فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأغرب من ذلك ما حكاه القرآن عنهم: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] فهذا القول منهم دليل على غبائهم. أولًا: لأنهم يتمنوْنَ العذاب.
ثانيًا: لأنهم قالوا ذلك في أنفسهم لم يقولوا للناس، ولم يقولوا حتى لبعضهم البعض؛ لأن يقولون جمع، وفي أنفسهم جمع، فكأن كلًا منهم كان يقول ذلك في نفسه.
إذن: ألم يسأل واحد منهم نفسه: مَنِ الذي أعلم رسولَ الله بما في نفسي؟ أَلاَ يدل ذلك على أن محمدًا موصول بربه، وأنه لابد فاضحهم، وكاشفٌ مكنونات صدورهم، إذن: هذا غباء منهم.
والمتتبع لتاريخ اليهود والمنافقين في المدينة يجد أن الإسلام لم يأخذهم على غرَّة، إنما أعطاهم العهد وأمنَّهم ووسَّع لهم في المسكن والمعيشة طالما لم يُؤذُوا المسلمين، لكن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتناجوْنَ بالإثم والعدوان، فبعث إليهم ونهاهم عن التناجي بالإثم والعدوان، لكنهم عادوا مرة أخرى، كما قال القرآن عنهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [المجادلة: 8].
إذن: لم يَبْقَ إلا المواجهة على حَدِّ قول الشاعر:
أَنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْنِ عقَّبَ بَعْدهَا ** وَعيدًا فإنْ لم يُغْنٍ أغنَتْ عَزَائمهُ

لذلك يأتي جواب الشرط: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60].
فجواب الشرط: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60] من الإغراء، وهو باب من أبواب الدراسات النحوية اسمه الإغراء، ويقابله التحذير، الإغراء: أنْ تحمل المخاطب وتُحبِّبه في أمر محبوب ليفعله، كما تقول لولدك مثلًا: الاجتهادَ الاجتهادَ.
أما التحذير فأنْ تُخوِّفه من أمر مكروه ليجتنبه، كما تقول: الأسدَ الأسدَ، أو الكسلَ الكسلَ.
فمعنى {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60] أي: نُسلِّطك عليهم، ونُغريك بمواجهتهم والتصدِّي لهم، فكأن هذه المواجهة صارتْ أمرًا محبوبًا يُغْري به؛ لأنها ستكون جزاءَ ما فزَّعوك وأقلقوك.
وما دمنا سنسلطك عليهم، وما دمتم ستصيرون إلى قوة وشوكة تُغري بعدوها، فلن يستطيعوا البقاء معكم في المدينة.
{ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلًا} [الأحزاب: 60] أي: في المدينة، وكلمة {إِلاَّ قَلِيلًا} [الأحزاب: 60] يمكن أنْ يكون المعنى: قليل منهم، أو قليل من الزمن ريَثْما يجدوا لهم مكانًا آخر، يرحلون إليه مُشيَّعين بلعنة الله.
{مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 61].
الملعون: المطرود من رحمة الله، أو مطرودون من المدينة بعد أنْ كشف الله دخائلَ نفوسهم الخبيثة؛ لذلك طردهم رسول الله من المسجد؛ لأنهم كانوا من خُبْثهم ولُؤْمهم يدخلون المسجد، بل ويُصلُّون في الصف الأول، يظنون أن ذلك يستر نفاقهم.
لكن رسول الله كان يطردهم بالاسم: يا فلان، يا فلان، فكان صلى الله عليه وسلم يعرفهم، ولم لا وقد قال الله له: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30].
ومعنى {أَيْنَمَا ثقفوا} [الأحزاب: 61] أي: وُجِدوا {أُخِذُواْ} [الأحزاب: 61] أي: أُسِروا {وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 61] ولاحظ المبالغة في {وَقُتِّلُواْ} [الأحزاب: 61] والتوكيد في {تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 61] يعني: اقتلوهم بعنف، ولا تأخذكم فيهم رحمة جزاءَ ما ارتكبوه في حق الإسلام والمسلمين.
