فصل: (سورة الأحزاب: آية 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأحزاب: آية 52]:

{لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)}.
لا يَحِلُّ وقرئ بالتذكير، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقى، وإذا جاز بغير فصل في قوله تعالى: {وَقالَ نِسْوَةٌ} كان مع الفصل أجوز مِنْ بَعْدُ من بعد التسع، لأنّ التسع نصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ، فلا يحل له أن يتجاوز النصاب وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجا أخر بكلهنّ أو بعضهن، أراد اللّه لهنّ كرامة وجزاء على ما اخترن ورضين. فقصر النبىّ صلى اللّه عليه وسلم عليهنّ، وهي التسع اللاتي مات عنهن: عائشة بنت أبى بكر. حفصة بنت عمر. أمّ حبيبة بنت أبى سفيان. سودة بنت زمعة. أمّ سلمة بنت أبى أمية. صفية بنت حيي الخيبرية. ميمونة بنت الحرث الهلالية. زينب بنت جحش الأسدية، جويرية بنت الحرث المصطلقية، رضى اللّه عنهن. من في مِنْ أَزْواجٍ لتأكيد النفي، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وقيل معناه: لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص إحلالهنّ لك من الأجناس الأربعه من الأعرابيات والغرائب، أو من الكتابيات، أو من الإماء بالنكاح. وقيل في تحريم التبدل: هو من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك، وأبادلك بامرأتى، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه. ويحكى أنّ عيينة بن حصن دخل على النبىّ صلى اللّه عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: يا عيينة، أين الاستئذان؟ قال: يا رسول اللّه، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت. ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم: هذه عائشة أمّ المؤمنين. قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم: إنّ اللّه قد حرّم ذلك. فلما خرج قالت عائشة رضى اللّه عنها: من هذا يا رسول اللّه؟ قال: أحمق مطاع، وإنه- على ما ترين- لسيد قومه. وعن عائشة رضى اللّه عنها:
ما مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أحل له النساء، يعنى: أنّ الآية قد نسخت، ولا يخلو نسخها إما أن يكون بالسنة، وإما بقوله تعالى إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف وَلَوْ أَعْجَبَكَ في موضع الحال من الفاعل، وهو الضمير في تَبَدَّلَ لا من المفعول الذي هو مِنْ أَزْواجٍ لأنه موغل في التنكير، وتقديره: مفروضا إعجابك بهنّ. وقيل: هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبى طالب، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهنّ، واستثنى ممن حرم عليه: الإماء رَقِيبًا حافظا مهيمنا، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطى حلاله إلى حرامه.

