فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنا الأمانة} فيها قولان:
أحدهما: أنها الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، إِن أدَّتها أثابها، وإِن ضيَّعَتْها عذَّبها، فكرهتْ ذلك؛ وعرضها على آدم فقَبِلها بما فيها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس؛ وكذلك قال سعيد بن جبير: عُرضت الأمانة على آدم فقيل له: تأخذها بما فيها، إِن أطعتَ غفرتُ لك، وإِن عصيتَ عذَّبتُك، فقال: قَبِلتُ، فما كان إِلاَّ كما بين صلاة العصر إِلى أن غَرَبت الشمس حتى أصاب الذَّنْب.
وممن ذهب إِلى أنها الفرائض قتادة، والضحاك، والجمهور.
والثاني: أنها الأمانة التي يأتمن الناس بعضهم بعضًا عليها.
روى السدي عن أشياخه أن آدم لمَّا أراد الحج قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض، فأبت، وقال للجبال، فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وتجيء وتجد أهلك كما يسرُّك، فلما انطلق آدم، قتل قابيلُ هابيلَ، فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه، فذلك حيث يقول الله عز وجل: {إِنّا عَرَضْنا الأمانة} إِلى قوله: {وحَمَلَها الإِنسانُ} وهو ابن آدم، فما قام بها.
وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن آدم لمّا حضرته الوفاة قال: يا ربِّ، من أستخلف من بعدي؟ فقيل له: اعرض خلافتك على جميع الخلق، فعرضها، فكلٌّ أباها غير ولده.
وللمفسرين في المراد بعَرْض الأمانة على السماوات والأرض قولان:
أحدهما: أن الله تعالى ركَّب العقل في هذه الأعيان، وأفهمهنَّ خطابه، وأنطقهنَّ بالجواب حين عرضها عليهنَّ، ولم يُرد بقوله: {أبَيْنَ} المخالَفَة، ولكنْ أَبَيْنَ للخَشية والمخافة، لأن العَرْض كان تخييرًا لا إِلزامًا، و{أشفقن} بمعنى خِفْنَ منها أن لا يؤدِّينَها فيلحقهنَّ العقاب، هذا قول الأكثرين.
والثاني: أن المراد بالآية: إِنَّا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة، قاله الحسن.
وفي المراد بالإِنسان أربعة أقوال:
أحدها: آدم في قول الجمهور.
والثاني: قابيل في قول السدي.
والثالث: الكافر والمنافق، قاله الحسن.
والرابع: جميع الناس، قاله ثعلب.
قوله تعالى: {إِنَّه كان ظَلومًا جَهولًا} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ظَلومًا لنفسه، غِرًّا بأمر ربِّه، قاله ابن عباس، والضحاك.
والثاني: ظَلومًا لنفسه، جَهولًا بعاقبة أمره، قاله مجاهد.
والثالث: ظَلومًا بمعصية ربِّه، جَهولًا بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب.
وذكر الزجاج في الآية وجهًا يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنَّه موافق للتفسير فقال: إِن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأمّا السماوات والأرض فقالتا: {أتَيْنَا طائعِين} [فصلت: 11]، وأعلَمنا أن من الحجارة ما يَهْبِط من خَشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجُدون لله، فعرَّفنا اللّهُ تعالى أنَّ السماوات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدَّتها، وأداؤها: طاعة الله وترك معصيته، وكلُّ من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كلُّ من أثم فقد احتمل الإِثم، وكذلك قال الحسن: {وحملها الإِنسان} أي: الكافر والمنافق حَمَلاها، أي: خانا ولم يُطيعا؛ فأمّا من أطاع، فلا يقال: كان ظلومًا جهولًا.
قوله تعالى: {ليعذِّب اللّهُ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوبَ اللّهُ على المؤمنين والمؤمنات} قال ابن قتيبة: المعنى: عَرَضْنا ذلك ليظهر نفاقُ المنافق وشِرك المشرك فيعذِّبهم الله، ويظهر إِيمانه المؤمنين فيتوب الله عليهم، أي: يعود عليهم بالرحمة والمغفرة إِن وقع منهم تقصير في الطاعات. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ}.
لما بيّن تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بيّن، أمر بالتزام أوامره.
والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور.
روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله: حدّثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبد الله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يا رب قال إن حملتها أُجِرت وإن ضيّعتها عُذّبت فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها» فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد.
وقد اختلف في تفاصيل بعضها على أقوال؛ فقال ابن مسعود: هي في أمانات الأموال كالودائع وغيرها.
وروي عنه أنها في كل الفرائض، وأشدّها أمانة المال.
وقال أُبَيّ بن كَعْب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها.
وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وأن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها.
وفي حديث مرفوع: «الأمانة الصلاة» إن شئت قلت قد صلّيت وإن شئت قلت لم أصلّ.
وكذلك الصيام وغسل الجنابة.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أوّل ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها، فلا تلبسها إلا بحق.
فإن حفظتها حفظتك، فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال السدّي هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده وأهله، وخيانته إياه في قتل أخيه.
وذلك أن الله تعالى قال له: يا آدم، هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض قال: اللهم لا قال: فإن لي بيتًا بمكة فائته، فقال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة؟ فأبت، وقال للأرض: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للجبال كذلك فأبت.