ولأن المنافق الذي طُبع على النفاق صارت طبيعته مسمونة مُلوّثة لا تصفو أبدًا، فالنفاق في دمه يلازمه أينما ذهب، ولابد أنْ ينتهي أمره إلى الطرد من أي مكان يحل فيه.
لذلك، فمع أن الله تعالى قطَّعهم في الأرض أممًا، إلا أن كل قطعة منهم في بلد من البلاد لها تماسك فيما بينها، بحيث لا يذوبون في المجتمعات الأخرى فتظل لهم أماكن خاصة تُعرف بهم، وفي كل البلاد تعرف حارة اليهود، لكن لابد أنْ يكتشف الناس فضائحهم، وينتهي الأمر بطردهم وإبادتهم، وآخر طرد لهم ما حدث مثلًا في ألمانيا.
وصدق الله حين قال فيهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب} [الأعراف: 167].
ثم يقول الحق سبحانه: {سُنَّةَ الله فِي الذين}.
بعد أن بيَّن الحق سبحانه نهاية أعدائه بالتقتيل وانتصار رسوله صلى الله عليه وسلم، أوضح أن هذا ليس شيئًا جديدًا في موكب الرسالات، إنما هي سنة متُبعة ومتواترة، وهل رأيتم في موكب الرسالات رسولًا أرسله الله، ثم خذله أو تخلى عنه، وانتهى أمره بنصر أعدائه عليه؟
والسنة: هي الطريقة الفِطْرية الطبيعية المتواترة التي لا تتخلَّف أبدًا، فالأمر إذا حدث مرة أو مرتين لا يسمى سُنة، فالسنة إذن لها رتابة واستدامة.
فالمراد بالسنة هنا غَلَبة الحق على الباطل {فِي الذين خَلَوْاْ} [الأحزاب: 62] يعني: الذين مَضَوْا من الأمم السابقة، وما زالتْ سنة الله في نصر الحق قائمة، وستظل إلى قيام الساعة؛ لأنها سنة.
{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62] نعم لا تتبدل ولا تتغير؛ لأنها سنة مَنْ؟ سنة الله، والله سبحانه ليس له نظير، وليس له شريك يُبدل عليه، أو يستدرك على حكمه بشيء.
بعد ذلك أراد الحق سبحانه أنْ يخبرنا أن المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه وفيه أوامره، وفيه نواهيه، وفيه سبل الخلاص من الخصوم، هذا المنهج لابد أنْ يٌحترمَ؛ لأنه سيُسلم الناس جميعًا إلى حياة أخرى يُستقبلون فيها استقبالًا، لا ينفعهم فيه إلا أعمالهم.
حياة أخرى يعيشون فيها مع المسبِّب سبحانه، لا مع الأسباب فإياكم أنْ تظنوا أن الله خلقكم ورزقكم وتنعمتُمْ بنعمه في الدنيا، وانتهت المسألة، وأفلت من عقابه مَنْ خرج على منهجه، لا بل تذكروا دائمًا أنكم راجعون إليه، ولن تُفِلتوا من يده. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.
هذا الشوط من السورة يتضمن في أوله حكمًا عامًا من أحكام القرآن التشريعية في تنظيم شئون الأسرة. ذلك حكم المطلقات قبل الدخول. يجيء بعده أحكام خاصة لتنظيم حياة النبي صلى الله عليه وسلم حياته الزوجية الخاصة مع نسائه وعلاقات نسائه كذلك ببقية الرجال، وعلاقة المسلمين ببيت الرسول. وكرامة الرسول وبيته على الله وعلى ملائكته والملأ الأعلى.. وينتهي بحكم عام يشترك فيه نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين، يأمرهن فيه بإرخاء جلابيبهن عند الخروج لقضاء الحاجة حتى يتميزن بهذا الزي السابغ ويعرفن، فلا يتعرض لهن ذوو السيرة السيئة من المنافقين والمرجفين والفساق الذين كانوا يتعرضون للنساء في المدينة! ويختم بتهديد هؤلاء المنافقين والمرجفين بالإجلاء عن المدينة ما لم ينتهوا عن إيذاء المؤمنات وإشاعة الفسا.
