فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجعل صاحب الكشاف {ملعونين} مستثنى من أحوال بأن يكون حرف الاستثناء دخل على الظرف والحاللِ كما في قوله تعالى: {إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} [الأحزاب: 53].
وبونُ ما بين هذا وبين ما نظره به لأن ذلك مشتمل على ما يصلح مجيء الحال منه.
والوجه هنا هو ما سلكناه في تقدير نظمه.
واللعن: الإِبعاد والطرد.
وتقدم قوله تعالى: {وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين} في سورة الحجر (35)، وهو مستعمل هنا كناية عن الإِهانة والتجنب في المدينة، أي يعاملهم المسلمون بتجنبهم عن مخالطتهم ويبتعدون هم من المؤمنين اتقاء ووجلًا فتضمن أن يكونوا متوارين مختفين خوفًا من بطش المؤمنين بهم حيث أغراهم النبي، ففي قوله: {ملعونين} إيجاز بديع.
وقوله: {أينما ثُقِفُوا} ظرف مضاف إلى جملة وهو متعلِقٌ ب {ملعونين} لأن {ملعونين} حال منهم بعد صفتهم بأنهم في المدينة، فأفاد عموم أمكنة المدينة.
و{أينما} اسم زمان متضمن معنى الشرط.
والثقف: الظفَر والعثور على العدوّ بدون قصد.
وقد مَهَّد لهذا الفعل قوله: {ملعونين} كما تقدم.
ومعنى {أخذوا} أُمسكوا.
والأخذ: الإِمساك والقبض، أي أُسروا، والمراد: أخذت أموالهم إذ أغرى الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم.
والتقتيل: قوة القتل.
والقوة هنا بمعنى الكثرة لأن الشيء الكثير قوي في أصناف نوعه وأيضًا هو شديد في كونه سريعًا لا إمهال لهم فيه.
و{تقتيلًا} مصدر مؤكد لعامله، أي قتِّلوا قتلًا شديدًا شاملًا.
فالتأكيد هنا تأكيد لتسلط القتل على جميع الأفراد المدلولة لضمير {قُتِّلوا} لرفع احتمال المجاز في عموم القتل، فالمعنى: قتلوا قتلًا شديدًا لا يفلت منه أحد.
وبهذا الوعيد انكفّ المنافقون عن أذاة المسلمين وعن الإِرجاف فلم يقع التقتيل فيهم إذ لم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل منهم أحدًا ولا أنهم خرج منهم أحد.
وهذه الآية ترشد إلى تقديم إصلاح الفاسد من الأمة على قطعة منها لأن إصلاح الفاسد يكسب الأمة فردًا صالحًا أو طائفة صالحة تنتفع الأمة منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده».
ولهذا شرعت استتابة المرتدّ قبل قتله ثلاثة أيام تعرض عليه فيها التوبة، وشرعت دعوة الكفّار الذين يغزوهم المسلمون إلى دين الإِسلام قبل الشروع في غزوهم فإن أسلموا وإِلاّ عُرض عليهم الدخول في ذمة المسلمين لأن في دخولهم في الذمة انتفاعًا للمسلمين بجزيتهم والاعتضاد بهم.
وأما قتل القاتل عَمدًا فشُرع فيه مجاراةً لقطع الأحقاد من قلوب أولياء القتيل لئلا يقتل بعض الأمة بعضًا، إذ لا دواء لتلك العلة إلا القصاص.
ولذلك رغب الشرع في العفو وفي قبوله.
ومن أجل ذلك قال مالك في آية جزاء الذين يحاربون الله ورسله: إن أَو فيها للتنويع لا للتخيير فقال: يكون الجزاء بقدر جُرْم المحارب وكثرة مُقامه في فساده.
وكان النفي من الأرض آخر أصناف الجزاء لأن فيه استبقاءه رجاء توبته وصلاح حاله.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}.
انتصب {سنة الله} على أنه مفعول مُطلق نائب عن فعله.
والتقدير: سَن الله إغراءك بهم سنتَه في أعداء الأنبياء السالفين وفي الكفار المشركين الذين قُتّلوا وأخذوا في غزوة بدر وغيرها.
