فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فيكون الإباء امتناعًا من الخيانة وإتيانًا بالمراد، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما أمرناهن به لقوله تعالى: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وخانها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلومًا جهولًا ولا يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده، نعم إن العوام يقولون: إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا حين الوضع مخاطبين الأرض: هذا أمانة عندك كذا شهرًا أو كذا سنة وحثوا التراب عليه وانصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي المدة التي عينوها وجدوه متغيرًا، وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو مما يستبعده العقل، وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه قال: عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات، ونقله عنه أبو حيان وذكر البيت المار آنفًا لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس نصًا في الخيانة، وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبابائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلومًا جهولًا لما غلب عليه من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب الأمور، قيل وعليه ينتظم قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} مع ما قبله على أنه علته باعتبار حمل العقل عليه بمعنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل: حملناه ذلك لما فيه من القوى المحتاجة لقهره وضبطه، وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم المقصود منه تعديل تلك القوى وكسى سورتها، ومن هنا قيل إنه أقرب للتحقيق، وقيل الأمانة تجلياته عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان كالمذكور آنفًا.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 2 7] تعليل للحمل مشار به إلى قوة استعداده، وقوله سبحانه: {لّيُعَذّبَ} تعليل للعرض على معنى عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية، ويشير إلى هذا قول العلامة الطيبي عليه الرحمة: إن الله تعالى خلق الخلق ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء والعظمة السماوات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل سائر الصفات لعدم استعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لقوة استعداده واقتداره لكونه ظلومًا جهولًا فاختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلي الرحمة وله النصيب الأوفر منها لقوة استعداده واقتداره، وهو مشرب صوفي كما لا يخفى وأنا أختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير لهن في حملها لا الإلزام وأنهن خوطبن في ذلك وعقلن الخطاب والله عز وجل قادر على أن يخلق في كل ذرة من ذرات الكائنات الحياة والعلم كما خلقهما سبحانه في ذوي الألباب بل ذهب الفلاسفة إلى القول بثبوت النفوس والحركة الإرادية للأفلاك بل قال بعضهم نحو ذلك في الكواكب وأثبت الحركة الإرادية ونفي القواسر هناك وأن المراد بالإنسان الجنس وأن قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} في موضع التعليل للحمل.
ووصف الجنس بصيغتي المبالغة لكثرة الأفراد المتصفة بالظلم والجهل منه وإن لم يكونا فيها على وجه المبالغة بل لا يخلو فرد من الأفراد عن الاتصاف بظلم ما وجهل ما، ولا يجب في وصف الجنس بصيغة المبالغة تحقق تلك الصفة في الأفراد كلًا أو بعضًا على وجه المبالغة، نعم إن تحقق ذلك فهو زيادة خير، كما فيما نحن فيه فإن أكثر أفراد الإنسان في غاية الظلم ونهاية الجهل، ولعل المراد بظلوم جهول من شأنه الظلم والجهل وأن قوله تعالى: {لّيُعَذّبَ} الخ متعلق بعرضنا على أنه تعليل له، وفي الكلام التفات لا يخفى، وتقديم التعذيب لأنه أوفق بصفتي الظلم والجهل، وقيل: لأن الأمانة من حكمها اللازم أن خائنها يضمن وليس من حكمها أن حافظها يؤجر، ومقابلة التعذيب بالتوبة دون الإثابة أو الرحمة للإشارة إلى أن في المؤمنين والمؤمنات من يصدر منه ما يصح أن يعذب عليه ومع ذلك لا يعذب، وفيه إشعار بأنه لا يعذب على كل ظلم وجهل وفي هذا من إدخال السرور على المؤمنين والكآبة على أضدادهم ما فيه، وأيضًا أن ذلك أوفق بظاهر قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} وقيل لم يعتبر بالإثابة لأنها علمت من قوله سبحانه: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] فعبر بما ذكر للتنبيه على أن ذلك بمحض الفضل وهو كما ترى، وقيل إن ذاك لأن التذييل متكفل بإفادة رحمتهم وإثابتهم.
وقرأ الحسن كما ذكر صاحب اللوامح {ويتوب} بالرفع على الاستئناف {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} أي مبالغًا في المغفرة والرحمة حيث تاب على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم فرطاتهم وأثابهم بالفوز العظيم على طاعاتهم نسأل الله تعالى أن يتوب علينا ويغفر لنا ويثيبنا بالفوز العظيم إنه جل جلاله وعم نواله غفور رحيم. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}.