.[سورة الأحزاب: آية 53]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)}.
أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ في معنى الظرف تقديره وقت أن يؤذن لكم. وغَيْرَ ناظِرِينَ حال من لا تَدْخُلُوا وقع الاستثناء على الوقت والحال معا. كأنه قيل: لا تدخلوا بيوت النبي صلى اللّه عليه وسلم إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه. ومعناه:
لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام، إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إياه، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصا، لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي صلى اللّه عليه وسلم إلا أن يؤذن له إذنا خاصا، وهو الإذن إلى الطعام فحسب. وعن ابن أبى عبلة أنه قرأ: غير ناظرين، مجرورا صفة لطعام، وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، كقولك: هند زيد ضاربته هي. وإنى الطعام: إدراكه.
يقال: أنى الطعام إنى، كقولك: قلاه قلى. ومنه قوله بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ بالغ إناه. وقيل إِناهُ:
وقته، أي: غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله. وروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو لم على زينب بتمر وسويق وشاة، وأمر أنسا أن يدعو بالناس، فترادفوا أفواجا يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج إلى أن قال: يا رسول اللّه، دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم وتفرق الناس، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا: فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليخرجوا، فانطلق إلى حجرة عائشة رضى اللّه عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت فقالوا: عليك السلام يا رسول اللّه، كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له، ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شديد الحياء، فتولى، فلما رأوه متوليا خرجوا، فرجع ونزلت: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به. أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت. واستئناسه: تسمعه وتوجسه، وهو مجرور معطوف على ناظرين. وقيل:
هو منصوب على: ولا تدخلوها مستأنسين. لابد في قوله فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من تقدير المضاف، أي: من إخراجكم، بدليل قوله وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ يعنى أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه. ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال، قيل لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم، وهذا أدب أدّب اللّه به الثقلاء. وعن عائشة رضى اللّه عنها: حسبك في الثقلاء أنّ اللّه تعالى لم يحتملهم وقال: فإذا طعمتم فانتشروا. وقرئ:
لا يستحى، بياء واحدة. الضمير في سَأَلْتُمُوهُنَّ لنساء النبي صلى اللّه عليه وسلم، ولم يذكرن لأنّ الحال ناطقة بذكرهن مَتاعًا حاجة فَسْئَلُوهُنَّ المتاع. قيل: إن عمر رضى اللّه عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة، وكان يذكره كثيرا، ويود أن ينزل فيه، وكان يقول: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، وقال: يا رسول اللّه، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت. وروى أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد فقال: لئن احتجبتن، فإن لكن على النساء فضلا، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل، فقالت زينب رضى اللّه عنها: يا ابن الخطاب، إنك لتغار علينا والوحى ينزل في بيوتنا، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى نزلت. وقيل: إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك، فنزلت آية الحجاب.
وذكر أنّ بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب، لئن مات محمد لأتزوجن عائشة. فأعلم اللّه أن ذلك محرم وَما كانَ لَكُمْ وما صح لكم إيذاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده. وسمى نكاحهن بعده عظيما عنده، وهو من أعلام تعظيم اللّه لرسوله وإيجاب حرمته حيا وميتا، وإعلامه بذلك مما طيب به نفسه وسر قلبه واستغزر شكره. فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره. ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده. وعن بعض الفتيان أنه كانت له جارية لا يرى الدنيا بها شغفا واستهتارا، فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب، فلم يزل به ذلك حتى قتلها، تصورا لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غيره. وعن بعض الفقهاء أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجرى مجرى العقوبة، فصين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما يلاحظ ذلك.

.[سورة الأحزاب: آية 54]:

{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)}.
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا من نكاحهن على ألسنتكم أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ يعلم ذلك فيعاقبكم به، وإنما جاء به على أثر ذلك عاما لكل باد وخاف، ليدخل تحته نكاحهن وغيره ولأنه على هذه الطريقة أهول وأجزل.

.[سورة الأحزاب: آية 55]:

{لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)}.
روى أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول اللّه، أو نحن أيضا نكلمهن من وراء الحجاب، فنزلت لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ أي لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال، لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد جاءت تسمية العم أبا.
قال اللّه تعالى: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وإسماعيل عم يعقوب. وقيل. كره ترك الاحتجاب عنهما لأنهما يصفانها لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم، ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وفي هذا النقل ما يدل على فضل تشديد. فقيل وَاتَّقِينَ اللَّهَ فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحى من الاستتار، واحططن فيه وفيما استثنى منه ما قدرتن. واحفظن حدودهما واسلكن طريق التقوى في حفظهما، وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأنتن غير محجبات، ليفضل سركن علنكن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من السر والعلن وظاهر الحجاب وباطنه شَهِيدًا لا يتفاوت في علمه الأحوال.

.[سورة الأحزاب: آية 56]:

