فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة السادسة:
كيف حملها الإنسان ولم تحملها هذه الأشياء؟ فيه جوابان أحدهما: بسبب جهله بما فيها وعلمهن، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.
والثاني: أن الأشياء نظرت إلى أنفسهن فرأين ضعفهن فامتنعن، والإنسان نظر إلى جانب المكلف، وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
المسألة السابعة:
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} فيه وجوه أحدها: أن المراد منه آدم ظلم نفسه بالمخالفة ولم يعلم ما يعاقب عليه من الإخراج من الجنة ثانيها: المراد الإنسان يظلم بالعصيان ويجهل ما عليه من العقاب ثالثها: إنه كان ظلومًا جهولا، أي كان من شأنه الظلم والجهل يقال فرس شموس ودابة جموح وماء طهور أي من شأنه ذلك، فكذلك الإنسان من شأنه الظلم والجهل فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه وبعضهم ترك الظلم كما قال تعالى: {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] وترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} [البقرة: 31] وقال في حق المؤمنين عامة: {وَالراسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] رابعها: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} في ظن الملائكة حيث قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] وبين علمه عندهم حيث قال تعالى: {أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء} [البقرة: 31] وقال بعضهم في تفسير الآية إن المخلوق على قسمين مدرك وغير مدرك، والمدرك منه من يدرك الكلي والجزئي مثل الآدمي، ومنه من يدرك الجزئي كالبهائم ثم تدرك الشعير الذي تأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل والبراهين، ومنه من يدرك الكلي ولا يدرك الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل، قالوا وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء} [البقرة: 31] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات والتكليف لم يكن إلا على مدرك الأمرين إذ له لذات بأمور جزئية، فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية هي مثل لذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته، وأما غيره فإن كان مكلفًا يكون مكلفًا لا بمعنى الأمر بما فيه عليهم كلفة ومشقة بل بمعنى الخطاب فإن المخاطب يسمى مكلفًا لما أن المكلف مخاطب فسمي المخاطب مكلفًا وفي الآية لطائف الأولى: الأمانة كان عرضها على آدم فقبلها فكان أمينًا عليها والقول قول الأمين فهو فائز، بقي أولاده أخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن، ولهذا وارث المودع لا يكون القول قوله ولم يكن له بد من تجديد عهد وائتمان، فالمؤمن اتخذ عند الله عهدًا فصار أمينًا من الله فصار القول قوله فكان له ما كان لآدم من الفوز.
ولهذا قال تعالى: {وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات} [الأحزاب: 73] أي كما تاب على آدم في قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] والكافر صار آخذًا للأمانة من المؤتمن فبقي في ضمانه، ثم إن المؤمن إذا أصاب الأمانة في يده شيء بقضاء الله وقدره كان ذلك من غير تقصير منه والأمين لا يضمن ما فات بغير تقصير، والكافر إذا أصاب الأمانة في يده شيء ضمن وإن كان بقضاء الله وقدره، لأنه يضمن ما فات وإن لم يكن بتقصير اللطيفة الثانية: خص الأشياء الثلاثة بالذكر لأنها أشد الأمور وأحملها للأثقال، وأما السموات فلقوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12] والأرض والجبال لا تخفى شدتها وصلابتها، ثم إن هذه الأشياء لما كانت لها شدة وصلابة عرض الله تعالى الأمانة عليها واكتفى بشدتهن وقوتهن فامتنعن، لأنهن وإن كن أقوياء إلا أن أمانة الله تعالى فوق قوتهن، وحملها الإنسان مع ضعفه الذي قال الله تعالى فيه: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا} [النساء: 28] ولكن وعده بالإعانة على حفظ الأمانة بقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] فإن قيل فالذي يعينه الله تعالى كيف يعذب فلم يعذب الكافر؟ نقول قال الله تعالى: أنا أعين من يستعين بي ويتوكل علي والكافر لم يرجع إلى الله تعالى فتركه مع نفسه فيبقى في عهدة الأمانة اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} وقوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإنسان} إشارة إلى أن فيه مشقة بخلاف ما لو قال فأبين أن يقبلنها وقبلها الإنسان، ومن قال لغيره افعل هذا الفعل فإن لم يكن في الفعل تعب يقابل بأجرة فإذا فعله لا يستحق أجرة فقال تعالى: {وَحَمَلَهَا} إشارة إلى أنه مما يستحق الأجر عليه أي على مجرد حمل الأمانة، وإما على رعايتها حق الرعاية فيستحق الزيادة فإن قيل فالكل حملوها، غاية ما في الباب أن الكافر لم يأت بشيء زائد على الحمل فينبغي أن يستحق الأجر على الحمل فنقول الفعل إذا كان على وفق الإذن من المالك الآمر يستحق الفاعل الأجرة، ألا ترى أنه لو قال احمل هذا إلى الضيعة التي على الشمال فحمل ونقلها إلى الضيعة التي على الجنوب لا يستحق الأجرة ويلزمه ردها إلى الموضع الذي كان فيه كذلك الكافر حملها على غير وجه الإذن فغرم وزالت حسناته التي عملها بسببه.
