فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قرأ عبد الله: {آلوا مِن نّسَائِهِمْ} وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما {يَقْسِمُونَ مِن نّسَائِهِمْ}.
أما قوله: {مِن نّسَائِهِمْ} ففيه سؤال، وهو أنه يقال: المتعارف أن يقال: حلف فلان على كذا أو آلى على كذا، فلم أبدلت لفظة على هاهنا بلفظة {مِنْ}؟.
والجواب من وجهين: الأول: أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر، كما يقال: لي منك كذا والثاني: أنه ضمن في هذا القسم معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مولين أو مقسمين. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {مِن نِّسَائِهِمْ} يدخل فيه الحرائرُ والإِماء، إِذا تزوَّجن، والتربُّص: التأنِّي والتأخُّر، وأربعَةَ أشْهُرٍ؛ عند مالك، وغيره: للحر، وشهران: للعبد.
وقال الشافعيُّ: هو كالحرِّ. اهـ.

.قال الألوسي:

وعدى القسم على الماجمعة ب {مِنْ} لتضمنه معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مولين، وقيل: إن هذا الفعل يتعدى بمن وعلى، ونقل أبو البقاء عن بعضهم من أهل اللغة تعديته بمن وقيل: بها بمعنى على، وقيل: بمعنى في، وقيل: زائدة، وجوّز جعل الجار ظرفًا مستقرًا، أي استقرّ لهم من نسائهم. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فاعلم أن التربص التلبث والانتظار يقال: تربصت الشيء تربصًا، ويقال: ما لي على هذا الأمر ربصة، أي تلبث، وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله: بينهما مسيرة يوم، أي مسيرة في يوم ومثله كثير. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} التربص: التأنِّي والتأخُّر؛ مقلوب التصبر؛ قال الشاعر:
تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المُنونِ لعلّها ** تطَلَّق يومًا أو يموتُ حَلِيلُها

وأما فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدّم، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدّة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر؛ لقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع} [النساء: 34]. وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهرًا تأديبًا لهنّ. وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها؛ وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشِد:
ألا طال هذا اللّيْلُ واسود جانبُه ** وأرّقَنِي أن لا حَبِيبَ ألاَعِبُهْ

فواللّهِ لولا اللَّهُ لا شيءَ غيره ** لزُعْزِعَ من هذا السّريرِ جوانِبُهْ

مخافةَ ربّي والحَيَاءُ يكفّني ** وإكرامَ بَعْلِي أن تُنال مراكِبُهْ

فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك؟ فقالت: بعثتَ به إلى العراق! فاستدعى نساء فسألهنّ عن المرأة كم مقدار ما تصبِر عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويَقلّ صبرها في ثلاثة أشهر، وينفَدُ صبرُها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدّة غزوِ الرجل أربعة أشهر؛ فإذا مضت أربعةُ أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين؛ وهذا والله أعلم يقوِّي اختصاص مدّة الإيلاء بأربعة أشهر. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان حالهم بعد ذلك مرددًا بين تعالى قسميه فقال مفصلًا له {فإن فاؤا} أي رجعوا في الأشهر، وأعقبها عن المفاصلة إلى المواصلة، من الفيء وهو الرجوع إلى ما كان منه الانبعاث {فإن الله} يغفر لهم ما قارفوه في ذلك من إثم ويرحمهم بإنجاح مقاصدهم لأنه {غفور رحيم} له هاتان الصفتان ينظر بهما إلى من يستحقهما فيغفر ما في ذلك من جناية منهما أو من أحدهما إن شاء ويعامل بعد ذلك بالإكرام. قال الحرالي: وفي مورد هذا الخطاب بإسناده للأزواج ما يظافر معنى إجراء أمور النكاح على سترة وإعراض عن حكم الحكام من حيث جعل التربص له والفيء منه، فكأن الحكم من الحاكم إنما يقع على من هتك حرمة ستر أحكام الأزواج التي يجب أن تجري بين الزوجين من وراء ستر كما هو سر النكاح الذي هو سبب جمعهما ليكون حكم السر سرًا وحكم الجهر جهرًا- انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {فَإِن فَاءوا} فمعناه فإن رجعوا، والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل، ولهذا قيل لما تنسخه الشمس من الظل ثم يعود: فيء، وفرق أهل العربية بين الفيء والظل، فقالوا: الفيء ما كان بالعشي، لأنه الذي نسخته الشمس والظل ما كان بالغداة لأنه لم تنسخه الشمس وفي الجنة ظل وليس فيها فيء، لأنه لا شمس فيها، قال الله تعالى: {وَظِلّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] وأنشدوا:
فلا الظل من برد الضحى يستطيعه ** ولا الفيء من برد العشي يذوق