وحرف {في} للظرفية المجازية، شُبهت السّنة التي عوملوا بها بشيء في وَسْطهم كناية عن تغلغله فيهم وتناوله جميعهم ولو جاء الكلام على غير المجاز لقيل: سنة الله مع الذين خَلَوا.
و{الذين خلوا} الذين مَضَوا وتقدموا.
والأظهر أن المراد بهم من سبقوا من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم الذين أذنه الله بقتلهم مثل الذين قُتلوا من المشركين ومثل الذين قتلوا من يهود قريظة.
وهذا أظهر لأن ما أصاب أولئك أوقع في الموعظة إذ كان هذان الفريقان على ذكر من المنافقين وقد شهدوا بعضهم وبلغهم خبر بعض.
ويحتمل أيضًا أن يشمل {الذين خلوا} الأممَ السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم فاستأصلهم الله تعالى مثل قوم فرعون وأضرابهم.
وذيل بجملة {ولن تجد لسنة الله تبديلًا} لزيادة تحقيق أن العذاب حائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهوا عما هم فيه وأن الله لا يخالف سنته لأنها مقتضى حكمته وعلمه فلا تجري متعلقاتها إلا على سَنن واحد.
والمعنى: لن تجد لسنن الله مع الذين خَلَوْا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلًا.
وبهذا العموم الذي أفاده وقوع النكرة في سياق النفي تأهلت الجملة لأن تكون تذييلًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}.
المتتبع لموكب الرسالات يجد أن الرسل واجهوا في نشر رسالتهم ثلاثة أصناف من البشر: صنف آمن، وصنف كفر، وصنف وقف مترددًا بين الكفر والإيمان، وهؤلاء هم المنافقون.
ذلك؛ لأن الرسول حين يُبعث إنما يُبعَث لتغيير وضع اجتماعي بلغ من السوء درجةً لا يحتملها الناس، فالذي يعاني من هذا الوضع ينتظر هذا الرسول الجديد، فما أنْ يُبعث حتى يبادر إلى الإيمان به؛ لأنه جاء بمباديء جديدة، لا ظُلْم فيها، ولا قهر، ولا استبداد، ولا رشوة، ولا فساد.
إذن: مَنْ عضته هذه الأحداث، وشقى بهذا الفساد سارع إلى الإيمان، وكذلك آمن أهل مصر، وما إنْ دخلها الإسلام حتى أسرعوا إليه، لماذا؟ لأنهم شَقُوا قبله بحكم الرومان، وكذلك آمن الفُرْس بمجرد أنْ سمعوا بالإسلام، ورأوا الأسوة الحسنة في المسلمين بعد أنْ عَضَّهم فساد غير المسلمين.
ساعة يشْقَى الناسُ بفساد الأوضاع يتطلَّعون إلى منقذ، فإنْ جاءهم اتبعو، خاصة إنْ كان منهم وله فيهم مَاضٍ مُشرِّف لم يُجربوا عليه كذبًا ولا نقيصة.
وهذا ما رأيناه مثلًا في قصة إسلام سيدنا أبي بكر، فما أنْ أعلن محمد أنه رسول الله حتى سارع إلى الإيمان به دون أنْ يسأله عن شيء، لماذا؟ لأنه عرف صِدْقه، وعرف أمانته، ووثق من ذلك.
ومثله كان إيمان السيدة خديجة- رضي الله عنها- فما إنْ جاءها رسول الله مُضطربًا مما لاقى من نزول المَلك عليه حتى احتضنته، وهدَّأتْ من رَوْعه، وأنصفته، وذهبتْ به إلى ورقة بن نوفل لتثبت له أنه على الحق، وأن الله تعالى لن يُسلمه ولن يتخلى عنه.
وكان مما قالتْ: «والله إنك لتقري الضيف، وتحمل الكلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر..».
لذلك قال العلماء: إن السيدة خديجة كانت أول فقيهة في الإسلام قبل أنْ ينزل الإسلام.
وطبيعي أن يكون أهل الفساد والمستفيدون منه على النقيض، فهم ينتفعون بالفساد والاستبداد، ويريدون أن تظلَّ لهم سيادتهم ومكانتهم، وأنْ يظل الناسُ عبيدًا لهم، يأكلون خيراتهم ويستذلونهم.