{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} أي حملها الإنسان ليقع تعذيب المنافق والمشرك، فإن قال قائل لم قدم التعذيب على التوبة نقول لما سمى التكليف أمانة والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة فكان التعذيب على الخيانة كاللازم والأجر على الحفظ إحسان والعدل قبل الإحسان وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
لم عطف المشرك على المنافق، ولم يعد اسمه تعالى فلم يقل ويعذب الله المشركين وعند التوبة أعاد اسمه وقال: {ويتوب الله} ولو قال ويتوب على المؤمنين كان المعنى حاصلًا؟ نقول أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف ويجب هناك ذلك الفاعل فقال: {وَيَتُوبَ الله} ويحقق هذا قراءة من قرأ: {ويتوب الله} بالرفع.
المسألة الثانية:
ذكر الله في الإنسان وصفين الظلوم والجهول وذكر من أوصافه وصفين فقال: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} أي كان غفورًا للظلوم ورحيمًا على الجهول، وذلك لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعًا إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك كما قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وأما الوعد فقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] وأما الرحمة على الجهل فلأن الجهل محل الرحمة ولذلك يعتذر المسيء بقوله ما علمت.
وههنا لطيفة: وهي أن الله تعالى أعلم عبده بأنه غفور رحيم، وبصره بنفسه فرآه ظلومًا جهولًا ثم عرض عليه الأمانة فقبلها مع ظلمه وجهله لعلمه فيما يجبرها من الغفران والرحمة، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الْعَرْضِ: وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذِكْرِ الْأَمَانَةِ: وَفِيهَا اخْتِلَاطُ كَثِيرٍ مِنْ الْقَوْلِ، لُبَابُهُ فِي عَشْرَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا الْفَرَائِضُ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا أَمَانَةُ الْفَرْجِ عِنْدَ الْمَرْأَةِ؛ قَالَهُ أُبَيٌّ.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الرَّحِمَ عِنْدَ آدَمَ أَمَانَةً.
الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْخِلَافَةُ.
السَّادِسُ: أَنَّهَا الْجَنَابَةُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
السَّابِعُ: أَنَّهَا أَمَانَةُ آدَمَ قَابِيلَ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ.
الثَّامِنُ: أَنَّهَا وَدَائِعُ النَّاسِ.
التَّاسِعُ: أَنَّهَا الطَّاعَةُ.
الْعَاشِرُ: أَنَّهَا التَّوْحِيدُ.
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، تَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّوْحِيدُ: فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَخَفِيَ فِي الْقَلْبِ، لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ».
ثَانِيهِمَا: قِسْمُ الْعَمَلِ: وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّهَا أَمَانَةٌ تَخْتَصُّ بِتَأْكِيدِ الِاسْمِ فِيهَا.