وهذه التشريعات والتوجيهات طرف من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس التصور الإسلامي. فأما ما يختص بحياة الرسول الشخصية، فقد شاء الله أن يجعل حياة هذا البيت صفحة معروضة للأجيال، فضمنها هذا القرآن الباقي، المتلو في كل زمان ومكان؛ وهي في الوقت ذاته آية تكريم الله سبحانه لهذا البيت، الذي يتولى بذاته العلية أمره، ويعرضه للبشرية كافة في قرآنه الخالد على الزما.
{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحًا جميلًا}.
ولقد سبق في سورة البقرة بيان حكم المطلقات قبل الدخول في قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًا على المحسنين وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} فالمطلقة قبل الدخول إن كان قد فرض لها مهر، فلها نصف ذلك المهر المسمى. وإن لم يذكر لها مهر فلها متاع يتبع قدرة المطلق سعة وضيقًا.. وقد زاد هنا في آية الأحزاب بيان حكم العدة لهذه المطلقة وهو ما لم يذكر في آيتي البقرة. فقرر أن لا عدة عليها. إذ أنه لم يكن دخول بها. والعدة إنما هي استبراء للرحم من الحمل، وتأكد من أنها خالية من آثار الزواج السابق، كي لا تختلط الأنساب، ولا ينسب إلى رجل ما ليس منه، ويسلب رجل ما هو منه في رحم المطلقة. فأما في حالة عدم الدخول فالرحم بريئة، ولا عدة إذن ولا انتظار: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}.
{فمتعوهن} إن كان هناك مهر مسمى فبنصف هذا المهر، وإن لم يكن فمتاع مطلق يتبع حالة الزوج المالية.
{وسرحوهن سراحًا جميلًا}. لا عضل فيه ولا أذى. ولا تعنت ولا رغبة في تعويقهن عن استئناف حياة أخرى جديدة.
وهذا حكم عام جاء في سياق السورة في صدد تنظيم الحياة العامة للجماعة المسلمة.
بعد ذلك يبين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يحل له من النساء، وما في ذلك من خصوصية لشخصه ولأهل بيته، بعدما نزلت آية سورة النساء التي تجعل الحد الأقصى للأزواج أربعًا: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} وكان في عصمة النبي في هذا الوقت تسع نساء، تزوج بكل منهن لمعنى خاص. عائشة وحفصة ابنتا صاحبيه أبي بكر وعمر. وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت خزيمة من المهاجرات اللواتي فقدن أزواجهن وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تكريمهن، ولم يكن ذوات جمال ولا شباب، إنما كان معنى التكريم لهن خالصًا في هذا الزواج. وزينب بنت جحش وقد علمنا قصة زواجها، وقد كان هناك تعويض لها كذلك عن طلاقها من زيد الذي زوجها رسول الله منه فلم تفلح الزيجة لأمر قضاه الله تعالى، وعرفناه في قصتها. ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وصفية بنت حيي بن أخطب. وكانتا من السبي فأعتقهما رسول الله وتزوج بهما الواحدة تلو الأخرى، توثيقًا لعلاقته بالقبائل، وتكريمًا لهما، وقد أسلمتا بعدما نزل بأهلهما من الشدة.
وكن قد أصبحن أمهات المؤمنين ونلن شرف القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بعد نزول آيتي التخيير. فكان صعبًا على نفوسهن أن يفارقهن رسول الله بعد تحديد عدد النساء. وقد نظر الله إليهن، فاستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك القيد، وأحل له استبقاء نسائه جميعًا في عصمته، وجعلهن كلهن حلًا له، ثم نزل القرآن بعد ذلك بألا يزيد عليهن أحدًا، ولا يستبدل بواحدة منهن أخرى. فإنما هذه الميزة لهؤلاء اللواتي ارتبطن به وحدهن، كي لا يحرمن شرف النسبة إليه، بعدما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.. وحول هذه المبادئ تدور هذه الآيات:
{يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكي لا يكون عليك حرج وكان الله غفورًا رحيمًا ترجي من تشاء منهن وتئوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليمًا حليمًا لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبًا}.
