول: فلان سريع الفيء أي سريع الرجوع بعد الغضب، قال الشاعر:
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له ** ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا

{قروء} جمع قرء اسم يقع على الحيض والطهر، فهو من الأضداد، وأصل القرء: الاجتماع سمي به الحيض لاجتماع الدم في الرحم، قال في القاموس: القرء بالفتح ويضم: الحيض والطهر والوقت، وجمع الطهر قروء، وجمع الحيض أقراء.
{بعولتهن} جمع بعل ومعناه الزوج {وهذا بعلي شيخا} والمرأة بعلة.
{درجة} الدرجة: المنزلة الرفيعة.
{الطلاق} مصدر طلقت المرأة ومعنى الطلاق: حل عقد النكاح، وأصله الانطلاق والتخلية يقال: ناقة طالق أي مهملة تركت في المرعى بلا قيد ولا راعي، {تسريح} التسريح: إرسال الشيء، وسرح الماشية أرسلها، قال الراغب: والتسريح في الطلاق مستعار من تسريح الإبل، كالطلاق مستعار من إطلاق الإبل. اهـ.

.سبب النزول:

قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئًا، فأبت أن تعطيه؛ حلف أن لا يقربها السنة، والسنتين، والثلاث، فيدعها لا أيّمًا، ولا ذات بعل، فلما كان الإسلام، جعل الله ذلك أربعة أشهر، فأنزل الله هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، وكان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدًا، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية، والإسلام.
كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، فإنها تجمع الثلاثة؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين، وقد أمر الله به في قوله: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19] فامتثاله من التقوى، ولأن دوامه من دوام الإصلاح، ويحدث بفقده الشقاق، وهو مناف للتقوى.
وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك.
وعن سعيد بن المسيب: كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة، ولا يحب أن يطلقها، لئلا يتزوجها غيره، فكان يحلف ألاّ يقربها مضارة للمرأة أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم.
قال: ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك، فأزال الله ذلك، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان، التي مهد لها بقوله: {ولا تجعلوا الله عرضة} [البقرة: 224]. اهـ.