وَالْمَعْنَى مَا كَانَ خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَأَخْفَاهُ أَحَقُّهُ بِالْحِفْظِ، وَأَخْفَاهُ أَلْزَمُهُ بِالرِّعَايَةِ وَأَوْلَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَخْتَصُّ بِالْأَحْكَامِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: الْوَدَائِعُ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَأَوْضَحْنَا وَجْهَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، وَهَلْ تُقَابَلُ بِخِيَانَةٍ أَمْ لَا؟ الثَّانِي: أَمَانَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى حَيْضِهَا وَحَمْلِهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الثَّالِثُ: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، وَهُمَا أَمَانَتَانِ عَظِيمَتَانِ لَا يَعْلَمُهُمَا إلَّا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ يَجْزِي بِهِ حَسْبَمَا وَرَدَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا كَانَتْ خَفِيَّةً لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا إذَا صَلَّى إمَامٌ بِقَوْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَحْدَهُ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ أَوْ طَهَارَتَهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ، وَاجْتِهَادٍ فِي النَّظَرِ؛ لَيْسَ بِنَصٍّ وَلَا يَقِينٍ، وَقَدْ أُدِّيَتْ الصَّلَاةُ وَرَاءَهُ بِاجْتِهَادٍ؛ وَلَا يَنْقُضُ بِاجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لِلْحَدِيثِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَيْضًا نَاسٍ فِيهِ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُحَقِّقٍ لَهُ حَتَّى بَالَغُوا فِي ذَلِكَ النَّظَرِ، وَاسْتَوْفَوْا فِيهِ الْحَقَّ، فَقَالُوا: إنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ: صَلَّيْت بِكُمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مُتَعَمِّدًا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ مَا اسْتَقْبَلْت فِيهَا قِبْلَةً بِوُضُوءٍ، وَلَا اغْتَسَلْت عَنْ جَنَابَةٍ، ذَنْبًا ارْتَكَبْته؛ وَسَيِّئَةً اجْتَرَمَتْهَا، وَأَنَا مِنْهَا تَائِبٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِمَّنْ صَلَّى وَرَاءَهُ إعَادَةٌ؛ وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَهَذَا كَذِبٌ لِعِلَّةٍ أَوْ حِيلَةٍ أَوْ لِتَهَوُّرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله: {إنَّا عرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَالِجبَالِ} فيها خمسة أقاويل:
أحدها: أن هذه الأمانة هي ما أمر الله سبحانه من طاعته ونهى عن معصيته، قاله أبو العالية.
الثاني: أنها القوانين والأحكام التي أوجبها الله على العباد وهو قريب من الأول، قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن جبير.
الثالث: هي ائتمان الرجال والنساء على الفروج، قاله أبي. وقيل إن أول ما خلق الله من آدم الفرج فقال: يَا آدَمُ هَذِهِ أَمَانَةٌ خَبَّأْتُهَا عِندَكَ فلاَ تَلبِسْها إِلاَّ بِحَقٍ فإن حَفِظْتَهَا حَفِظْتُكَ.
الرابع: أنها الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضًا عليها وأولها ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله، وولده حين أراد التوجه إلى أمر ربه فخان قابيل الأمانة في قتل أخيه هابيل، قاله السدي.
الخامس: أن هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال والخلق من الدلائل على ربوبيته أن يظهرونها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها قاله بعض المتكلمين.
وفي عرض هذه الأمانة ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن عرضها هو الأمر بما يجب من حفظها وعظم المأثم في تضييعها. قاله بعض المتكلمين.
الثاني: الأمانة عورضت بالسموات والأرض والجبال فكانت أثقل منها لتغليظ حكمها فلم تستقل بها وضعفت عن حملها، قاله ابن بحر.
الثالث: أن الله عرض حملها ليكون الدخول فيها بعد العلم بها.
واختلف قائلو هذا على وجهين:
أحدهما: أنها عرضت على السموات والأرض والجبال، قاله ابن عباس، ومجاهد.
الثاني: أنها عرضت على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة قاله الحسن.
{فَأَبَينَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا} يحتمل وجهين:
أحدهما: أَبَينَ أن يحملنها عجزًا وأشفقن منها خوفًا.
الثاني: أبين أن يحملنها حذرًا وأَشْفَقْنَ منها تقصيرًا.
{وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} فيه قولان:
أحدهما: جميع الناس، قاله ثعلب.
الثاني: أنه آدم ثم انتقلت منه إلى ولده، قاله الحسن. روي عن معمر عن الحسن أن الأمانة لما عرضت على السموات والأرض والجبال قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فقالت: لا. قال مجاهد: فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال: وما هي؟ قال: {إن أَحْسَنْتَ آجَرْتُكَ وَإنْ أَسَأْتَ عَذَّبْتُكَ} قال تحملتها يا رب. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها إلى أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر.
{إنَّهُ كَنَ ظَلُومًا جَهُولًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: ظلومًا لنفسه، جهولًا بربه، قاله الحسن.
الثاني: ظلومًا في خطيئته، جهولًا فيما حَمَّلَ ولده من بعده، قاله الضحاك.