وهؤلاء الذين استعبدوا الناس، وجعلوا من أنفسهم سادةً بل آلهة، ويعلمون أن الرسول ما جاء إلا للقضاء على سيادتهم وألوهيتهم الكاذبة، هؤلاء لابد أن يصادموا الدعوة، لابد أنْ يكفروا بها، وأن يحاربوها، حِفَاظًا على سيادتهم وسلطتهم الزمنية.
وعجيب أن نرى من عامة الناس مَنْ أَلِف هذه العبودية، ورضي هذه المذلة، واكتفى بأنْ يعيش في كَنَف هؤلاء السادة مهما كانت التبعاتُ، هؤلاء وأمثالهم هم الذين كقالوا: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فبعد أنْ جاءهم الرسول المنقذ ما زالوا يتطلعون إلى عظيم يستعبدهم.
وكلٌّ من هذيْن الفريقين المؤمن، والكافر كان منطقيًا مع نفسه، فالمؤمن آمن بقلبه، ونطلق بلسانه، والكافر كفر بقلبه، وكفر بلسانه، والكافر كفر بقلبه، وكفر بلسانه، لأنه لم ينطق بكلمة التوحيد، والإنسان قلبٌ وقالبٌ، ولابد في الإيمان أنْ يوافق القالبُ ما في القلب.
أما الصنف الثالث وهو المنافق، فليس منطقيًا مع نفسه، لأنه آمن بلسانه، ولم يؤمن بقلبه، فهو جبان يُظهر لك الحب، ويُضمِر الكره؛ لذلك جعلهم الله في الدَّرْك الأسفل من النار.
لذلك، فالعرب لما سألهم رسول الله أنْ يقولوا: لا إله إلا الله، ليبطل بها سيادة زعماء الكفر أبوْا أن يقولوها، لماذا؟ لأنهم يعلمون أنها ليست كلمة تُقال، إنما لها تبعات، ويترتب عليها مسئوليات لا يقدرون هم على القيام بها، ولو أنها كلمة تُقَال لقالوها، وانتهى العداء بينهم وبين رسول الله.
فمعنى لا إله إلا الله: لا عبودية إلا لله، ولا خضوعَ إلا لله، ولا تشريعَ إلا لله، ولا نافع إلا الله. إلخ، وكيف تستقيم هذه المعاني مع مَنْ أَلِف العبودية والخضوع لغير الله؟
والحق- تبارك وتعالى- لما تكلّم هنا عن المنافقين خَصَّ المدينة، فقال سبحانه: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة} [الأحزاب: 60] فالنفاق لم يظهر في مكة، وهي مَعْقل الكفر والأصنام، إنما ظهر في المدينة، وهي التي آوَتْ مهاجري رسول الله، وكان غالبية أهلها من أهل الكتاب، وهم أقرب إلى الإيمان من الكفار، فلماذا هذه الظاهرة؟
قالوا: إن الإسلام كان ضعيفًا في مكة، وصار قويًا في المدينة، فالنفاق ظاهرة صحية للإسلام؛ لأنه لولا قوته ما نافقه المنافقون، فظهور النفاق في المدينة دليل على قوة الإسلام فيها، وأنه صارت له شوكة، وصارت له سطوة؛ لذلك نافق ضعافُ الإيمان؛ ليأخذوا خير الإسلام، وليحتموا بحماه، وإلا فالضعيفُ لا يُنَافَق.
نعم، ظهر النفاق في المدينة التي قال الله في حق أهلها: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
ويقول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحْرها».
وأيضًا القرآن هو الذي قال عن أهل المدينة: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق} [التوبة: 101] وهذا ليس استضعافًا للمدينة، إنما إظهار لقوة الإسلام فيها، بحيثُ أصبحتْ له سطوة وقوة تُنافَق.
هنا قوله تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} [الأحزاب: 60] ساعة تسمع {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ} [الأحزاب: 60] فاعلم أن الله تعالى أقسم بشيء وهذا القول هو جواب القسم، والحق سبحانه لا يُقسِم إلا على الشيء العظيم، ونحن البشر نُقسِم لنؤكد كلامنا، كما تقول: والله إنْ ما حدث من فلان كذا وكذا سأفعل كذا وكذا.