ففي الآية يحل الله للنبي صلى الله عليه وسلم أنواع النساء المذكورات فيها ولو كن فوق الأربع مما هو محرم على غيره. وهذه الأنواع هي: الأزواج اللواتي أمهرهن. وما ملكت يمينه إطلاقًا من الفيء، وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته ممن هاجرن معه دون غيرهن ممن لم يهاجرن إكرامًا للمهاجرات وأيما امرأة وهبت نفسها للنبي بلا مهر ولا ولي. إن أراد النبي نكاحها وقد تضاربت الروايات حول ما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تزوج واحدة من هذا الصنف من النساء أم لم يتزوج، والأرجح أنه زوّج اللواتي عرضن أنفسهن عليه من رجال آخرين وقد جعل الله هذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم بما أنه ولي المؤمنين والمؤمنات جميعًا. فأما الآخرون فهم خاضعون لما بينه الله وفرضه عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم. ذلك كي لا يكون على النبي حرج في استبقاء أزواجه وفي الاستجابة للظروف الخاصة المحيطة بشخصه.
ثم ترك الخيار له صلى الله عليه وسلم في أن يضم إلى عصمته من شاء ممن يعرضن أنفسهن عليه، أو يؤجل ذلك. ومن أرجأهن فله أن يعود إليهن حين يشاء.. وله أن يباشر من نسائه من يريد ويرجئ من يريد. ثم يعود.
{ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن}. فهي مراعاة الظروف الخاصة المحيطة بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم والرغبات الموجهة إليه، والحرص على شرف الاتصال به، مما يعلمه الله ويدبره بعلمه وحلمه.
{والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليمًا حليمًا}.
ثم أنزل الله تحريم من عدا نسائه اللواتي في عصمته فعلًا، لا من ناحية العدد، ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن؛ ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن قبل التحريم:
{لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} لا يستثني من ذلك {إلا ما ملكت يمينك}. فله منهن ما يشاء.
{وكان الله على كل شيء رقيبًا}. والأمر موكول إلى هذه الرقابة واستقرارها في القلوب.
وقد روت عائشة رضي الله عنها أن هذا التحريم قد ألغي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتركت له حرية الزواج. ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج كذلك غيرهن بعد هذه الإباحة.
فكن هن أمهات المؤمني.
بعد ذلك ينظم القرآن علاقة المسلمين ببيوت النبي صلى الله عليه وسلم وبنسائه أمهات المؤمنين في حياته وبعد وفاته كذلك. ويواجه حالة كانت واقعة، إذ كان بعض المنافقين والذين في قلوبهم مرض يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم في بيوته وفي نسائه، فيحذرهم تحذيرًا شديدًا، ويريهم شناعة جرمهم عند الله وبشاعته. ويهددهم بعلم الله لما يخفون في صدورهم من كيد وشر:
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا إن ذلكم كان عند الله عظيمًا إن تبدوا شيئًا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليمًا}.
روى البخاري بإسناده عن أنس بن مالك قال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم. فأرسلت على الطعام داعيًا. فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون. ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون. فدعوت حتى ما أجد أحدًا أدعوه. فقلت: يا رسول الله ما أجد أحدًا أدعوه. قال: «ارفعوا طعامكم». وبقي ثلاث رهط يتحدثون في البيت. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته». قالت: وعليك السلام ورحمة الله. كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك. فتقرى حجر نسائه، كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن كما قالت عائشة. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون. وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء. فخرج منطلقًا نحو حجرة عائشة. فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا. فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجه «أرخى الستر بيني وبينه» وأنزلت آية الحجاب.