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)}.
قرئ: وملائكته بالرفع، عطفا على محل إن واسمها، وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، ووجهه عند البصريين. أن يحذف الخبر لدلالة يصلون عليه صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا أي قولوا الصلاة على الرسول والسلام. ومعناه: الدعاء بأن يترحم عليه اللّه ويسلم. فإن قلت: الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت: بل واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها. فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره. وفي الحديث: «من ذكرت عنده فلم يصل علىّ فدخل النار فأبعده اللّه» ويروى أنه قيل: يا رسول اللّه، أرأيت قول اللّه تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فقال صلى اللّه عليه وسلم: «هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتمونى عنه ما أخبرتكم به، إنّ اللّه وكل بى ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: غفر اللّه لك، وقال اللّه تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلى علىّ إلا قال ذانك الملكان: لا غفر اللّه لك، وقال اللّه وملائكته لذينك الملكين: آمين» ومنهم من قال: تجب في كل مجلس مرة، وإن تكرر ذكره، كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والذي يقتضيه الاحتياط. الصلاة عليه عند كل ذكر، لما ورد من الأخبار. فإن قلت: فالصلاة عليه في الصلاة، أهى شرط في جوازها أم لا؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطا. وعن إبراهيم النخعي: كانوا يكتفون عن ذلك- يعنى الصحابة- بالتشهد، وهو السلام عليك أيها النبي، وأما الشافعي رحمه اللّه فقد جعلها شرطا. فإن قلت: فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت: القياس جواز الصلاة على كل مؤمن، لقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وقوله تعالى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وقوله صلى اللّه عليه وسلم: «اللهم صل على آل أبى أوفى» ولكن للعلماء تفصيلا في ذلك: وهو أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك: صلى اللّه على النبي وآله، فلا كلام فيها. وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو، فمكروه، لأن ذلك صار شعارا لذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولأنه يؤدى إلى الاتهام بالرفض. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم.

.[سورة الأحزاب: الآيات 57- 58]:

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}.
يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيه وجهان، أحدهما: أن يعبر بإيذائهما عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه:
من الكفر والمعاصي، وإنكار النبوّة، ومخالفة الشريعة، وما كانوا يصيبون به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أنواع المكروه، على سبيل المجاز. وإنما جعلته مجازا فيهما جميعا. وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة. والثاني: أن يراد يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقيل في أذى اللّه: هو قول اليهود والنصارى والمشركين: يد اللّه مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن اللّه والملائكة بنات اللّه والأصنام شركاؤه. وقيل: قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما حكى عن ربه: «شتمني ابن آدم ولم ينبغ له أن يشتمني، وآذاني ولم ينبغ له أن يؤذيني. فأما شتمه إياى فقوله: إنى اتخذت ولدا. وأما أذاه فقوله: إن اللّه لا يعيدني بعد أن بدأنى» وعن عكرمة: فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق اللّه، وقيل في أذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قولهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون. وقيل: كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي، وأطلق إيذاء اللّه ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن أذى اللّه ورسوله لا يكون إلا غير حق أبدا.
وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه. ومعنى بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بغير جناية واستحقاق للأذى. وقيل: نزلت في ناس من المنافقين يؤذون عليا رضى اللّه عنه ويسمعونه. وقيل: في الذين أفكوا على عائشة رضى اللّه عنها. وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهنّ كارهات.
وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذى كلبا أو خنزيرا بغير حق، فكيف وكان ابن عون لا يكرى الحوانيت إلا من أهل الذمّة، لما فيه من الروعة عند كرّ الحول.

.[سورة الأحزاب: آية 59]:

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)}.
الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل.
وقيل: الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره. قال أبو زبيد:
مجلبب من سواد اللّيل جلبابا

ومعنى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ يرخينها عليهنّ ويغطين بها وجوههنّ وأعطافهنّ}. يقال: إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدنى ثوبك على وجهك، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهنّ في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضى حوائجهنّ في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرّضوا للحرّه بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زى الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرءوس والوجوه، ليحتشمن ويهين فلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أي أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرّض لهن ولا يلقين ما يكرهن. فإن قلت: ما معنى مِنْ في مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ؟ قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين، أحدهما: أن يتجلببن ببعض مالهنّ من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار، كالأمة والماهنة ولها جلبابان فصاعدا في بيتها.
والثاني: أن ترخى المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة. وعن ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب ثم تديره حتى تضعه على أنفها. وعن السدى: أن تغطى إحدى عينيها وجبهتها، والشق الآخر إلا العين.
وعن الكسائي: يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهنّ، أراد بالانضمام معنى الإدناء وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا لما سلف منهن من التفريط مع التوبة، لأن هذا مما يمكن معرفته بالعقل.