أما الحق سبحانه، فكلامه صادق ونافذ دون قَسَم، فما بالُكَ إنْ أقسم؟ لذلك يقول بعض العارفين إذ سمع الله تعالى يُقسِم: مَنْ أغضب الكريم حتى ألجأه أن يقسم؟
كلمة {المنافقون} [الأحزاب: 60] مفردها منافق، مأخوذ من نَافَقاء اليربوع، واليربوع حيوان صغير يشبه الفأر، يعرفه أهل البادية، يعيش في جحور، فيترصدونه ليصطادوه ساعة يخرج من جٌحْره، لكن هذا الحيوان الصغير فيه لُؤْم ودهاء، فماذا يفعل؟ يجعل لجُحْره مدخلين، واحد معروف، والآخر مستتر بشيء، فإذا أحس بالصياد على هذا المدخل ذهب إلى المدخل الآخر؛ لذلك أشبه المنافق تمامًا الذي له قلب كافر ولسان مؤمن.
وتلحظ أن المنافقين وصفهم الله هنا بصفات ثلاث {المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة} [الأحزاب: 60] فالعطف هنا لا يقتضي المغايرة، إنما عطف صفات مختلفة لشيء واحد، وجاءتْ هذه الصفات مستقلةً؛ لأنها أصبحتْ من الوضوح فيهم، بحيث تكاد تكون نوعًا منفردًا بذاته.
وقد وصف القرآن في موضع آخر المنافقين بأن في قلوبهم مرضًا، فقال سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8-10].
وفي هذا دليل على أن الواو هنا أفادت عطف صفة على صفة، لا طائفة على طائفة، ومِثْله العطف في قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] فالدار أي المدينة، وكذلك الإيمان يُراد به المدينة أيضًا.
ومعنى {والمرجفون} [الأحزاب: 60] المرجف من الإرجاف، وهو الهزَّة العنيفة التي تزلزل، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 7] فالمرجفون هم الذين يحاولون زلزلة الشيء الثابت، وزعزعة الكيان المستقر، كذلك كان المنافقون كلما رأو للإسلام قوةً حاولوا زعزتها وهزّها لإضعافه والقضاء عليه.
وهؤلاء هم الذين نسميهم في التعبير السياسي الحديث الطابور الخامس، وهم الجماعة الذين يُروِّجحون الإشاعات، ويذيعون الإباطيل التي تُضِعف التيار العام وتهدد استقراره.
وكثيرًا ما قعد المنافقون يقولون: إن قبيلة فلان وقبيلة فلان اجتمعوا للهجوم على المدينة والقضاء على محمد ورسالته، وهدفهم من هذه الإشاعات إضعاف وهزيمة الروح المعنوية لدى المسلمين الجدد والمستضعفين منهم.
حتى على مستوى الأفراد، كانوا يذهبون إلى مَنْ يفكر في الإسلام، أو يرون أنه ارتاح إليه، فيقولون له: ألم تعلم أن فلانًا أخذه قومه، أو أخذه سيده وعذَّبه حتى الموت لأنه اتبع محمدًا، ذلك ليصرفوا الناس عن دين الله.
إذن: المرجِفُ يعني الذي يمشي بالفتنة والأكاذيب؛ ليصرف أهل الحق عن حقهم، بما يُشيع من بهتان وأباطيل.
لذلك يهددهم الحق سبحانه: لئن لم ينته هؤلاء المنافقون عن الإرجاف في المدينة وتضليل الناس لَيكُونَنَّ لنا معهم شأن آخر، كان هذا وقت مهادنة ومعاهدة بين المسلمين واليهود وأتباعهم من المنافقين، وكأن الله تعالى يقول: لقد سكتنا على جرائمهم إلى أنْ قويَتْ شوكة الإسلام، أما وقد صار للإسلام شوكة فإنْ نقضوا عهدهم معنا فسوف نواجههم.
وعجيب من هؤلاء المرجفين أنْ يظنُّوا أن الله لا يعلم أباطيلهم، ولا يعلمها رسوله، والله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29-30].
ومعنى لحن القول: أن يميلوا عن غير معناه، ومن ذلك قولهم في السلام على رسول الله: السام عليكم، والسام هو الموت، وكما لووا ألسنتهم بكلمة راعنا فقالوا: راعونا يقصدون الرعونة.