قال أبو السعود: لما بين عظم شأن طاعة الله ورسوله، ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم، ومثال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية، وصعوبة أمرها بطريقة التمثيل- مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها، صدر عنهم بعد القبول والالتزام. وعبر عناه ب: الأمانة؛ تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين، وائتمنهم عليها، وأوجب عليهم تلقيا بحسن الطاعة والانقياد. وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها، بالعرض عليهن، لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهنّ لها- وعن عدم استعدادهنّ لقبولها، بالإباء والإشفاق منها، لتهويل أمرها وتربية فخامتها- وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها، بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية، التي أشدها وأعظمها ما فيهن من القوة والشدة.
والمعنى: أن تلك الأمانة في عظم الشأن، بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام، التي هي مثل في القوة والشدة، مراعاتها، وكانت ذات شعور وإدراك، لأبين قبولها وأشفقن منها، ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق، رومًا لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه.
وقوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن} أي: عند عرضها عليه، إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق- أي: تكلفها والتزامها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة- وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطري، أو عن اعترافه بقوله: بلى. وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} اعتراض وسط بين الحمل وغايته، للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله- أي: أنه كان مفرطًا في الظلم، مبالغًا في الجهل؛ أي: بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة، أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلًا، وإلى الفريق الأول أشير بقوله عز وجل: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} أي: حملها الْإِنْسَاْن ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة، على أن اللام للعاقبة؛ فإن التعذيب- وإن لم يكن غرضًا له من الحمل- لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها، أبرز في معرض الغرض- أي: كان عاقبة حمل الْإِنْسَاْن لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة، وخروجهم عن الطاعة بالكلية، وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي: كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده؛ أي: يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة، وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات، قلما يخلو عنها الْإِنْسَاْن بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة، والالتفات إلى الاسم الجليل، أولًا؛ لتهويل الخطب وتربية المهابة، والإظهار في موضع الإضمار، ثانيًا؛ لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} أي: مبالغًا في المغفرة والرحمة، حيث تاب عليهم، وغفر لهم فرطاتهم، وأثاب بالفوز على طاعاتهم. انتهى ملخصًا، مما حرره أبو السعود. وقد آثرت نقله بحروفه؛ لتجويده الكلام، وإجادته في المقام، وهكذا عادتنا في كل مجوّد، أن ننقله ولا نتصرف فيه.
بقي في الآية لطائف نشير إليها:
الأولى- فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين، وبعضهم بمعرفته تعالى. قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال لا تنافيَ بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب. انتهى.
وقيل: المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعة والاختيارية؛ لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء، وبعرضها: استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار، وإرادة صدوره من غيره- وبحملها، والخيانة فيها والامتناع عن أدائها، فيكون الإباء امتناعًا عن الخيانة وإتيانًا بالمراد، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها، أبَيْن الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها، حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادًا وتكوينًا وتسوية، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، وخانها الْإِنْسَاْن حيث لم يأت- وهو حيوان عاقل صالح للتكيف- بما أمرناه به؛ إنه كان ظلومًا جهولًا، وإرادة الخيانة من حملها، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله، كما يقال: ركبته الديون. وقرره الزمخشري بقوله: وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها؛ تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، ويخرج عن عهدتها؛ لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤمنين عليها، وهو حاملها، ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولي عليه حق. فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملًا لها، ومنه قولهم: أبغض حق أخيك؛ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى: {فَأَبْيِنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَاْ} {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَاْن} فأبين إلا أن يؤدينها، وأبى الْإِنْسَاْن إلا أن يكون محتملًا لها لا يؤديها، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركًا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه، وهو أداؤها. انتهى ملخصًا.
الثانية- نقل ابن كثير آثارًا عن بعض التابعين أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقيًا، وأنه قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. فقلن: يا رب! إنا لا نستطيع هذا الأمر، ليس بنا قوة، ولكنا لك مطيعين. قال الشراح: ولا بُعد، أن يخلق الله فيها فهمًا لخطابه، وأنه كان على سبيل التخيير لها؛ ولذا عبر بالعرض، لا تكليفًا حتى يلزم عصيانها. انتهى.