الثالث: ظلومًا لحقها، قاله قتادة. جهولًا بعاقبة أمره، قاله ابن جريج.
قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} فيه قولان:
أحدهما: أنه يعذبهم بالشرك والنفاق وهو معنى قول مقاتل.
الثاني: بخيانتهما الأمانة. قال الحسن: هما اللذان ظلماها، واللذان خاناها: المنافق، والمشرك.
{وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي يتجاوز عنه بأداء الأمانة والوفاء بالميثاق.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} لمن تاب من شِرْكه {رَحِيمًا} بالهداية إلى طاعته. والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}.
اختلف الناس في {الأمانة} فقال ابن مسعود هي أمانات المال كالودائع ونحوها، وروي عنه أنه في كل الفرائض وأشدها أمانة المال، وذهبت فرقة، هي الجمهور، إلى أنه كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، فالشرع كله أمانة، قال أبيّ بن كعب من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها، وقال أبو الدرداء غسل الجنابة أمانة، ومعنى الآية: {إنا عرضنا} على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي وتقتضي الثواب إن أحسنت والعقاب إن أساءت فأبت هذه المخلوقات وأشفقت، ويحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة، ويروى أنها قالت رب ذرني مسخرة لما شئت أتيت طائعة فيه ولا تكلني إلى نظري وعملي ولا أريد ثوابًا، وحمل الإنسان الأمانة أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه، وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير، وقال الحسن {حملها} معناه خان فيها والآية في الكافر والمنافق.
قال الفقيه الإمام القاضي: والعصاة على قدرهم، وقال ابن عباس والضحاك وغيره {الإنسان} آدم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة، وروي أن الله تعالى قال له: يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فتحملها أنت بما فيها. قال: وما فيها؟ قال: إن أحسنت أجرت وإن أسأت عوقبت، قال نعم قد حملتها، قال ابن عباس فما بقي له قدر ما بين الأولى إلى العصر حتى عصى ربه، وقال ابن عباس وابن مسعود {الإنسان} ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه وكان قد تحمل الأمانة لأبيه أن يحفظ الأهل بعده، وكان آدم سافر إلى مكة في حديث طويل ذكره الطبري وغيره، وقال بعضهم {الإنسان} النوع كله وهذا حسن مع عموم الأمانة، وقال الزجاج معنى الآية: {إنا عرضنا الأمانة} في نواهينا وأوامرنا على هذه المخلوقات فقمن بأمرنا وأطعن فيما كلفناها وتأبين من حمل المذمة في معصيتنا، وحمل الإنسان المذمة فيما كلفناه من أوامرنا وشرعنا.
قال الفقيه الإمام القاضي: و{الإنسان} على تأويله الكافر والعاصي، وتستقيم هذه الآية مع قوله تعالى: {أتينا طائعين} [فصلت: 11] فعلى التأويل الأول الذي حكيناه عن الجمهور يكون قوله تعالى: {أتينا طائعين} [فصت: 11] إجابة لأمر أمرت به، وتكون هذه الآية إباية وإشفاقًا من أمر عرض عليها وخيرت فيه، وروي أن الله تعالى عرض الأمانة على هذه المخلوقات فأبت، فلما عرضها الله تعالى على آدم قال: أنا أحملها بين أذني وعاتقي، فقال الله تعالى له: إني سأعينك قد جعلت لبصرك حجابًا فأغلقه عما لا يحل لك ولفرجك لباسًا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.
قال الفقيه الإمام القاضي: وفي هذا المعنى أشياء تركتها اختصارًا لعدم صحتها، وقال قوم: إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال رأينا أنها لا تطيقها وأنها لو تكلمت لأبتها وأشفقت فعبر عن هذا المعنى بقوله: {إنا عرضنا} الآية، وهذا كما تقول عرضت الحمل على البعير فأباه وأنت تريد بذلك قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه، وقوله: {ليعذب الله} اللام لام العاقبة لأن الإنسان لم يحمل ليقع العذاب لكن حمل فصار الأمر وآل إلى أن يعذب من نافق ومن أشرك وأن يتوب على من آمن وقرأ الجمهور {ويتوب} بالنصب عطفًا على قوله: {ليعذب} وقرأ الحسن بن أبي الحسن {ويتوبُ} بالرفع على القطع والاستئناف، وباقي الآية بين. اهـ.