وقيل: فلان سريع الفيء والفيئة حكاهما الفراء عن العرب، أي سريع الرجوع عن الغضب إلى الحالة المتقدمة وقيل: لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فيء كأنه كان لهم فرجع إليهم فقوله: {فَإِن فَاءوا} معناه فإن فرجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته كما أنه غفور رحيم لكل التائبين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فإن الله غفور رحيم} دليل الجواب، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم؛ لأن الله غفور رحيم.
وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن، قصدُ الإضرار بالمرأة.
وقد يكون الإيلاء مباحًا إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته كالذي يكون لقصد التأديب، أو لقصد آخر معتبر شرعًا، غير قصد الإضرار المذموم شرعًا.
وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شَهْرًا، قيل: لمرض كان برجله، وقيل: لأجل تأديبهن؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال، وحمَل البقية على الاقتداء بالأخريات، أو على استحسان ذلك. والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور.
وأما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغَيْل، وكالحُمْية من بعض الأمراض في الرجل والمَرأة، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمرِ، إن لم يقيدوها بالحلف. اهـ.

.قال ابن كثير:

الإيلاء: الحلف، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة، فلا يخلو: إما أن يكون أقل من أربعة أشهر، أو أكثر منها، فإن كانت أقل، فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة: أن رسول الله آلى من نسائه شهرًا، فنزل لتسع وعشرين، وقال: «الشهر تسع وعشرون» ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه. فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر، فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر: إما أن يفيء- أي: يجامع- وإما أن يطلق، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر بها. ولهذا قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} أي: يحلفون على ترك الجماع من نسائهم، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور. {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي: ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق. ولهذا قال: {فَإِنْ فَاءُوا} أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كناية عن الجماع، قاله ابن عباس، ومسروق والشعبي، وسعيد بن جبير، وغير واحد، ومنهم ابن جرير رحمه الله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين.
وقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيه دلالة لأحد قولي العلماء- وهو القديم عن الشافعي: أن المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه. ويعتضد بما تقدم في الآية التي قبلها، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفارتها» كما رواه أحمد وأبو داود والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه الكفارة لعموم وجوب التكفير على كل حالف، كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح. والله أعلم. اهـ.

.قال السعدي:

ويستدل بهذه الآية على أن الإيلاء، خاص بالزوجة، لقوله: {من نسائهم} وعلى وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة، لأنه بعد الأربعة، يجبر إما على الوطء، أو على الطلاق، ولا يكون ذلك إلا لتركه واجبا. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان الحال في مدة الإيلاء شبيهًا بحال الطلاق وليس به قال مبينًا أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة الأشهر بل إما أن يفيء أو يطلق فإن أبى طلق عليه الحاكم: {وإن عزموا الطلاق} فأوقع عليه العزم من غير حرف جر بمعنى أنهم تركوا ما كانوا فيه من الذبذبة وجعلوا الطلاق عزيمة واقعًا من غير مجمجة ولا ستر، والعزم الإجماع على إنفاذ الفعل، والطلاق هو في المعنى بمنزلة إطلاق الشيء من اليد الذي يمكن أخذه بعد إطلاقه- قاله الحرالي.
ولما كان المطلق ربما ندم فحمله العشق على إنكار الطلاق رهبه بقوله: {فإن الله} أي الملك الذي له الجلال والإكرام {سميع} أي لعبارتهم عنه. قال الحرالي: في إشارته إعلام بأن الطلاق لابد له من ظاهر لفظ يقع مسموعًا- انتهى.
{عليم} أي به وبنيتهم فيه.
قال الحرالي: وفيه تهديد بما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر، ولذلك رأى العلماء أن الطلاق أمانة في أيدي الرجال كما أن العدد والاستبراء أمانة في أيدي النساء، فلذلك انتظمت آية تربص المرأة في عدتها بآية تربص الزوج في إيلائه- انتهى. وبقي من أحكام الإيلاء قسم ثالث ترك التصريح به إشارة إلى أنهم ينبغي أن يكونوا في غاية النزاهة عنه وهو الإصرار على الإضرار، وأشار بصفتي المغفرة والرحمة لفاعل ضده إلى أن مرتكبه يعامل بضدهما مما حكمه معروف في الفقه والله الموفق. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فاعلم أن العزم عقد القلب على الشيء يقال عزم على الشيء يعزم عزمًا وعزيمة، وعزمت عليك لتفعلن، أي أقسمت، والطلاق مصدر طلقت المرأة أطلق طلاقًا، وقال الليث: طلقت بضم اللام، وقال ابن الأعرابي: طلقت بضم اللام من الطلاق أجود، ومعنى الطلاق هو حل عقد النكاح بما يكون حلالًا في الشرع، وأصله من الإنطلاق، وهو الذهاب، فالطلاق عبارة عن انطلاق المرأة، فهذا ما يتعلق بتفسير لفظ الآية. اهـ.