قال الإمام ابن حزم في الفصل في الرد على من جعل للجمادات تمييزًا، ما مثاله: وأما عرضه تعالى الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وإباية كل واحد منها، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك، وهذا نص قوله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51]، فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق، وأن له مبدًا لا يشبهه البتة، فأراد معرفة كيف كان، فقد دخل في قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة، إلا وقد جعل فيها تمييزًا لما عرض عليها، وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها، فلما أبتها وأشفقت منها، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة، وأسقط عنها تكليف الأمانة.
قال: هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل، ولا مزيد عندنا على ذلك. انتهى.
وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز، كما بينه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة وسبقه الزمخشري حيث قال: ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم، ومن ذلك قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟، لقال أسوي العوج. وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات، وتصور مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه. فصور أثر السمن فيه تصويرًا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. انتهى.
الثالثة- قال الرازي: إن قال قائل: لم قدم التعذيب على التوبة- في آخر الآية؟ نقول: لما سمي التكليف أمانة، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة، فكان التعذيب على الخيانة كاللازم، والأجر على الحفظ إحسان، والعدل قبل الإحسان.
الرابعة- ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث:
منها عن أبي هريرة مرفوعًا: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك». رواه أبو داود والترمذي، وعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص مرفوعًا: «أربع، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة». رواه الإمام أحمد والطبراني، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لمن سأل عن الساعة: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة». قال: كيف إضاعتها؟ يا رسول الله! قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة».
الخامسة- قال ابن كثير: روى عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد أن عُمَر بن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة: «من حلف بالأمانة فليس منا»، تفرد به أبو داود. أي: لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته، وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام، كما تقرر في موضعه. والله أعلم.
السادسة- سبق لي أن كتبت في الآية شيئًا، في منتصف ربيع الأول سنة 1324، في قرية ضمّت حفلة من أهل العلم. فسأل بعض الناس عن تفسير الآية، ولم يكن ثمة تفسير فاستعنت بالله تعالى، وقرأت السورة من أولها إلى آخرها مرات ثم كتبت ما تراه.
أردت إثباته هنا تعزيزًا للمقام، ونصه: في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع رد العجز على الصدر ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقص مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب، وهي غزوة الخندق، أَبَان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبني ونحوها، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 16]، فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة، بين الله تعالى في خاتمة السورة، شأن الأمانة، وعظم خطرها، وأنها عند الله بمكان عظيم؛ وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقًا، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به، وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشد أزرها، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب، يتخذ عهود الله هزؤًا ولعبًا، فيخذل من وثق به، ويمالئ العدو عليه ويثبط من يرجى منه نوع معونة، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به، وما أفظع ما أرتكب وما أعظم جريمته!.
وجلي أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها، وما ذكر بعض من آثارها، ففي أي: مرتبة تكون الخيانة؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة. كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار، فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها، وهي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة، وكان من آثارها السيء في المدينة وأهلها ما كان- وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره، والْإِنْسَاْن هنا، المعني به جنس المنافق الذي قص من نبئه ما قص، والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد، ظلمًا لنفسه وجهلًا بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه، وبالعذاب الذي سيلقاه، وبكون هذا الأمر أمرًا ربانيًا وعزيمة إلهية ما هي بالهزل.
والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، هو ظهور خطرها بهذه المكونات، وفظاعة الخيانة فيها، وإشفاق كل من خطر تحملها، وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن، مع أنهن أقوى أجسامًا، وأعظم ثباتًا، وأصبر على طوارئ الحدثان، تخوفًا من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها، وإن الْإِنْسَاْن، مع ضعفه بالنسبة لهن، حملها وما حفظها ولا رعاها، واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه. فما أظلمه وما أجهله! والقصد رميه بالظلم والجهل، وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال، فيا لله ما أطغاه! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان. ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 88- 91]، وحقًا أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل، وخارق من خوارقه في باب البلاغة؛ فإن أسلوبه في إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب، أسلوبٌ انفرد به عن كل كلام. وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن، هل كان بإيداع عقل فيهن أوْ لا؟ وفي تعيين زمانه، وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن، وفي معنى لوم الْإِنْسَاْن، ورميه بالظلم والجهل، بعد ما عرضت عليه، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك- كله فلسفة لفظية، ولّدها عشاق الظواهر والألفاظ، الولعون في الغلو بمفرداتها، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم. فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه- ولن يجدوا إليه سبيلًا ما دام هذا سبيلهم- والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. اهـ.