فصل: فصل في فهم القدرية للثواب على العبادة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهؤلاء: هم أهل المجاهدات والجور على النفوس.
قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك إذ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الأرض فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق.
الصنف الثاني قالوا: أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان واطراح الإهتمام بها وعدم الإكتراث بكل ما هو منها.
ثم هؤلاء قسمان:
فعوامهم: ظنوا أن هذا غاية فشمروا إليه وعملوا عليه ودعوا الناس إليه وقالوا هو أفضل من درجة العلم والعبادة فرأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها.
وخواصهم: رأوا هذا مقصودا لغيره وأن المقصود به عكوف القلب على الله وجمع الهمة عليه وتفريغ القلب لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والإشتغال بمرضاته فرأوا أن أفضل العبادات في الجمعية على الله ودوام ذكره بالقلب واللسان والإشتغال بمراقبته دون كل ما فيه تفريق للقلب وتشتيت له.
ثم هؤلاء قسمان فالعارفون المتبعون منهم: إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم والمنحرفون منهم يقولون المقصود من العبادة جمعية القلب على الله فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفت إليه وربما يقول قائلهم:
يطالب بالأوراد من كان غافلا فكيف بقلب كل أوقاته ورد؟
ثم هولاء أيضا قسمان منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته ومنهم من يقوم بها ويترك السنن والنوافل وتعلم العلم النافع لجمعيته.
وسأل بعض هؤلاء شيخا عارفا فقال إذا أذن المؤذن وأنا في جمعيتي على الله فإن قمت وخرجت تفرقت وإن بقيت على حالي بقيت على جمعيتي فما الأفضل في حقي؟
فقال: إذا أذن المؤذن وأنت تحت العرش فقم وأجب داعي الله ثم عد إلى موضعك وهذا لأن الجمعية على الله حظ الروح والقلب وإجابة الداعي حق الرب ومن آثر حظ روحه على حق ربه فليس من أهل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها: ما كان فيه نفع متعد فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر فرأوا خدمة الفقراء والإشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع أفضل فتصدوا له وعملوا عليه واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» رواه أبو يعلى.
واحتجوا بأن عمل العابد قاصر على نفسه وعمل النفاع متعد إلى الغير وأين أحدهما من الآخر؟
قالوا: ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
قالوا: وقد قال رسول الله لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» وهذا التفضيل إنما هو للنفع المتعدي واحتجوا بقوله: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء» واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير» وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها».
واحتجوا بأن صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذي نسب إليه.
واحتجوا بأن الأنبياء إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعم في معاشهم ومعادهم لم يبعثوا بالخلوات والإنقطاع عن الناس والترهب ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر الذين هموا بالإنقطاع للتعبد وترك مخالطة الناس ورأى هؤلاء التفرق في أمر الله ونفع عباده والإحسان إليهم أفضل من الجمعية عليه بدون ذلك.
الصنف الرابع قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والإشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر الإشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والإستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والإشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده والإشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال: الإشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد لاسيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والإعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والإشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبدالله على وجه واحد وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره فإن رأيت العلماء رأيته معهم وإن رأيت العباد رأيته معهم وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقق ب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حقا القائم بهما صدقا ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أني توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله قد صحب الله بلا خلق وصحب الناس بلا نفس بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين وتخلى عنهم وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها فواها له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه والله المستعان وعيه التكلان.
لا ثم للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة وهم في ذلك أربعة أصناف. الصنف الأول: نفاة الحكم والتعليل الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة وصرف الإرادة فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن تكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد ولا سببا لنجاة وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة كما قالوا في الخلق: إنه لم يخلق ما خلقه لعلة ولا لغاية هي المقصودة به ولا لحكمة تعود إليه منه وليس في المخلوقات أسباب مقتضيات لمسبباتها ولا فيها قوى ولا طبائع فليست النار سببا للإحراق ولا الماء سببا للإرواء والتبريد وإخراج النبات ولا فيه قوة ولا طبيعة تقتضي ذلك وحصول الإحراق والري ليس بهما لكن بإجراء العادة الإقترانية على حصول هذا عند هذا لا بسبب ولا بقوة قامت به وهكذا الأمر عندهم في أمره الشرعي سواء لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا من غير أن يقوم بالمأمور به صفة اقتضت حسنه ولا المنهي عنه صفة اقتضت قبحه.
ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة فاسدة وقد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمى مفتاح دار السعادة ومطلب أهل العلم والإرادة وبينا فساد هذا الأصل من نحو ستين وجها وهو كتاب بديع في معناه وذكرناه أيضا في كتابنا المسمى سفر الهجرتين وطريق السعادتين.
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ولا يتنعمون بها وليست الصلاة قرة أعينهم وليست الأوامر سرور قلوبهم وغذاء أرواحهم وحياتهم ولهذا يسمونها تكاليف أي قد كلفوا بها ولو سمى مدع لمحبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفا وقال إني إنما أفعله بكلفة لم يعده أحد محبا له ولهذا أنكر هؤلاء أو كثير منهم محبة العبد لربه وقالوا إنما يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم الذي يتمتع به لا أنه يحب ذاته فجعلوا المحبة لمخلوقه دونه وحقيقة العبودية هي كمال المحبة فأنكروا حقيقة العبودية ولبها وحقيقة الإلهية كونه مألوها محبوبا بغاية الحب المقرون بغاية الذل والخضوع والإجلال والتعظيم فأنكروا كونه محبوبا وذلك إنكار لإلهيته وشيخ هؤلاء هو الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبدالله القسري في يوم أضحى وقال إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا وإنما كان إنكاره لكونه تعالى محبوبا محبا لم ينكر حاجة إبراهيم إليه التي هي الخلة عند الجهمية التي يشترك فيها جميع الخلائق فكلهم أخلاء لله عندهم.
وقد بينا فساد قولهم هذا وإنكارهم محبة الله من أكثر من ثمانين وجها في كتابنا المسمى قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين وذكرنا فيه وجوب تعلق المحبة بالحبيب الأول من جميع طرق الأدلة النقلية والعقلية والذوقية والفطرية وأنه لا كمال للإنسان بدون ذلك ألبتة كما أنه لا كمال لجسمه إلا بالروح والحياة ولا لعينه إلا بالنور الباصر ولا لأذنه إلا بالسمع وأن الأمر فوق ذلك وأعظم.

.فصل في فهم القدرية للثواب على العبادة:

الصنف الثاني: القدرية النفاة الذين يثبتون نوعا من الحكمة والتعليل ولكن لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه بل يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته. فعندهم: أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم وأنها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير. قالوا ولهذا يجعلها الله تعالى عوضا كقوله: [7: 43]: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله فيما يحكى عن ربه عز وجل: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها» وقوله تعالى: [39: 10]: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
قالوا: وقد سماه الله سبحانه جزاء وأجرا وثوابا لأنه يثوب إلى العامل من عمله أي يرجع إليه منه.
قالوا: ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاءا ولا أجرا ولا ثوابا معنى.
قالوا: ويدل عليه الوزن فلولا تعلق الثواب والعقاب بالأعمال واقتضائها لها وكونها كالأثمان لها لم يكن للوزن معنى وقد قال تعالى: [7: 8 9]: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ}.