فقال لقابيل: احفظ ولدي بالأمانة، فقال نعم، تذهب وترجع فتجد ولدك كما يسرك.
فرجع فوجده قد قتل أخاه، فذلك قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} الآية.
وروى معمر عن الحسن أن الأمانة عُرضت على السموات والأرض والجبال، قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنتِ جوزيتِ وإن أسأتِ عوقبتِ.
فقالت لا.
قال مجاهد: فلما خلق الله تعالى آدم عرضها عليه، قال: وما هي؟ قال: إن أحسنت أجرتك وإن أسأتَ عذّبتك.
قال: فقد تحملتها يا رب.
قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها إلى أن أُخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر.
وروى عليّ ابن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال} قال: الأمانة الفرائض، عرضها الله عز وجل على السموات والأرض والجبال، إن أدَّوْها أثابهم، وإن ضيّعوها عذّبهم.
فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله عز وجل ألا يقوموا به.
ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها.
قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير.
وقيل: لما حضرت آدم صلى الله عليه وسلم الوفاة أمر أن يعرض الأمانة على الخلق، فعرضها فلم يقبلها إلا بنوه.
وقيل: هذه الأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السموات والأرض والجبال والخلق، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها؛ قاله بعض المتكلمين.
ومعنى {عَرَضْنَا} أظهرنا، كما تقول: عرضت الجارية على البيع.
والمعنى إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} أي أن يحملن وزرها، كما قال جل وعز: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
{وَحَمَلَهَا الإنسان} قال الحسن: المراد الكافر والمنافق.
{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} لنفسه {جَهُولًا} بربّه.
فيكون على هذا الجوابُ مجازًا، مثل: {واسأل القرية} [يوسف: 82].
وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها، وأشفقت وقالت: لا أبتغي ثوابًا ولا عقابًا، وكلٌّ يقول: هذا أمر لا نطيقه، ونحن لك سامعون ومطيعون فيما أمِرن به وسُخِّرن له، قاله الحسن وغيره.
قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلابد من تقدير الحياة على القول الأخير.
وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام.
والعرض على الإنسان إلزام.
وقال القفّال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مَثَل، أي أن السموات والأرض على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كُلِّفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عَقَل.
وهذا كقوله: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ} [الحشر: 21] ثم قال: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ}.
قال القفال: فإذا تقرّر في أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه.
وقال قوم: إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبرّ عن هذا المعنى بقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة} الآية.
وهذا كما تقول: عرضت الحِمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه.
وقيل: {عَرَضْنَا} بمعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة، ورجحت الأمانة بثقلها عليها.
وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام.
وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذرّيته، وسلّطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش، وعهِد إليه عهدًا أمره فيه ونهاه وحرّم وأحلّ، فقبله ولم يزل عاملًا به.
فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلِمه مَن يستخلف بعده، ويقلده من الأمانة ما تقلده، فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى، فأبَيْن أن يقبلنه شَفقًا من عذاب الله.
ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه.
ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط، ولم يَهَب منه ما تهيبت السموات والأرض والجبال.
{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا} لنفسه {جَهُولًا} بعاقبة ما تقلّد لربه.
قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة! فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى ظاهرها وجدناه بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى باطنه وجدناه بعيدًا مما قال! وذلك أنه ردّد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة، إلا أنه يومِىء في مقالته إلى أنه سلّطه على جميع ما في الأرض، وعهِد الله إليه عهدًا فيه أمره ونهيه وحِلّه وحرامه، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على السموات والأرض والجبال؛ فما تصنع السموات والأرض والجبال بالحلال والحرام؟ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش! وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذرّيته من بعده.
وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال حتى ظهر الإباء منهم، ثم ذكر أن الإنسان حملها، أي من قِبَل نفسه لاَ أنه حمِّل ذلك، فسماه {ظَلُومًا} أي لنفسه، {جَهُولًا} بما فيها.
وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر، فحدّثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السّرِيّ بن إسماعيل عن عامر الشّعبيّ عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: لما خلق الله الأمانة مثّلها صخرة، ثم وضعها حيث شاء، ثم دعا لها السموات والأرض والجبال ليحمِلْنها، وقال لهن: إنّ هذه الأمانة، ولها ثواب وعليها عقاب؛ قالوا: يا ربّ، لا طاقة لنا بها؛ وأقبل الإنسان من قَبْل أن يدعى فقال للسموات والأرض والجبال: ما وقوفكم؟ قالوا: دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقن منها ولم نطقها؛ قال: فحركها بيده وقال: والله لو شئت أن أحملها لحملتها؛ فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازْدَدْتُ؛ قالوا: دونك! فحملها حتى بلغ بها حِقْوَيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازْدَدْتُ؛ قالوا: دونك، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فلما أهوى ليضعها، قالوا: مكانك! إن هذه الأمانة ولها ثواب وعليها عقاب، وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقن منها، وحملتها أنت من غير أن تدعى لها، فهي في عنقك وفي أعناق ذرّيتك إلى يوم القيامة، إنك كنت ظلومًا جهولًا.